تونس تطلق أول دليل الممارسات الطبية حول طيف التوحد للأطفال والمراهقين    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    ممرض ألماني أنهى حياة 10 مرضى... ليخفف عبء العمل عليه    الأولمبي الباجي يعلن عن تاهيل لاعبيه هيثم مبارك وفراس المحضاوي    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    في بالك: الحالة النفسية يمكن أن يكون لها علاقة بألم الرقبة!    مدير ديوان رئيسة الحكومة: قريباً عرض حزمة من مشاريع القوانين على البرلمان    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    المنتخب التونسي للبايسبول 5 يتوج ببطولة إفريقيا    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    خطير: النوم بعد الحادية عشرة ليلاََ يزيد خطر النوبات القلبية بنسبة 60٪    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    خروج قطار عن السكة يُسلّط الضوء على تدهور البنية التحتية للسكك الحديدية    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    اختتام الدورة الثالثة للمهرجان الوطني للمسرح التونسي "مواسم الإبداع": مسرحية "الهاربات" لوفاء الطبوبي تُتوّج بجائزة أفضل عمل متكامل    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    شوف وين تتفرّج: الدربي ومواجهات الجولة 14 اليوم    التشكيلات المحتملة للدربي المنتظر اليوم    النواب يناقشو مهمة رئاسة الحكومة: مشاريع معطّلة، إصلاح إداري، ومكافحة الفساد    الأربعاء المقبل / إطلاق تحدّي " تحدّ ذكاءك الاصطناعي" بالمدرسة العليا للتجارة    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    مالي: اختطاف 3 مصريين .. ومطلوب فدية 5 ملايين دولار    تشيلسي يصعد لوصافة الدوري الإنجليزي بالفوز على وولفرهامبتون    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    منخفض جوي وحالة عدم استقرار بهذه المناطق    بطولة القسم الوطني أ للكرة الطائرة: نتائج الدفعة الثانية من مقابلات الجولة الرابعة    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    دعوة الى رؤية بيئية جديدة    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    من كلمات الجليدي العويني وألحان منير الغضاب: «خطوات» فيديو كليب جديد للمطربة عفيفة العويني    عماد الأمن الغذائي والمنظومة الإنتاجية .. الدعم لإنعاش الفلاّح وإنقاذ الفلاحة    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    عاجل: من مساء السبت والى الأحد أمطار رعدية غزيرة ورياح تتجاوز 90 كلم/س بهذه المناطق    البنك المركزي: نشاط القطاع المصرفي يتركز على البنوك المقيمة    الدورة الاولى لمهرجان بذرتنا يومي 22 و23 نوفمبر بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس    هام/ الهيئة الوطنيّة للوقاية من التعذيب تنتدب..#خبر_عاجل    عاجل/ محاولة اغتيال سفيرة إسرائيل بالمكسيك: ايران ترد على اتهامها..    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    بايدن يوجه انتقادا حادا لترامب وحاشيته: "لا ملوك في الديمقراطية"    جلسة عمل بوزارة الصحة لتقييم مدى تقدم الخطة الوطنية لمقاومة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية    أمطار بهذه المناطق خلال الليلة المقبلة    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجهة نظر إشتراكيّة حول الأزمة الرأسماليّة (5/6)
على هامش الأزمة الماليّة العالميّة: د. عبدالله بنسعد
نشر في الشعب يوم 07 - 02 - 2009

نواصل في هذه الحلقة الحديث عن أسباب الأزمة الحاليّة بالتعرّض إلى الأسباب المساعدة على الأزمة إضافة إلى الأسباب المباشرة وغير المباشرة.
.1 الأسباب المساعدة على الأزمة
* المرور من الإقتصاد الإنتاجي إلى الإقتصاد الإستهلاكي في الولايات المتّحدة الأمريكيّة :
لقد فقدت الولايات المتّحدة الأمريكيّة بداية من عهد ريغن أي مع إنطلاق مرحلة الليبراليّة الجديدة في بداية الثّمانينيات ريادتها في مجال الإنتاج الصّناعي حيث قامت بما يعرف بعمليّة «نزع التصنيع» (Déindustrialisation) أي تحويل الصناعات الثقيلة والملوّثة إلى بلدان لها إقتصاديّات صاعدة مثل الصين والبرازيل والهند. وإنتقلت بذلك من الإعتماد على السوق المحلّية إلى الأسواق الخارجيّة.
