يرجعُ بعض مؤرخّي الإقتصاد نشأة الرأسماليّة إلى أولى أشكال تحصيل الفوائد كما تعيّنت عند المقرضين بالرهن أو مرابي (usuriers) العصور القديمة. بالرغم من ذلك يجبُ أن نقول بوضوح أنّ الرّباء ليس سلف الرأسماليّة وليس أيضا شكلاً مشتقّا منها. هذا هو الأمر الذي بذل «ماكس يبر» جهدًا لتذكير بعض معارضيه به مثل «وارنرسمبارت» بعد نشر «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» سنة 1940. يلزمنا إذن التساؤل عمّا يكونه الرباء وفي ماذا يكون تطوّر الرأسمالية منتميا إلى منطق آخر تماما، لنستند على تعريف مقياسي، هو ذلك الذي نجده في «ليتري» (littré) والذي يميّز خاصيّتين: «ربّاء: 1) كلّ نوع من الفائض ينتجه المال 2) فائدة نحصّلها فوق النسبة القانونيّة أو المعتادة». تاريخيا: تمّ بالفعل تسمية «رباء» كلّ شكل من الفائدة يرتبط بإقراض المال. هذا ما سيفسرُّ الخلط الذي وقع فيه بعض المؤرخين. فعليا، سنجد أنّ المعنى الثاني هو الذي فرض نفسه وهو المعنى الوحيد الذي احتفظ به معجم الأكاديمية الفرنسية لسنة 1932. إنّ ما استهدفته الاتّهامات الأكثر قدمًا هو بالتأكيد الرباء بوصفه إفراطا، نجد لهذا شهادات في نصوص بلاد ما بين النهرين والتي تعطي أرقامًا بنسب مرتفعة للقروض العادية: 20 للمال وحوالي 33 للسلع الغذائية. في الأنجيل: ينظمّ التشريع في مجال المال المشكل عبر إسناد القرض مجّانا للأقارب وعبر السماح بالقرض الربوي بالنسبّة للآخرين: «لن تقرض بالفائض لأخيك، سواء تعلق الأمرُ بإقراض المال أو بالمعاش. للغريب، يمكنك الإقراض بالفائض» (DT.XXIII,20). في روما: منع قانون الإثنا عشر طاولة الإقراض بنسبة تزيد عن 12، وتحديدا فإنّ التجاوز المتواتر لهذا القانون هو الذي أظهر المقرض كنهّاب دون رأفة والذي يعطي لكلمة «رباء» دلالتها المضافة والسلبية صراحة. إنّ النقد (La critique) هو قبل كلّ شيء أخلاقي أو ديني. هذه هي حال الإدانة التي يصوغها أفلاطون في «القوانين» ضدّ التجار والمقرضين بالرهن وهم في معظم الحالات نفس الاشخاص. إنّ أفلاطون يتأمّل حتّى طردهم التامّ من المدنية المستقبلية وإهمال النقد (La monnaie). بشكل عام، وفي العصور الأوروبية القديمة كما في معظم الحضارات، يوجد احتقار عميق لمهنة التاجر. سبب ذلك هو أوّلا أنّ التاجر يختلف عن الحرفي وعن الفلاّح اللّذين يبيعان مباشرة بضاعتيهما. إنّ التاجر، كما يذكر «إميل بنفنيست» في «مصطلح المؤسسات الهندية الأوروبيّة» هو قادمٌ متأخر في المجتمعات القديمة. إنّه في معظم الحالات غريب وهو بالخصوص شخص ما، يتميّز بممارسة بالكاد طبيعية: إنّه لا يشتري لأجل حاجياته بل يشتري ويبيع للآخرين مع استحصاله في هذا العبور على فائدته. إنّه بالتأكيد يسدي خدمة وهو يوجّه كل أنواع الخيرات النافعة، لكن دائما ما يؤخذ بشبهة الإفراط في استغلال موقعه كوسيط لا يمكن تجاوزه. وعندما