قتلى بهجوم "مدمر" على تل أبيب وحيفا وبزشكيان يؤكد الصمود    هجوم صاروخي إيراني غير مسبوق على إسرائيل ودمار واسع في كل مكان    بوادر مشجعة وسياح قادمون من وجهات جديدة .. تونس تراهن على استقبال 11 مليون سائح    الكرة الطائرة : المنتخب في إيطاليا وبن عثمان يحتجب    القيروان .. إستعدادا لاجتياز مناظرتي السيزيام والنوفيام .. جلسة توعوية للإحاطة بالتلاميذ وأوليائهم    بعد ترميمه فيلم "كاميرا عربية" لفريد بوغدير يُعرض عالميا لأوّل مرّة في مهرجان "السينما المستعادة" ببولونيا    مديرو المهرجانات الصيفية يواجهون صعوبات .. بين مطرقة ارتفاع كلفة الفنانين وسندان أذواق المتفرجين    المالوف التونسي يضيء ليل باريس    إجراءات لدعم التشغيل    اليوم انطلاق مناظرة «السيزيام»    رقم أخضر    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    كأس العالم للأندية :باريس سان جيرمان يضرب أتليتيكو مدريد برباعية    تونس: حوالي 25 ألف جمعية 20 بالمائة منها تنشط في المجال الثقافي والفني    مدنين: حملة نظافة بجربة اجيم لجمع النفايات البلاستيكية    إطلاق خارطة السياسات العمومية للكتاب في العالم العربي يوم 24 جوان 2025 في تونس بمشاركة 30 دار نشر    وزارة المالية تعين لمياء بن اسماعيل في خطة امين مال عام للجمهورية التونسية    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    هكذا سيكون طقس الليلة    حملات الشرطة البلدية تسفر عن مئات المخالفات في مجالي الأمن والصحة    قافلة الصمود تدعو الراغبين في العودة إلى تونس لتسجيل أسمائهم في موقع التخييم بمصراتة    كأس العالم للأندية 2025: بنفيكا يواجه بوكا جونيورز وتشيلسي يفتتح مشواره أمام لوس أنجلس غدا    "إسرائيل تلجأ لتفجير سيارات مفخخة في طهران".. مصدر مطلع يكشف    المبادلات التجارية بين تونس والجزائر لا تزال دون المأموال (دراسة)    وزارة الصحة: اختيار مراكز التربصات للمقيمين في الطب ستجرى خلال الفترة من 16 الى 19 جوان الجاري    لجنة انتداب تابعة لوزارة التربية العمانية تزول تونس الاسبوع المقبل (وكالة التعاون الفني)    فيلم "عصفور جنة" يشارك ضمن تظاهرة "شاشات إيطالية" من 17 إلى 22 جوان بالمرسى    زفاف الحلم: إطلالات شيرين بيوتي تخطف الأنظار وتثير الجدل    دورة برلين المفتوحة للتنس: انس جابر في الجدول النهائي بفضل بطاقة الخاسر المحظوظ    مطار النفيضة يستقبل أول رحلة مباشرة من مولدافيا    لماذا تستهلك بعض السيارات الزيت أكثر من غيرها؟    المُقاومة اليمنية تقصف إسرائيل بالتنسيق مع إيران..#خبر_عاجل    وزارة الصحة تُعلن رزنامة اختبار اختيار المراكز للمقيمين في الطب    إتحاد الفلاحة بباجة يدعو إلى مراجعة سلم تعيير الحبوب بسبب تدني الجودة جراء الأمطار الأخيرة [فيديو]    الإعلامية ريهام بن علية عبر ستوري على إنستغرام:''خوفي من الموت موش على خاطري على خاطر ولدي''    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    الترجي الرياضي يعزز ثقة باسم السبكي بقيادة الفريق لموسم جديد    باجة: سفرة تجارية ثانية تربط تونس بباجة بداية من الاثنين القادم    جلسة عمل بولاية تونس حول مدى تقدم مخطط التنمية 2026-2030    كأس العالم للأندية 2025 - الوداد المغربي يتعاقد مع المدافع البرازيلي غيليرمي فيريرا    بنزرت: مشاركة قياسية ضمن أول دورة من فعاليات "نصف ماراطون بنزرت"    هل يمكن أكل المثلجات والملونات الصناعية يوميًا؟    