وهكذا قامت الولايات المتّحدة الأمريكية بتقليص رأسمالها في مجال الإقتصاد الإنتاجي وتحويله إلى مجال آخر أكثر ربحيّة ألا وهو مجال التسليف أو الإقراض المالي للبلدان المتخلّفة. وبذلك فإنّ نسبة الإقتصاد الإنتاجي لم تعد تمثّل اليوم سوى 5,17 من مجمل الناتج القومي الخام. وقد أدّت هذه الوضعيّة إلى إعتماد الولايات المتحّدة أساسا على التوريد لتلبية حاجيّات شعبها من مختلف البضائع وذلك بما قيمته ملياري دولار يوميّا. هذا يعني خاصّة بأنّ جملة الأجور المدفوعة في قطاعات الإنتاج هي أكبر بكثير من جملة قيمة الإنتاج البضاعي. وهكذا أصبح إذا الإقتصاد الأمريكي يعتمد بشكل كبير على المال وليس على البضاعة وهو ما فتح الباب واسعا أمام المضاربات والفساد والربح السهل الشيء الذي لم يكن ليؤدّي إلاّ إلى الأزمة. لكنّ الأخطر من التحوّل من الإقتصاد الإنتاجي إلى الإقتصاد الإستهلاكي هو إعتماد الإستهلاك كلّيا على الإقتراض وليس على الإدّخار.
فالمعروف أنّ العجز المتزايد في ميزان المدفوعات الأمريكي منذ أواسط الثمانينيات قابله إرتفاع مهول بل طفرة غير مسبوقة في الإنتاج التصديري الصيني. وبما أنّ أمريكا كانت هي المستورد الاكبر للمنتوجات الصينيّة فإنّ الفائض الصيني كان يستثمر جزء كبير منه في البنوك الأمريكية وهو ما أدّى إلى تضخّم موارد البنوك الأمريكيّة التي أصبحت تملك سيولة ماليّة كبيرة جدّا فقامت بشكل لم يسبق له مثيل بتوسيع دائرة الإقراض للمستهلكين الأمريكيين إذ وزّعت بطاقات السحب المغناطيسي للإستهلاك بلا حدود كما وزّعت القروض التي شملت كلّ المجالات من شراء العقارات إلى شراء السيارات إلى تمويل الدراسة الجامعيّة وغيرها.
وهكذا أصبح المستهلك الأمريكي قادرا على شراء كلّ شيء ليس من خلال دخله الحقيقي وإنّما بالإقتراض من البنوك وأصبح بالتالي يعيش بالدّين أي أنّ مستوى معيشته ليس إنعكاسا لدخله الحقيقي أو إدخاراته وإنّما للباب «الفخ» الذي فتحته في وجهه البنوك التي تبحث عن الربح السهل .
لكنّ هذا التحوّل له أسبابه الموضوعيّة التي يجب علينا تبيانها لفهم هذه المسألة.
فالكلّ يعلم بأنّ رأس المال ينقسم إلى قسمين : رأس مال إنتاجي ورأس مال مالي. فالرأس مال الإنتاجي ، الذي يسمّى أيضا الرأس مال الحقيقي ، يستثمره أصحاب المصانع والمنشآت الإقتصاديّة لإنتاج البضاعة أو السلعة التي تباع في السوق بهدف الرّبح من خلال إستخراج فائض القيمة الذي ينتج أساسا من إستغلال اليد العاملة (فائض القيمة أو القيمة المضافة تمثّل الفارق بين الأجور التي يتحصّل عليها العمّال والتي هي عادة ضعيفة جدّا وبين القيمة الحقيقيّة التي يخلقها العمّال خلال العمليّة الإنتاجيّة).
أمّا الرأس مال المالي فهو ينحصر في يد ملاّكي البنوك والمؤسسات الماليّة الأخرى (شركات التمويل والتوظيف والتأمين وغيرها) التي تعتمد على إقراض الرأسماليين والأفراد والبنوك الأخرى وتأمين قروضها مقابل الرّبح أو الفائدة .