يضيف الى فعالية التبادل هذه فعالية المقرض تكون الشبهة في أوجها. هنالك فيلسوف نجح بالرغم من ذلك في إعطاء منزلة محترمة للتبادل التجاري وهو أرسطو. في «الأخلاق الى نيقوماخوس» يبين أرسطو أنّ المدينة توجد بالتأكيد أولا بهدف تكوّن جماعة تتجّه الى غاية نبيلة وهي الحياة الجيّدة، لكنّها لا تستطيع ذلك إلاّ بضمان بقائها وذلك عبر تشكيل جماعة مصالح (koinonia) : من هنا المهن المتنوّعة وتكاملها، ومن هنا أيضًا إبتكار النقد الذي يسمح بصفته معيارًا (ETALON) بإقامة تساو بين أشياء غير متشابهة وإضفاء التناسب بين أنشطة وفاعلين لا متجانسين. إنّ المال كوسيلة تسمح بتبادل لا غنى عنه بين السكّان اللذين هم أيضا منتجون، هو شيء ممتاز إنّّه يبقى وسيلة بأيدي من يخصّص له غاية إنّ المال بحدّ ذاته ليس منتوجا ولكن أداة قياس وتعبير عن قيمة الثروات، لاشيء يمكن أنّ يقال من جديد إذا ما بقينا على هذا الصعيد. غير أنّ الوضع على خلاف ذلك كما يتبدّى في حال القرض بالفائض. ما عسانا نرى في هذه الحال، يتساءل أرسطو في «سياساته»؟ لا شيء سوى أنّ المال يلدُ المال بفعل فضيلة واحدة هي أنّ وقتا مضى بين لحظة الإقراض ولحظة السداد، لم يحدث تبادل ثروات ولم يحدث إنتاج. إنّنا خارج النظام الطبيعي. إنّ هذا الفنّ المفرط والذي يسمّيه أرسطو علم مضاعفة الثروات الى أقصى حدّ (من chémata : المال / الثروات)، يعود الى تملك الوقت كقوّة إنتاج ولهذا يقول أرسطو أنّ لفظ «Tokos» نفسه يحيل في الإغريقية الى «المصلحة» وإلى «السّليل» أي «صغير الكائن الحيّ». لكن، هو تولّدٌ مسخٌ باعتبار أنّ المال ليس كائنا حيّا ولكن مجرّد وسيلة و علامة. إنّ الفائدة تصيّرهُ إلى نفع تولّد من ذاته. إنّ موضوعة التشوّه هذه والتوالد المسخ، هي ما سيستعيده بحدّة تراث مديد وتحديدا التراث المسيحي، لقد أدانت الأناجيل بلا إستئناف الفائدة. إنّ آباء الكنيسة مثل «بازيل الكبير» أو شقيقه «ريقوري النّيسي» في القرن الرابع، أضافا الى ذلك على ما يبدو الإرث الأرسطي. لقد تميّز الإثنان بمواعظهما ضدّ المرابين: الأوّل قارن المرابي بأنثى الماعز التي تحبل وتلد وتطعم ولدانها الفوائض [Tokoi]. أمّا الثاني فيعرض المرابي كصورة مقلوبة للفلاّح، «إنّه يبقى دائما في نفس المكان ويُسمّنُ مسخه في بيته. كلٌّ يجبُ أن ينتج دون بذر ولا حرث، يتخذّ الخنجر محراثا، والعقد أرضا، والمداد بذرًا والوقت مطرًا يكبّرُ لا حسيّا حصاده». ومع ذلك فإنّ لا هوتيي القرون الوسطى هم اللذين نشروا بين الناس بصرامة وقوّة شديدتين موضوعة المرابين «سرّاق الوقت» حسب العبارة الجميلة ل «جاك لووف» في «البورصة والحياة». ما الوقت إذا لم يكن مدّة حياة أعطانا إيّاها الإلاه لإستكمال خلاصنا؟ لقد ظهرت مسألة سرقة الوقت المعطى منذ القرون الأولى. كتب أحد المبشرين المجهولين في القرن الخامس، التالي: «إنّ المرابي هو الأكثر سوءا من بين التجّار جميعهم، ذلك أنّه يبيع شيئا أعطاه الإلاه». في القرن الثامن نطق «توماس دو شوبام» بهذه الكلمات: «إنّ المرابي لا يبيع شيئا لمدينه الملحق به، فقط هو يبيعه الوقت الذي هو مليكة الإلاه» يدين اللاّهوتيين الآخرين حتّى البيع بالقرض بصفته بيعا للوقت إذا كان ذلك يرفع سعر السلع الغذائية. هل يسمح لنا هذا التصوّر بإعتبار المفكرين الوسطيين مواصلين لأرسطو؟ لقد كان دفاعنا عن ذلك من باب الخطأ. إنّ الوقت بالنسبة للعقيدة المسيحية خلقه الإلاه وأعطاه للمخلوق لكي يعدّ دخوله للأبدية. إنّ سرقة هذا الوقت هو نفيٌ للخلاص. إنّ التقسيم الإغريقي مختلف وبشدّة. إنّ الوقت بالنسبة لأرسطو هو مقياس الحركة: حركة الأفلاك، حركة الأحياء وحركة المدينة. كثيرة هي الدورات التي تكوّن الأنظمة الطبيعية. إنّ إنتاج الثروات المتنوّعة وتبادلها بفضل النقد، يبقى داخل هذا التوازن. إنّ ما يمكن أن يهدم هذا التوازن هو إقتران محلّتين ليست لهما في العادة علاقة: الرغبة والنقد. وماذا أيضا؟ إنّ الرغبة (pleonexia) كما يشرح أرسطو، تنزع الى آن تكون لا محدودة لكنّها تظلّ محدّدة بالفعل الذي يستهدف غاية. إنّ النقد شيء نافع وكلّ نافع له في العادة استعمالان: إمّا أن يقع استهلاكه وإمّا ان يقع تبادله غير أنّ النقد له منزلة مختلفة: إنّه لا يمكن استهلاكه بل فقط مبادلته بمنافع أخرى. ولما كان لا يقبل الإستهلاك، فإنّ النقد لا حدود لتراكمه، على النقيض من الغذاء مثلا الذي لا يمكن امتصاصه فيما وراء حدّ الإشباع. إنّ هذه القدرة على التراكم اللاّمحدود التي للنقد، يمكنها إلتقاط وتثبيت اللاّمحدودية المكوّنة للرغبة لتصبح بالنسبة لها موجّها قدريا. هذا هو فنّ مضاعفة الثروات وعلى الأقلّ السيّئ منه، ذلك الذي يعرّفه اللسان اللاّتيني بصفته «رباء». نحن نرى إذن، أنّه بالنسبة لأرسطو كما بالنسبة للعصور القديمة كلّها، وتحت خاصيّة أخرى بالنسبة للفكر الوسيطى كلّه، يكون الرباء تشوُّهًا. لقد امتدّ هذا الظنّ إلى كلّ أشكال الفائدة. لا شيء هنا يعلن ميلاد الرأسمالية. بالنسبة للمتعهّد الرأسمالي، لا يتعلّق الامر ببساطة بالمراكمة وتدوير ثروته أو بتحصيل وجاهة: يتعلّق الأمر بتطوير بضاعة، بالإستثمار لأجل المستقبل وبضمان الشروط التقنية والإجتماعية لهذا التطوير دون تراجع لا أمام استغلال العمل ولا أمام المخاطرة في التبادلات. هذه هي بتذكير موجز «روح الرأسمالية» كما أدركها بدقّة «ماكس يبر». إنّه ليس العالم المغلق للمرابي، إنّه ذلك المفتوح اللاّمتناهي، العنيف بالقوّة والمميت إحتماليا والنّامي دون غاية مخصوصة. إنّ هذا ليمتزج مع حداثة تاريخنا. لقد قال بصدده «بنجامين فرانكلين» ماهو رئيسي: «الوقت مال». لقد ذهبنا أبعد من ذلك ولنجرؤ على القول: «المال وقت». المصدر: le nouvel observateur, (Hors - Serie) Mai, Juin 2007.