موسم واعد في الشمال الغربي: مؤشرات إيجابية ونمو ملحوظ في عدد الزوار    السلطات الليبية: ''قافلة الصمود'' دخلت ليبيا بشكل قانوني    "فارس": إيران تسقط 44 مسيرة إسرائيلية على الحدود    مقترح برلماني: 300 دينار منحة بطالة و450 دينار للعاجزين عن العمل    الأهلي يُعلن غياب إمام عاشور رسميًا بعد إصابته أمام إنتر ميامي    إيران تعرب عن استيائها من "صمت" وكالة الطاقة الذرية    العثور على شقيق الفنانة لطيفة العرفاوي متوف داخل منزله    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    درجات الحرارة هذه الليلة..    المدير العام لمنظمة الصحة العالمية يؤكد دعم المنظمة لمقاربة الصحة الواحدة    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    موعدنا هذا الأربعاء 11 جوان مع "قمر الفراولة"…    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



راهنية مطلب الكلّي في الحضارة المعاصرة او الكلّي كمطلب ميتافيزيقي إلى الكلّي كموضوع تأويل «ايديولوجي» في اللحظة التاريخية الراهنة
إعداد : علي زروق أستاذ مكوّن منوبة
نشر في الشعب يوم 22 - 05 - 2010

إذا ما ترسمنا البحث في الجذور التكونية لمطلب الكلي الفلسفي بين الكثرة والوحدة فإن جذوره التاريخية تعود إلى اللحظة الإغريقية بما تميزت به من جدل فكري وحضاري حول المسائل الفلسفية والإنسانية الكبرى والقصوى غير أن تجديد الحاجة إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى يطرح في الحقيقة أكثر من سؤال واستفهام يعكس حيرة الإنسان الفكرية والوجودية على الصعيد الكوني والشمولي .
ها هنا تحديدا يبدو من الضروري اعتبار المسافة الفاصلة لتجليات مطلب الكلي بين الماضي والحاضر الراهن .
فإذا كان الكلي الفلسفي قد تشكل ماضيا بانصراف الجدل الفكري-التأسيسي إلى فهم التناقضات التي مرت بها المدينة الإغريقية وهي التي مثلت المهد الذي شهد ميلاد التصور الفلسفي للكلي تحديدا في ظل مسارات الصراع بين الفلاسفة ومناوئيهم من السفسطائيين والسياسيين واللغويين، فإنه ما تجدر ملاحظته هو أن هذا الصراع قد تمخض على انتصار وحدة الكلي-المنطقي-العقلاني في تصوره لماهية الحقيقة والغايات من وجود البشر في المدينة.
غير أن تسعير كلفة انتصار خطاب العقل الكلي يتجلي بوضوح في انتفاء خطاب الجزئي الحسي وسيلان الصيرورة والكثرة والاختلاف كما تحددت في خطاب السفسطائيين والشعراء والمسرحيين والسياسيين.
وعليه، تبدو الحاجة إلى رسم مسافة نوعية بين المنعطفات التي مرت بها المدينة الإغريقية في حوارها مع الكلي وتجدد هذا الحوار في المدينة المعاصرة مسألة ضرورية وحاسمة لرصد الاختلافات النوعية نتيجة للتراكمات الفكرية-الرمزية والتحولات التاريخية لعصر الحداثة وما بعدها وصولا إلى اللحظة التي انبثقت فيها فلسفة الاختلاف وفلسفات اللامعقول.
لكن على الرغم من ذلك يبقى مطلب الكلي محايثا وملازما لترحال الفكر والحضارة الكونيين عبر الديمومة الوجودية والصيرورة التي مرت مختلف الحضارات باختلاف رؤاها للوجود وللعالم وهذا بالتحديد ما أكد عليه الفيلسوف الألماني «جورج وليام هيل» في فلسفته الجدلية والتاريخية.