وحيث أنّ الإنتاج في الرأسماليّة لا يتمّ من أجل تلبية حاجيّات الإنسان وإنّما من أجل الربح والربح الأقصى فقد أصبح الرأسمال المالي ، في عصر العولمة ، هو الوسيلة الجديدة التي لجأ إليها الرأسماليّون لضمان الأرباح التي يجرون وراءها دائما. فكيف حصل ذلك ؟
لقد إنخفضت القدرة الشّرائيّة للعمّال بشكل لم يسبق له مثيل منذ هبوب رياح الليبراليّة الجديدة في بداية الثمانينيات حيث لم يعد العمّال ، الذين هم المستهلكون للسلع المنتجة ، قادرين على شراء تلك السلع وهو ما أدّى إلى ميل معدّلات ربح الرأسماليين للإنخفاض. لكنّ جشع الرأسماليين أدّى بهم إلى البحث عن مجالات جديدة للإستثمار تعويضا لهم عن تقلّص الأرباح في المجال الإنتاجي فلم يجدوا خيرا من القطاع المالي الذي يوفّر الربح السهل ليستثمروا فيه وهو ما أدّى إلى تضخّمه بشكل لم يسبق له مثيل خلال العقود الأخيرة.
هذا الوجه ، الذي ساد مع أواسط الثّمانينيات ، أدّى إلى توسّع كبير للأسواق الماليّة فأصبح القطاع المالي في العديد من البلدان الرأسماليّة (الولايات المتحدة الأمريكية ، بريطانيا ، اليابان ، إيطاليا...) مسؤولا عن أكثر من نصف النمو الإقتصادي في تلك البلدان.
لكنّ الملفت للإنتباه في هذه المسألة هو أنّ القطاع المالي لم يستند إلى القواعد التنظيمية التي يتطلّبها الإقتصاد الحقيقي في النّظام الرأسمالي بل إعتمد بشكل كامل على سياسة المضاربة وسياسة «كازينو القمار» التي تعتمد على المخاطرة الكبيرة لتحقيق أقصى ما يمكن من الأرباح.
الثورة العلميّة والتكنولوجيّة ودورها في سيادة رأس المال المالي؟
إنّ الثورة الكبيرة في تكنولوجيا المعلومات و الإتصالات التي شهدها العالم خلال العقدين الأخيرين (الإنترنات ، الأوتوماتيّة ، الرقميّة...) وضعت الأرضيّة الملائمة لكي تستغلّ البرجوازيّة كلّ تلك الإمكانيّات من أجل متابعة حركيّة رأس المال عبر إستعمال مناهج النمذجة ومؤشّرات قياس الأزمات ومعايير تحديدها وغيرها من المسائل التي تمكّنها من إجراء الحسابات اللاّزمة وكشف إحتمالات التغيير (صعود ، هبوط ، إستقرار) من أجل الإستثمار في هذا القطاع أو ذاك. كما إستطاعت هذه الثورة التكنولوجيّة أن تخلق وحدة عضويّة بين العلم والإنتاج حيث إرتفعت إنتاجيّة العمل إلى حدود غير مسبوقة وتمكّنت البرجوازيّة، عبر العقول الإلكترونيّة ، من تأكيد أو نفي الإحتمالات وتخزين المعلومات وتحليلها ونقلها وبالتالي إتخاذ القرارات المهمة في الوقت المناسب. طبعا سيطرة الرأس مال المالي على تكنولوجيا المعلومات والإتصالات مكّنه من المسك بما يسمّى ب «سلطات الخديعة» أي أنّه أصبح يتلاعب بالنّتائج وينشر المعلومات الخاطئة حول الأحداث الإقتصاديّة والماليّة والمصرفيّة لمغالطة المستثمرين الصّغار في البورصات وخاصّة للتّلاعب بأسعار العملات والسّلع التّجاريّة وهو ما حصل في أسعار الغذاء والطّاقة منذ أشهر ، كلّ ذلك بغية تحقيق الأرباح الطّائلة وهو ما سنتعرّض له عند الحديث عن المضاربة.
