كان القائد نورالدين بن جميع يؤمن أنّ استراتيجيّة الكفاح الوطني ضدّ المستعمر ينبغي أن تنطلق عبر التنظيم الكشفي لذلك فقد شارك ضمن عصابة فدائيّة فاعلة رؤوسها رضا بن عمّار وحمادي غرس وصالح بودربالة وعبد الحميد بن القاضي وناصر فارح والناصر باي والقائد الذي أوصى صالحا ألاّ يعلم الحزب بمجموعتهم لأنّ الدستوريين معروفون لدى البوليس الفرنسي ومراقبون. واعتقل بن جميع يوم 12 ماي 1953 وبعد بحثه زجّ به في السجن المدني بجناح »B« يوم 5 جوان 1953 ، فوجد به رفاقا منهم رضا بن عمّار وحامد الزغل ومصطفى الورتاني في وقت كان فيه المرحوم عزوز الرباعي مسؤولا عن المساجين المقاومين مدعوما من القيادة الحزبيّة... إلاّ أنّه لم يكن يحظى بثقة مجموعة كانت ترغب في استبداله. وفي تلك الأثناء قام أحد الحرّاس الفرنسيين بمضايقة المناضلة السّجينة شاذليّة بوزقرو ورفيقتها ومعاكستهنّ ومحاولة النيل منهنّ وقد شكت شاذلية بوزقرو الى إدارة السجن لكنّها لم تجد آذانا صاغية فأضربت مع مجموعتها اضراب جوع فكانت هذه الحادثة فرصة سانحة لتضامن المقاومين معها وإعلانهم العصيان وتحركوا... فتقررت نقلتهم الى زندالة باردو عقابا لهم وتأديبا، وكانوا سبعة أنفار منهم رضا بن عمّار وحمادي غرس والشهيد المرحوم الطاهر المكّاوي ونورالدين بن جميع الذي تمّ انتخابه مسؤولا عن مساجين غرفته بالسجن المدني بتونس. وكانت نقلتهم في أواخر جوان 1953 وزجّ بهم في جناح »C« ففرح المساجين هناك بقدومهم لأنّهم كانوا قد شرعوا في إعداد خطّة للهروب بمبادرة من المناضل حمدة جنيح، غير أنّ مجموعة باردو (وهم من السّاحل والجنوب والشمال) ولأنّ المسؤول عنهم بالزندالة المرحوم محمود بن ڤارڤة منعهم من انجاز عمليّة الهروب خوفا عليهم من أخطار العمليّة والسعي إليها. وهكذا تحمّل القائد ورفاقه مسؤوليّة دراسة الخطّة وإحكامها وخاصة لتحمّس المناضل المرحوم رضا بن عمّار للخطة وتبنيه لها. وشرعوا في الحفر لإحداث ثغرة بالجدار السميك وكانوا مجموعتين أحداهما من الساحل وعلى رأسها حمدة جنيح والثانية من قابس من بينهم الكشّاف ساسي عڤل واستمرّ الحفر ليلا مدّة تقارب الشهرين إذ كانوا يهشمون الملاط المحيط بالحجارة من جميع جوانبها مستعملين في ذلك أدوات بسيطة كأطراف الملاعق أو قطيعات حديد من نوع الشيركو وكلّما تحرّرت حجارة من ملاطها أخرجوها ثمّ أعادوها مكانها وأعادوا كساء الجدار بالمدر ورماد الملاط والماء وطلوه بسواد القدور ووضعوا فوقها صور مثيرة من مجلاّت خليعة إمعانا في مغالطة الحراس وكان ذلك يتكرّر كلّ ليلة. وفي هذه الاثناء وبعد أن عاود الأمل مساجين الزندالة في الهروب إذ بالمرحوم عزوز الرباعي يقدّم إليهم برخصة من مدير السجون الفرنسي »Moro« ليلقي فيهم كلمة يحذّرهم فيها من مغبّة الهروب وممّا قاله: »الدستوري شجاع لا يهرب ويظلّ صابرا إلى أن يموت...