لقد وضع هيل على عاتق فلسفته ربط الصلة الواعية بين التصور الإغريقي للكلي في علاقة برؤى الأمم والحضارات الشرقية للعالم والوعي الحديث في علاقته بمستجدات الحداثة في الثقافة الأوروبية كما تشكلت منذ عصر النهضة.
وعليه، يمكن الإقرار بأن تباعد المسافة بين اللحظة الإغريقية وما سبقها واللحظة التاريخية الراهنة في حوارهما مع الكلي الفلسفي والإنساني، لا يستبعد التشابه المثير للحيرة بشأن فهم العلاقة بين التعينات الجزئية للكلي عبر لحظات التاريخ المؤقتة والنسبية والتصورات الشمولية-الكونية الثابتة لتأويل رؤية الإنسان لذاته ولغيره وللوجود. ولتوضيح ذلك وتنزيله في الواقع الموضوعي يمكن التأكيد بأن هناك خصيصة اتسم بها ترحال الكلي الفلسفي بين الكثرة والوحدة ضمن مسارات تشكل رؤية الإغريق للفكر والحياة والمدينة وللكون. هذه الخاصية تبرز في الحقيقة الموضوعية التالية: وهي أن التصور الإغريقي للحقيقة الشاملة والكلية التي تتضمن كل تصورات الإنسان للفكر والوجود قد تأسست على أنقاض الخطاب الفكري للسفسطائيين والشعراء والسياسيين وهم الذين تميزوا بالحيطة والحذر من كل خطاب فلسفي تأسيسي للحقيقة الكلية.
لقد انتصر السفسطائيين للكثرة ضد الوحدة والثبات وللجزئي-الحسي والظرفي ضد قواعد المنطق العقلاني بحدودها الثابتة والكونية كما انتصروا أيضا للعرضي ضد الجوهري وللنسبوية في الحكم والرأي ضد الحقيقة المطلقة المتعالية عن الحركة والصيرورة.
وفي الحقيقة لقد انتصر هؤلاء لجدل الحركة والتناقض والصراع لأجل تبرير التنافس من أجل الرغبة والمصلحة والمنفعة والنجاعة السلطوية في سياق فهم وتسيير علاقات القوى داخل المدينة ولهذا السبب ناهضوا بكل قوة كل أولئك الفلاسفة اللذين أسسوا منطقيا ونسقيا لوحدة الحقيقة ولوحدة العقل ولوحدة المدينة انتصارا للحكمة والفضيلة والنظام.
ضمن هذا المنظور طفق السفسطائيون يعملون جاهدين على «التشكيك الريبي» في نسق المفاهيم الكلية والكونية التي وضع الفلاسفة المؤسسون لها منازل في نظام المعرفة وفي نظام الوجود والقيم.
ومن ثمة،واستنادا إلى ماضي المدينة الإغريقية يظهر أن اللحظة الحضارية الراهنة تعيش هي الأخرى على وقع ظهور السفسطائيين الجدد وبالتالي فهي تجدد الحاجة إلى أعداء الكلي الفلسفي. هؤلاء الأعداء الجدد يسعون إلى تحطيم الكلي في وحدته وثباته وشموليته الفكرية والحضارية والإنسانية باعتباره أقنوما أو «وثنا» ورثته الأجيال الراهنة عن الآباء المؤسسين أي الفلاسفة الميتافيزيقيين.
ومن الملاحظ أن مصير الكلي الفلسفي بحسب «ايديولوجيا المفكرين التقنيين» أي السياسيون، العلماء، المهندسون، الإعلاميون، المؤرخون. لم تعد حضارة اليوم بحاجة إلى الكلي الفلسفي بحسب المعنى الذي ترصده الآباء المؤسسون أو المحدثون المجددون لا جرم إذن من الإقرار بأن ثمة ما يبرر مساءلة توجهات الحضارة الراهنة التي تعيش من ناحية أزمة العدمية (La crise du nihilisme) و تبرر من ناحية أخرى مناصبة الكلي الفلسفي والإنساني العداء الدفين إذ ترى فيه انعكاسا لترسبات الفلسفات المثالية والطوباوية. تلك الفلسفات التي وحدت في المدينة الإغريقية تربة خصبة لتزهر في عموما وفي النسق الأفلاطوني تحديدا هذا النسق الذي حدد مصير التفكير اللاحق في الكلي إلى حد اليوم.