.2 الأسباب غير المباشرة
تأليه السّوق في ظلّ العولمة الليبراليّة الشّرسة :
إنّ المطّلع على أدبيات الاقتصاد السياسي الليبرالي يعرف أنّ السّوق يمثّل مؤسسة من بين مؤسسات أخرى تشكل في مجموعها الحلقة الاقتصاديّة داخل المنظومة الرأسماليّة يقع فيها تبادل السّلع بيعا وشراء ، لكنه اليوم في ظلّ العولمة الليبراليّة الشّرسة أصبح السّوق يمثّل الإطار الواحد الأوحد الذي لا شريك له ، «كيان له قداسة يَحْرُمُ التدخل فيه أو حتى توجيهه من قِبَلِ سلطة خارجية عليه ، إنه توثين جديد يصنع صنما تخلع عليه حلل القداسة في أعلى صورها» حسب تعبير الطيّب بوعزّة.
لذلك نقول بأنّه سقطت في هذا الواقع الإقتصادي الجديد الرؤية الاقتصادية الليبراليّة التي تزعم بأن السوق حرة وبأنّ الأسعار تتحدّد عبر العرض والطّلب بإعتبار أنّ هذا الأخير أصبحت تتحكّم فيه آليّات العولمة الليبراليّة الشّرسة عبر تكريس ثقافة إستهلاكيّة/شبابيّة على النمط الأمريكي ذات الأثر العميق في التشكيل القيمي للمستهلك المعاصر بما يرصده رأس المال من أموال ضخمة وإمكانيّات كبيرة وتقنيات متطوّرة للقيام بعمليّات الإشهار والدعاية من أجل صناعة ذوق المستهلك حسب متطلّبات البضاعة الليبراليّة.
نقول هذا لأنّ إحدى الأسباب التي أدّت إلى تضخّم الإستهلاك الأمريكي ودفعت بالطبقات الكادحة من الشعب الأمريكي ، وبشكل لم يسبق له مثيل في التّاريخ ، إلى الإستهلاك المفرط (المستهلكون الأمريكيّون ينفقون 800 مليار دولار سنويّا أكثر ممّا ينتجون مثلما اكدنا سابقا) هي الحرب الإشهاريّة والدّعائيّة الممنهجة التي مارسها رأس المال على الكادحين والتي أدّت فيما أدّت إلى الأزمة الحاليّة.
عدم قدرة الإقتصاد الأمريكي على التكيّف مع إقتصاد الحرب:
لقد تحدّثنا في الحلقات السّابقة على أنّ الحرب هي إحدى الحلول التي تلجأ لها الإمبرياليّة لحلّ أزماتها ، وهذا شيء صحيح ، لكن وخلافا للحروب السّابقة التي كانت تشارك فيها عشرات البلدان وبالتّالي تتقاسم أعباءها ، فإنّ الحروب الأخيرة ، وخاصّة الحرب على العراق ، خاضتها أمريكا لوحدها وبالتّالي لم يستطع الإقتصاد الأمريكي تحمّل أوزارها حيث تجاوزت نفقاتها 500 مليار دولار وهو رقم مفزع لم يقع تسجيله سابقا. فهذا الإقتصاد المنهك ولأسباب بنيوية ، لم يتكيّف بالشكل المطلوب مع متطلبات تمويل حروب ضخمة و»مرسملة» كالتي إختارتها إدارة بوش الموغلة في الوحشيّة وإرهاب الدولة. وكل ما فعله البنك المركزي الأميركي لمحاولة تخفيف حدّة الأزمة ، هو الانتقال سريعاً من سياسة الفائدة الصّفر التي إتبعها بعد انفجار فقّاعة شركات الإنترنت التي سمّيت بفقّاعة «الدّوت كوم» ، وخاصّة على إثر أحداث 11 سبتمبر، إلى رفع الفوائد تحاشياً لخطر التضخم. غير أنّ هذه الإجراءات كانت قليلة الفعالية بل تركت آثاراً سلبية واضحة على الاستقرار النقدي في أمريكا وفي العالم.
تخفيض سعر الفائدة ودوره في تنشيط السّوق العقّاري :
من الناحية النّظريّة يلعب سعر الفائدة دورا مهما داخل السّوق المالية في النّظام الرأسمالي. فعندما يرفع البنك المركزي لبلد ما سعر الفائدة يكون بذلك قد دفع نحو خفض وتيرة الإقتراض من البنوك وبالتّالي المحافظة على الأموال فيها لتكون الإستفادة (في هذه الحالة) من خلال فوائد الإدّخار. أمّا في الحالة الثّانية التي يقوم فيها بنك مركزي بتخفيض سعر الفائدة فإنّه يدفع نحو تحفيز الإقتراض وبالتّالي الإستثمار في المجال الإنتاجي المربح.