« فزاد حنق نزلاء الزندالة عليه وشتموه بل ورغب رضا بن عمّار في الهجوم عليه فهدّأ حمادي غرس من روعه وأقنعه بأنّ ذلك سيتسبب في انطلاق ابحاث وعقوبات تؤدي مباشرة إلى إفشال خطّة الهروب التي كانت في مرحلتها النهائيّة. وما كان من السّلط الإستعماريّة التي علمت أنّ هناك نيّة للهروب إلاّ أن عزّزت الحراسة وضيّقت الخناق على سجناء الزندالة ولكنّ هؤلاء صمّموا أن يواجهوا شراسة المستعمر وأن يحكموا خطّة الفرار ويواصلوا عمليّات الحفر السريّة ليلا وعاد رفاق القائد بن جميع يراقبون العمليّة كلّ يوم ويضعون ستائر من الأغطية القطنيّة يسمح لهم بوضعها اتّقاء لرطوبة السّجن. واستدعى القائد سجينا صغيرا من سكّان باردو ليشخّص له الزندالة فأخبره أنّ هناك جدارا عاليا آخر يحيط بعنابر السّجن فإذا تسلّقوه أشرفوا على »كوشة« وشجرة »كالاتوس« ضخمة إضافة إلى وجود بناية المشنقة بين السّجن والجدار. ولما تحدّدت هذه المعطيات أعدّ القائد ورفاقه الخطّة كاملة واتفق المساجين على المجموعة المترشّحة للهروب وضبط دور خروجها واحدا بعد آخر وانتقل عدد منهم من العنابر العديدة إلى العنبر »C« معوّضين المساجين الرافضين للهروب وأوصى القائد رضا بن عمّار وحمادي غرس وبقيّة المساجين المترشحين للهروب أن تصل القفاف من عائلاتهم محمّلة بخفاف سبادريات وثياب خفيفة وسكر ونقود. ولما لم يبق من الثغرة إلاّ جانب قليل أقاموا حفلا تمثيليا وغنائيا وشرعوا يمثلون روايات كشفيّة يرفعون فيها أصواتهم بالأناشيد بينما كان الآخرون يقرعون الجدار لتتهشّ بقيّته وكان المناضل العروسي بن إبراهيم يضرب على الطّبل. وكان نورالدين بن جميع صباح ذلك اليوم قد قدّم خبزة حلويات هديّة الى مدير السجن لإيهامه أنّه يوم احتفال فرفضها وقبلتها زوجته. ولما انتهت الحفلة مساء قسّم الإخوان الى مجموعات ولكلّ واحدة رئيس ولبس الجميع زيّا خفيفا ووزعت عليهم الأموال بالسويّة بعد جمعها وفي ذلك تحقيق لمبدإ تكافؤ الفرص وعدم حرمان المعدمين من المال الضروري في مثل هذه الحال. وعندما انفتحت الثغرة نفق الحريّة سمعوا الجرس يرنّ فظنّوا الصباح قد طلع عليهم فكادت قلوبهم تنخلع من الهلع وقد حدث ذلك خطئا... وخرج من نفق الحريّة الضيّق حمدة جنيّح أولا ثم رضا بن عمار ثم حمادي غرس وكان من المخطّط أن يخرج نورالدين بن جميع بعدهم إلاّ أنّ نورالدين بن يطّوا استعجل الخروج قبله فدفعه بن جميع برجله لضخامة بدنه حتّى خرج وتبعه القائد وواصل الباقون الخروج حسب ترتيب أعدّ سلفا، وعندما خرجوا وجدوا أنفسهم أمام بناية المشنقة التي يزيد ارتفاعها عن ثلاثة أمتار وكانت قريبة من السّور فتسلّقوها وتمكّنوا من تسلّق الجدار الخارجي ويبدو أنّ به ثغرات وبعض الأوتاد الناتئة وكلّما وصل أحد الفارين الى أعلى السّور انبطح وزحف على بطنه حتّى لا يراه الحرّاس الجنود المنتصبون فوق سطح عنابر السّجن... ماذا كان وراء السّور؟ هل كانت فعلا هناك دوحة »كالاتوس« أم كانت داليّة عنب أم أكداس من فضلات البناء وخردة الحديد؟ كان السجناء وهم ينجزون عمليّة الفرار البطوليّة في حال من الهلع والاضطراب وكلّ يذكر ما لا يذكره الآخرون فنور الدين بن جميع قد ألقى بنفسه على داليّة عنب وحمادي غرس ألقى بنفسه على كوم عال من بقايا الخردة وكذلك رضا بن عمّار والمهمّ أنّ ستّة وأربعين سجينا قد تمكّنوا من الفرار. ولكن عندما خرج الشهيد محمد برماقي من نفق الحريّة تفطّن إليه الحارس المسلّح فأطلق عليه الرّصاص من غير إنذار حتّى أرداه قتيلا وهو ما يزال داخل باحة السجن وما ذلك إلاّ مثال واحد من وحشيّة المستعمر وحقده... وهكذا تفرّق الفارون وسار القائد بن جميع منفردا فلحق به سعيد كعبورة وقد اختفى بشعبة الدويرات عند المناضل سالم عازق. أمّا المناضلون المرحوم رضا بن عمّار والإخوان حمّادي غرس نورالدين بن يطّو والبشير خوشتال