الصدفة وحدها وضعتنا أمام هذا الكنز،، هذا المعلم،، هذا الشاهد والموقّع على دفاتر الزمن،، وعلى أوراق السنين ومطاوي الأيام.. هو الوقار المتجسد، يهرب بك مظهره وقسمات وجهه الى ما وراء الزمن.. الى متاهات عصور الفخر، والمحن، بإختزال شديد هو منارة بل شغلة مضيئة ومبددة لظلام البيد ووحشة الصحاري... سليل »ورغمّة« وعارفها ومعروفها... لدعائه ودعواته تقشعر الاجساد.. لم توقعه العاديات وقساوات القدر، بل زادته المحن صلابة وإيمانا،، ولم تفل فيه الضربات الموجعة ولا في عزمه ولا في إيمانه فشيخنا زايد غلب رصاص المستعمر الذي أصاب منه »الجِمْعِيّة والذْرَاعْ« في واقعة القصة الشهيرة في عشرينات القرن الماضي (الآثار مازالت واضحة) وغلب الخصاصة والفقر والحرمان التي ولّدها الإستعمار الغاشم على حدّ قوله لكنه مازال يغالب ولم يغلب الحزن على »بشير« ولده البكر الذي اختطفته يدُ المنون في عزّ شبابه كما ما يزال يغالبه الحزب على صدام وبغداد بل يبكيهما إلى اليوم... الشيخ زايد ألجمنا على القول أكثر لأنّه باختصار شديد ورقة من شجرة التاريخ الوطني، بل قلْ فين منها استضلينا به للحظات جميلة كان أولها عطْر كرم وآخرها دعوات اقشعرّ لها البدن وسالت الدمعة... وتلك حكاية أخرى... وبين هذه وتلك كانت الرّحلة الجميلة بين ثنايا الزمن ومحطات العمر، ومن البديهي أن كان السؤال الأوّل المألوف عند أهلنا في الجنوب؟ ❊ شنْه حالك عمي زايد؟ باهي... لا بأس.. الحمد لله رب العالمين وأنتم كيفنكُم شنه حالكم؟ ❊ الحمد للّه نسأل عن أخبارك وافاداتك ونرجو دعواتك؟ أولا أدعو لكم بصلاح الحال والتوفيق من ربّ العالمين، وعن حالي كما ترون فقد أتعبتني الجولة في السوق »وعطّلني« الحلاق قليلا. ❊ هل أنت مواضب على هذه الجولة؟ طبعا وماذا عندي ما أفعل غير ذلك... ما دامت صحتي تسمح لي بذلك.. فأنا مواضب على ارتياد الجامع في كل الصلوات رغم بعده النسبي عن بيتي، ومواضب أيضا على التجوال في المواقع القريبة على غرار السوق وبعض المحلات الخدمية... ❊ هذه الصحّة تبدو بخير الفضل للّه.. ولكن العينين »تعبو« والسمع »شوي« ❊ هل عدت الطبيب؟ ما عنديش »كرني« وقد طالبت به ولكن الى الآن رغم وعود الدولة التي »زارني« رجالها ومنهم السيّد المعتمد بارك اللّه فيه... ❊ ولماذا لم يسند لك هذا »الكرني«؟ ما ندْري.. رغم أني محتاجه على الأقل »على خاطر العزوز« فحالتها تاعبة جدّا بالنظر الى سنّها (أكثر من ثمانين) حيث كثرت أمراضها.. أمّا عنّي أنا فالعيون مصدر قلقي والباقي لا باس. ❊ وماذا عن سنّك أنت؟ فوق المائة.. ❊ ماشاء اللّه، وهل تعرف بالضبط؟ ما هو ثابت عندي حسب حديث والدي أنّي ولدت في خريف 1907 وهو التاريخ المرسم في سجلات الحالة المدنيّة.. ❊ هل هناك سرّ في محافظتك على هذه اللياقة الجسدية الطيبة؟ هي ليست حجَاية أو سرّ كما قلت أنت، كلّ ما في الأمر وبعد ارادة المولى سبحانه وتعالى أن جيلنا كان يعتمد نظاما غذائيا... حيث كانت وجباتنا الرئيسية هي الزميطة والملثوث والعيش مع بعض اللبن. ❊ والآن هل مازالت هذه الأكلات تنفع؟ ان كان على النفع فنفعها لا ينتهي متى وجدت.. ولكن المشكل فيمن يعدها بعد انقراض الجيل المتعود عليها.. وعنّي أنا فأقول لك الجودْ من الموجود.. وخير طعام في كل الازمان ما حضرْ. ❊ كم عدد أفراد عائلتك الآن؟ بين الاربعين والخمسين فأنا عندي ولدان وثلاث بنات والبعض منهم صاروا أجدادا... ❊ بعد هذا العمر المديد، هل تذكر بعض المحطات الهامة في التاريخ؟ برشة... منذ أن كانت بن ڤردان هذه »أرض بيضاء« تشقها المسارب والمسالك الصحراويّة.. وذلك حتى ما بعد دخول فرنسا وانشاء الطريق الموجودة الآن... ❊ هل كانت لك مع فرنسا حكايات؟ (يتنهّد) يا ولدي هي ليست حكايات بل معاناة حدّ الخرافة انظر هذا الجرح الغائر انه رصاص العسكر الفرنسي في معركة القصبة الشهيرة.. و»زيد« شوف هذا الجرح بل آثار هذا الجرح في الجمجمة في معركة سجن الكاف... ❊ هل تملك بعض الشهائد أو الوثائق التي تفيد دقّة هذه المعلومات؟ كانت عندي... ❊ وأين هي الآن..؟ لو بقيت عندي لما وجدتني على قيد الحياة.. لقد تخلصت منها وبقية الصّحْبِ وردمْناها في الصحراء عند هروبنا من جرجيس لأنّه لو مسكونا وبحوزتنا وثائق الجندية أيامها لاعدمونا فورا.. و»زيدك زيادة« فهذه الآثار التي تراها على جسدي أصدق قولا وحديثا.. ❊ كم تواصل صراعكم مع »فرنسا«؟ الى الاستقلال وأذكر يومها غرّة جوان 55 منّا منْ ذهب الى حلق الوادي لاستقبال الزعيم بورقيبة وأنا ممّن بقوا هنا لإقامة الأفراح وأذكرأن »عْبِيد غبنْطُنْ«... شعلّوا الدنيا يومها فرحا.. وهي ذات المشاهد وأكثر التي عشناها في 20 مارس 1956... ❊ ماذا تذكر عن هذا اليوم بالذات؟ كان يوما كبيرا حيث تواصلت الافراح واجتمع ابناء النجوع في كل أطراف الصحراء المتاخمة لبن قردان وعرضت قصاع »العيشْ« للسبيل وكما قلت لك منذ حين عمل »عبيد غبنطن« على رسم لوحات عديدة وعلى امتداد أيام... ❊ من قابلت من الشخصيات في حياتك؟ وجوه عديدة وشخصيات كثرة يبقى أهمها الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كرمني بالدعوة لحضور زواجه الأوّل ويومها قبلت منه اليد والجبين.. وكذلك الزعيم فرحات حشاد الذي صافحته بعد الهروب من السجن إثر معركة القصبة التي أصبت فيها. ❊ هل تتابع أخبار »دنيا اليوم«؟ منذ 1991 لم أعد أعير أخبار العالم الذي يحكمه وقتها بوش الكبير (يقصد بوش الأب) حيث »تْحامو« في العراق ثلاثين دولة وفي هذه السنين الأخيرة قاطعت التلفزة تماما بعد سقوط بغداد ثم إعدام صدّام.. من يومها لا أذكر أنّي »تفرجت« في التلفزة.. ❊ أراك متأثرا بهذه الاحداث القوميّة؟ وهو كذلك ولتعلم يا ولدي أني ما ذرفت دمعا في حياتي إلا في ثلاث مناسبات كانت الأولى دموع فرح بالاستقلال ثم دموع حزن على فراق ولدي البكر بشير رحمة اللّه عليه وآخر دمعة كانت على بغداد وصدام... ❊ قلت أنّك بكيت فرحا بالإستقلال فكيف ترى تونس اليوم بعد أكثر من نصف قرن تحت راية الحريّة؟ قبل إجابتك أفيدك أن لا خوف ولا طمع إلا من ربّ العالمين »فالبلاد« اليوم تعيش أيامها »الزينة« والخير في كل »بيتْ« والبركة في الرجال فبعد الزعيم بورقيبة وهبنا ربّي الخليفة الصّالح بن علي (ويقصد سيادة رئيس الجمهورية) الذي أشهد أن بمقدمه زاد الخير على عموم البلاد وما »بْلادي« أي بن قدران إلا شاهد على ذلك وليحفظ اللّه الزين الذي يشهد اللّه أني أدعو له كما أولادي... ❊ أَني بنروح »كيفْ نتْوادع«؟ آه يا ولدي لو عاد الزمن لكانت ضيافتك بغزال (شهود أكدّوا لنا أنّ الحاج الحرابي كان من أكبر قناصي الغزال في كل إقليم الجنوب حيث لم يطح أحد قبله أو بعده بعشرة غزلان من القطيع الواحد) ولكن هات يديك ويدي مرافقك... (لينخرط في دعاء اقشعرت له الأبدان وأسال دموع الكثير من الحضور...)