لكنّ المشكلة ، وكما بيّنا أعلاه ، وفي ظلّ غياب مشاريع أو أنشطة إنتاجيّة مربحة ، كما هو حال الإقتصاد الامريكي الذي يعيش مرحلة الإنتاج الإستهلاكي وليس الإنتاجي ، يكون أحسن نشاط لتوظيف القروض هو سوق الأوراق الماليّة و سوق العقارات. وهذا ما حصل فعلا للإقتصاد الأمريكي. فتخفيض سعر الفائدة الذي قام به البنك المركزي الأمريكي بعد احداث 11 سبتمبر ، كما ذكرنا ، من أجل تشجيع الإقتراض وبالتّالي الإستثمار الذي إنكمش كثيرا دفع بالبنوك ومختلف المؤسسات الماليّة إلى التسابق للإستفادة من ذلك الإجراء.
وكما بيّنا سابقا أيضا فإنّ المجال الأوّل الذي استقطب إستثمار تلك الأموال الضخمة هو مجال الرهن العقّاري للأفراد عبر تسهيلات وضمانات وشروط غير مسبوقة في السوق المالية الأمريكية وهو ما كان سببا من أسباب الأزمة سنتعرّض له لاحقا.
هيمنة صناعة المال على الإقتصاد العالمي
لا يمكن أن يختلف إثنان أنّ من بين الأسباب للأزمة الحاليّة أو القوّة المحرّكة لها هي السعي المحموم للطغمة الماليّة (التي ثبّتت سلطتها الماليّة الشّاملة على الإقتصاد العالمي مثلما ذكرنا سابقا) للإستحواذ على الثروة عبر «التلاعب المالي». وقد ذكرت مجلّة «الإيكونوميستا» البريطانيّة إلى أنّ أرباح الشّركات الماليّة الأمريكيّة تضاعفت أربعة عشر مرّة بين سنتي 1980 و2007 وهو ما يؤكّد تنفّذ السّوق المالي في الإقتصاد وقيادته له. وللذكر لا الحصر يمكن تعداد أربعة أسباب تتعلّق بصناعة المال التي أصبحت تسيطر على الإقتصاد العالمي :
السّبب الأوّل هو ما يسمّى في القطاع المالي ب»عمليّات التوريق» أو «التمويل المركّب» أي قيام بنك ما بتحويل ضمانات القروض التي يقدّمها لزبائنه إلى أوراق ماليّة يحصل بها على قروض جديدة من بنوك أخرى.
وهذه القروض الجديدة يقوم البنك/البنوك التي قدّمتها بتحويلها إلى أوراق ماليّة تحصل بها على قروض جديدة. وهكذا نتحصّل على شبه بناء مالي مركّب من عدّة طوابق يمكن أن ينهار بسرعة عند سقوط أيّ من طوابقه.
* السّبب الثّاني يتعلّق بإرتباط العديد من المعاملات الماليّة بالمستقبل. فقد توسّع مجتمع الإستهلاك بشكل لم يسبق له مثيل وخاصّة في ظلّ العولمة الليبراليّة الشّرسة مثلما أكّدنا سابقا فكلّ شيء مطروح للبيع حتّى ما لم يقع إنتاجه بعد (أي بيع الوهم.) فالرأسماليّون لم يتورّعوا على بيع سلع غير موجودة في السّوق ولكن ستوجد في المستقبل إعتمادا على أنّ سعرها سينخفض وهو ما يرغّب المشترين فيها ويفتح شهيّتهم للشراء خاصّة أمام ما تقوم به آلة الدّعاية (Publicité) الرأسماليّة الضخمة جدّا من إغراءات. وتقوم المعاملات المستقبليّة على الثّقة ولا شيء غير ذلك ، لكن هل يمكن أن نثق في رأسمالي جشع لا يفكّر إلاّ في كيفيّة ملىء أرصدته البنكيّة ؟
السّبب الثّالث هو عمليّات المضاربة عبر ما سمّي ب «رأسماليّة الكازينو»، التي أصبحت السّمة المميّزة لنشاط الأسواق الماليّة في البلدان الرأسماليّة، حيث يشبه نشاط الأسواق الماليّة لعبة القمار في الكازينو وكمثال على ذلك أن يتعامل بنك ما بأوراق نقديّة لا وجود لما يضمن قيمتها لكن شرائها وبيعها كان يمكّن البنك من أرباح طائلة وهذا ما مكّن من توسيع عمليّات المضاربة.