والشهيد الطاهر المكّاوي (الذي استشهد في معركة بنزرت) فقد نقلهم مختار بلعيد إلى الساحل بعد أن قضوا ليلتهم الأولى في جبل سيدي بلحسن والثانية بحمام الأنف ومن الغد استقلّوا القطار من محطّة برج السدرية ونزلوا في محطّة سيدي بوعلي ومن ذلك المكان أخذوا طريقهم الى القيروان مخترقين منطقة الوديان (بين سيدي بوعلي والقيروان منها واد الشراعف وواد بودن والواد الغارق) لانضمامهم الى فيلق المجاهدين يقوده حسن بن عبد العزيز الذي رفض قبولهم مدّعيا أنّّه لا يستطيع استخدامهم لجهلهم المنطقة وطلب منهم بإلحاح مغادرة الساحل عن طريق الطيّب الأحمر كما رفض إعانتهم للوصول الى فيلق الأزهر الشرايطي فعادوا الى تونس فاختفى المرحوم رضا بن عمّار مدة الى أن عاونه في الهروب الى طرابلس حمادي البوسطانجي وإبراهيم الدراوي. أمّا المناضل حمادي غرس فقد التحق بالمناضل نورالدين بن جميع وفرا الى طرابلس ورافقهم أحمد الأزرق بعد أن اختفى حمادي غرس في المرسى عند المرحوم الناصر باي. أمّا المرحوم نوالدين بن يطّو فقد بقي مختفيا في باب منارة وأمّا المناضلان مختار بلعيد والبشير خوشتال فقد قبضت عليهما الشرطة بعد أن قضيا أيّاما في الساحل. ومن جهته قام صالح بودربالة بالتمثيل على قاضي التحقيق متظاهرا بانهيار عصبي أثناء بحثه بإتفاق مع الاستاذ عمّار الدخلاوي، ولذلك عرض على طبيب فرنسي بالمستشفى العسكري ب»فيريفيل« (منزل بورقيبة) نظرا لعدم وجود طبيب أعصاب عسكري بتونس وقابل الطبيب مرتين فعرف أنّ صحّته جيّدة لكنّّ لم يبلغ عنه لسببين: أوّلا لمشاعره الإنسانيّة وثانيا لتدخّل الدكتور عزالدين العنّابي الذي كان صديقا له فأعدّ صالح بودربالة خطّة للهروب فعاين المكان وكسب ثقة الممرض التونسي وقام المناضل عمّار الدخلاوي بتقديم الهدايا من مال وسجائر الى الحرّاس العسكريين بالمستشفى فخففوا عنه المراقبة... وتظاهر لأحد الحراس بأنّّه في المرحاض وقفز من جدار المستشفى حوالي السادسة صباحا وامتطى سيّارة أجرة الى العاصمة ثمّ اتّجه فور وصوله إلى دكّان حمادي البوسطانجي بالبركة فوجده مقفلا فاتّجه إثرها الى دكّان التارزي (الخيّاط صالح بنّور) قرب بطحاء سيدي علي عزوز في الخربة ومن هناك اتّصل به الإخوان حمادي البوسطانجي وإبراهيم الدراوي والمنجي المانع (علما بأنّ المناضل النوري البودالي كان مكلّفا بتهريب المناضلين الى ليبيا) ثمّ سلّموه الى مناضل أصيل جربة فأخفاه بدكّانه بمرناق قرب دار الباي حيث مكث عنده عدّة أيام... ثمّ عاد الى تونس ونزل بدكّان آخر بنهج سيدي بومنديل ومنه امتطى سيّارة متنكرا في زيّ إمرأة بلباس جربي صحبة مواطن أصيل جربة... وتوجّها إلى الجرف بالجنوب التونسي ومكث صالح بودربالة هناك عند مصباح شلّوف بدار له بالغابة. وبعدها تنكّر صالح في زيّ أهالي الجنوب ورافقه دليل إلى بنقردان وكانا يسيران ليلا ويلتجئان نهارا إلى بعض الأكواخ وبعد يومين وصلا أولاد شندول حيث مكثا 12 يوما ثمّ وجّهوه الى الحدود الليبيّة على ظهر جمل ومن هناك امتطى شاحنة ليبية نقلته الى زوارة حيث قدّم نفسه الى الشرطة كلاجئ سياسي ثمّ اتّصل بمكتب الحزب بطرابلس هاتفيّا وبعد ساعة حلّ الهادي الورتاني ورضا بن عمّار ومحمد النايلي على متن سيّارة. وتوّجه الجميع الى طرابلس وبعد أيام فرّ الدكتور محمد بن صالح من مستشفى شارل نيكول بنفس الطريقة