تطرح دراسة الوضع الحالي للعمّال في العالم العربي العديد من الإشكاليات حول طبيعة تعريف هذه الفئة، وذلك بالنظر إلى صرامة مقاييس علم الإجتماع، ثم حول مدى شرعيّة القول بتجانس الفضاء العربي على هذا المستوى. وهنا لا يفوتنا التأكيد على قتامة الوضع العام للعمّال في العالم العربي، إذ هو وضع يتميز بغياب الهياكل التنظيميّة المستقلة القادرة على الدفاع عن مصالح هذه الشريحة الإجتماعيّة. في هذا السياق لابدّ من التشديد على إختلاف أوضاع كل حالة عربية إذ إن هناك دولا لا يوجد فيها تمثيل نقابي أصلا أو أن التمثيل يتم عبر أجهزة تابعة للدولة، وهذا حال أغلب بلدان الخليج وكذلك سوريا وليبيا، وتستثني البحرين من هذه المجموعة بحكم حداثة تجربتها النقابيّة التي تسير نحو نوع من الاستقلاليّة التنظيمية. في المقابل نجد بلدانا أخرى تشهد تجربة نقابيّة مستقلة نوعا ما، وهو حال الجزائر ولبنان وتونس والمغرب ومصر، أي بلدانا عرفت بقدم تجربتها النقابية والنضاليّة لكن الوضع العام للتنظيم النقابي في العالم العربي يبقى يراوح بين الغياب التام والمعركة المحتشمة من أجل الإستقلاليّة. ومعاناة المواطن في العالم العربي مع العمل تبدأ حتى قبل انخراطه الفعلي داخل المؤسسة، لأنّ غياب ثقافة الحقوق، في ظلّ أنظمة لا تربطها مع مجتمعاتها سوى علاقة الإكراه، تجعل من العمل والوظيفة والحصول على مورد للرزق امتيازا تتكرم به السلطة القائمة على الأفراد. وهذه هي البيئة المثلى لانتشار المحسوبيّة والطرد التعسفي من العمل. فالمهم العمل وضمان لقمة العيش، وهذا هو المواطن المثالي الذي تريده الأنظمة، مواطن يتحدّد مصيره من خلال معدته لا من خلال أفكاره، لابد من التوقف عند حالة العمالة المغتربة في العالم العربي لما يتميز به وضعها من قساوة تتجاوز بكثير وضع العمّال المحليين، وتتكوّن هذه الفئة من صنفين، يشمل الأوّل الهجرة العربية العربية في حين تشمل الثانية العمالة غير العربية. بالنسبة للعمالة العربية المغتربة داخل البيت العربي نميز كذلك بين الهجرة المنظمة، أي الهجرة للبحث عن عمل، ثم الهجرة القسرية، مثل حالة العمّال الفلسطينيين والصوماليين ومؤخرا العمّال العراقيين. وهذا الاختلاف من حيث التسميات لا يغير كثيرا في الحقيقة من وضع العامل العربي المغترب مهما كان سبب اغترابه. إنّ المتتبع للخطاب الإعلامي العربي الرسمي في مخاطبته للأفراد يلاحظ أنّ المفردة التي تعود باستمرار هي كلمة المواطن، أو المواطنون أكثر من كلمة العمال. وهذا حسب اعتقادي مرتبط بطبيعة السياسة الإعلامية التي تتوخاها الأنظمة لضمان خطاب متجانس مع طبيعتها الإقصائيّة، فكلمة مواطن تحيل على مفهوم الوطن، أيّ تلك القيمة العليا الشموليّة التي يلتف حولها الأفراد بشكل يلغي أيّ تمايز قادر على حمل بذور الاختلاف ويؤدي بالتالي الى الفتنة والفوضى وإلى تهديد الوضع القائم على التجانس. أما كلمة عامل فتحيل على سجل الاختلاف الإجتماعي الطبقي في ظل بيئة تقدم نفسها في صورة فردوس من الانسجام والتجانس الإجتماعي والثقافي، فالمعطى الطبقي يشكل ضمنا تهديدا لمسار البناء الوطني المتواصل والضامن لشرعيّة ديمومة الفئة القائمة على هذا البناء (الحزب والعائلة والفرد)، والعمل بدوره أفرغ من محتواه السياسي والاجتماعي والثقافي العام، أي بإعتباره قاعدة لتكوين الفرد كمواطن وكعامل وكإنسان. لقد أضحى العمل واجبا وطنيّا مرتبطا برسالة مقدسة هي بناء الوطن تحت إشراف تلك النخبة التي احتكرت هذه العمليّة الأبديّة، لقد أصبح العمل، بكل مشمولاته من عمال ومصانع ومن إنتاج، وسيلة للدعاية الرسميّة في سبيل بناء شرعية النظم القائمة، أكثر منه مجالا من مجالات الحياة يؤكد مفهوم المواطنة وحقوق الفاعلين الإجتماعيين. في هذا السياق بالذات يمكننا فهم التراجع الكبير للإحتفال بعيد العمّال في مختلف أنحاء العالم الغربي، كما يمكننا فهم المراجعة الشاملة في البلدان الأوروبية للعديد من المكاسب التي تحققت بعد الحرب العالميّة الثانية، الساحة العربيّة تأثرت بدورها بهذا التراجع العام للفكر اليساري الذي احتكر تاريخيا المطالبة بحقوق العمّال والفقراء. لكن حدّة التراجع ازدادت بسبب خصوصيّة الظرف العربي. فتراجع الفكر المطلبي الإجتماعي مرتبط كذلك بهيمنة القضايا السياسية العربيّة الكبرى مثل القضيّة الفلسطينية والوحدة العربيّة، والحرب على العراق. فقد انتزعت هذه القضايا المواطن العربي من الوعي بواقعه الاجتماعي لتلقي به في مجال السياسة العالميّة والصراع مع الآخر. ما من شكّ في أن وضع العمل والعمال في العالم العربي مرتبط بشكل رئيسي بطبيعة الأنظمة القائمة التي احتكرت لنفسها حقّ تقرير مصير الأفراد، لكن نهاية الحرب الباردة وتصاعد وتيرة العولمة الاقتصادية وكذلك حرب الهوية مع الآخر، كلها عوامل ساهمت بدورها في تراجع الوعي بالذات العربية كفاعل إجتماعي.