فقد قادت عولمة رأس المال إلى تعميق دور المضاربة وتثبيت مكانها على المستوى العالمي مستفيدة من تفكيك آليّات المراقبة والتنظيم ممّا مكّن رأس المال المالي من الإنتقال غير المحدود وتجواله غير المراقب في شتّى أنحاء العالم نتيجة إلغاء القيود الوطنيّة أو تقليصها إلى أدنى الحدود في مختلف البلدان بطلب من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. حريّة رأس المال هذه مكّنت المضاربين من توسيع أنشطتهم إلى قطاعات جديدة فلم يعد نشاط المضاربة يقتصر على الأسهم والسّندات في الاسواق الماليّة بل تعدّاها إلى أسعار المواد الأوليّة كالنفط والمعادن حتّى وصل سوق المواد الغذائيّة حيث أصبحت الحبوب التي تمثّل الغذاء الأساسي للشعوب الفقيرة تتحكّم فيها المؤسسات الماليّة متعدّدة الجنسيّات وفوق القوميّة. أمّا كيف يحدث ذلك ؟ فإنّه عندما يقوم رأس المال بالإستثمار في قطاع ما فإنّ ذلك يقود إلى رفع أسعار السلع المرتبطة بذلك القطاع كنتيجة حتميّة لقانون الرأسماليّة (العرض والطلب) وهو ما يجعل رأس المال يلجأ إلى المضاربة لتكديس الأرباح. فعلى سبيل الذكر لا الحصر دفعت المضاربة في أسعار النفط الخام إلى مستويات لم يسبق أن بلغتها من قبل حيث وصل سعر البرميل في بداية سنة 2008 إلى حوالي 160 دولار بينما يتراوح سعر الإنتاج بين دولار واحد في العراق و4 دولارات للبرميل في السعوديّة على سبيل المثال.
وبإعتبار أنّ الرأسماليين/المضاربين (شركات سمسرة ، بنوك ، شركات تأمين...) قادرون على التلاعب بالأسعار نظرا لمعرفتهم المسبّقة ولمهاراتهم في تحديد زمن الإرتفاع والإنهيار ، فقد تمكّنوا من جني أرباح طائلة من خلال مضاربتهم في هذا القطاع.
لكن هذه المعرفة المسبّقة وتحديد الزّمن الملائم للبيع أو الشّراء تتأتّى من العلاقات التي يربطها الرأسماليّون/المضاربون مع رجال السّياسة المتنفّذين لمعرفة السّياسات الإقتصاديّة للدولة/الدول والباحثون في مراكز البحث الإستراتيجي لمعرفة إتجاهات الإقتصاد العالمي وخاصّة قطاعاته الثّلاثة وخاصّة مع رجال وكالة الإستخبارات الأمريكيّة (CIA) لمعرفة التقلّبات السّياسيّة التي يمكن أن تحدث. علما وأنّ الوكالة تملك هي أيضا مؤسّساتها الماليّة العاملة في وول ستريت مثلما يؤكّد ذلك ميشيل سوفودوفسكي في كتابه «أوباما يبحث عن أسامة». والدّليل على دور المخابرات في عمليّات المضاربة هو قيام بعض الرأسماليين/المضاربين بشراء أسهم شركات الطيران الأمريكية أيّام فقط قبل حصول هجمات 11 سبتمبر وهو لا يمكن أن يكون تنبّؤا بقدر ما هي معلومة مخابرتيّة.
فاعتمادا على هذه العلاقات يجمع الرأسماليّون/المضاربون المعلومات اللاّزمة لكنّهم يقومون بنشر معلومات خاطئة ومضلّلة حول الأحداث الإقتصاديّة من إنتاج وسعر وإتجاه السّوق إلخ وذلك من أجل خداع المستثمرين أو المساهمين الصّغار ودفعهم في الإتجاه الذي يريدونه .
* السّبب الرّابع والأخير هو الفساد الذي يعشعش في أحشاء النّظام الرأسمالي والذي سبق وأن تحدّث عنه بإطناب لينين معلّم البروليتاريا في مؤلّفه «الإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة». ولقد تابعنا في السّنوات الأخيرة (وخاصّة منذ إنهيار بورصة وول ستريت سنة (2000 عديد القصص والقضايا التي حوكم فيها بتهم الفساد وسوء التصرّف مديرون ومسؤولون كبار لعديد الشّركات متعدّدة الجنسيّات والبنوك الضخمة التي تنشط في كلّ أنحاء العالم. ففي أمريكا سجّلنا فضيحة»انرون» «Enron» ، الشركة العالميّة الموجودة في الرتبة 16 من حيث رقم أعمالها (والتي زعزعت قضيّتها كامل المجتمع الأمريكي) والتي تشغّل 19 000 عامل وبإنهيارها إنهارت عديد المؤسّسات المتورّطة معها في الفساد المالي وحوكم مدراؤها ومنها شركة تدقيق الحسابات «أندرسون» Anderson)) وبنك «ستي غروبٌّ» وشركة التحليل الإقتصادي «سالومون» .(Salomoon)
ثمّ تتالت القضايا حيث حوكم مسؤولو شركة الخدمات الإلكترونيّة «تيكو» (Tyco) التي تشغّل 20 000 عامل والشركة الرّائدة في مجال الإتّصالات وورلد كوم (World com) التي تشغّل 75 000 عامل إضافة إلى أستوديوهات السينما الهوليوديّة «يونيفرسال» (Universal) كما شملت الفضائح أيضا شركات فرنسيّة مثل شركة فيفندي أونيفرسال (Vivendi Universal) إحدى الشركات الرّائدة في مجال الخدمات والشّركة المتفرّعة عنها والمستثمرة في مجال المياه «فيفندي للبيئة» (Vivendi Environnement) والتي تشغّل 381000 عامل وتواصلت الفضائح لتشمل أحد أكبر البنوك السويسريّة كريدي سويس ((Crédit Suisse حيث حوكم مسؤولوه بتهمة المساهمة في إنهيار وإفلاس شركة الخطوط الجوية السّويسريّة (Swiss air) وغيرها من الفضائح التي لم تكشف عن أخطاء في الحسابات أو إستثمارات غير مجدية وإنّما كشفت عن سلوك جنائي بكلّ ما في الكلمة من معنى يهدف إلى إختلاس الأموال بطرق ملتوية يدلّ على دهاء المسؤولين والمسيّرين لتلك المؤسّسات وهو ما يؤكّد بأنّ رأس المال لا رقابة تحكمه ولا ضوابط تقيّده.
هكذا إذا يتأكّد بأنّ مظاهر الفساد رافقت دائما وأبدا تسيير المؤسّسات الرأسماليّة لكن لم نكن نتصوّر بأن يبلغ الفساد حدّا لا يمكن أن يقبله عقل بشري. فمن مزايا الأزمة الرّاهنة أنّها فضحت مدى الإبتزاز اللامتناهي الذي يمارسه مديرو المؤسّسات وكبار الصيارفة عند مغادرتهم مناصبهم. لقد أصبت بالذّهول عندما علمت بأنّ مديري المؤسّسات التي أفلست نتيجة الأزمة الماليّة تحصّل كلّ واحد منهم على مبلغ خيالي بعنوان منحة المغادرة أو كما سمّاها ميشال شوسودوفسكي «المظلاّت الذّهبيّة» وهي منح غير مشروطة بالنّتائج الماليّة للمؤسّسة (أي أنّ المنحة الخياليّة تصرف حتّى في حال الإفلاس مثلما حصل في هذه المرّة.) فعلى سبيل المثال تحصّل مسؤولو أحد البنوك الأمريكيّة المفلسة على مبلغ جملي يصل إلى 300 مليون دولار (أي حوالي 400 مليار من مليماتنا) بينما أطرد 10000 عامل دون أن يتحصّل أيّ منهم على ملّيم واحد. ماذا يمكن أن نسمّي النّظام الذي يسمح لعشرة أفراد فقط ، ساهموا في إفلاس مؤسّستهم ، من تقاسم 400 مليار بالتّمام والكمال بينما يكافؤ 10000 عامل ، افنوا عمرهم في بناء المؤسّسة وتطويرها ، بالطّرد شرّ طردة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.