تعيش الحضارة اليوم على وتيرة جد متسارعة وخطيرة من التحولات الهيكلية والشمولية في السجلات العلمية- التقنية-الاقتصادية-السياسية-العسكرية-الإعلامية والاتصالية.
هذه التحولات تمثل ولا شك مكمن التأثير على «الانتبجنسيا» أو «النخب المفكرة والمسيرة» للاستراتيجيات الحضارية الراهنة.
غير أن المواقف بشأن تحديد موقع الكلي الفلسفي والإنساني في المعيش اليومي للأفراد والتجمعات البشرية تتباين إلى حد التناقض «فالمثقف الخصوصي» حسب «ميشال فوكو» ينذر جهده لفهم الأسباب الأركيولوجية لأفول الحاجة إلى الكلي-الميتافيزيقي بقيمه وطموحاته المعرفية والوجودية في المقابل يسعى «المثقف التقني» لركوب قطار الدعاية ضد الكلي الفلسفي ومواجهته بالرفض العدمي أو اللامبالاة السلبية (L'indifferance negative ou nihiliste) للكشف عن المستندات البشرية أو الخفية لهذا التوجه في التأويل يمكن المبادرة لمساءلة تعبيرات الواقع الموضوعي على الصعيد العالمي لتشخيص تباين المواقف الفكرية حول منزلة الكلي الفلسفي في الحضارة الراهنة.
ضمن هذا المنظور يمثل استقراء الواقع الموضوعي لاختلاف رؤى العالم بين الأمم والشعوب الفاعلة على الصعيد الكوني منطلقا مكينا لملاحظة سمة التقابل بين الأمم على الصعيدين الفكري-الايديولوجي والحضاري. فالأمم التي استأثرت منذ انبجاس الحداثة مظاهر القوة الحضارية تسعى جهدها لتدعيم رموز مناعتها العلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية أما الأمم المتخلفة عن هذا الركب فهي ما تزال تعيش على أمنيات تطمح لبناء عالم أفضل يكون مسكنا للجميع تحقق فيه كل الشعوب آمالها من خلال التمسك بالكلي الفلسفي وقيمه الإنسانية الكونية.
ولهذا السبب تمارس الأمم القوية السخرية السلبية والتهكم الريبي إزاء كل خطاب فكري مهما كانت درجة معقوليته من شأنه أن يطمح إلى استعادة المثل الفلسفية الطوباوية-القديمة أو مثل النزعة الرومانسية الحديثة.
إن الوقوف على دلالات هذه الوضعية التاريخية من شأنه أن يدفع الموقف الفلسفي إلى توليد الأسئلة الإحراجية والتأويلية سعيا لأدراك الأسباب العميقة لانطفاء مطلب الكلي الفلسفي والإنساني لدى الأمم التي تحتكر رموز السيادة واستراتيجيات القوة على الصعيد العالمي اليوم.
يمثل انطفاء مطلب الكلي لدى الأمة الأمريكية مناورة ايديولوجية وانقلابا على المبادئ الأولية للثورة الاجتماعية السياسية التي عاشتها في القرن الثامن عشر إذ أن الآباء المؤسسين «جورج واشنطن» «بنيامين فرانكلين» كانا من أنصار النزعة الإنسانية المحايثة لفلسفة عصر التنوير وقيمها الوجودية الكونية.
وإذا كنا نعاين راهنا انطفاء مطلب الكلي «لدى الأمة الأمريكية» والاستعاضة عنه بالدعاية للعولمة(La mondialisation) فذلك لأن هذه العولمة ترتبط عضويا وتاريخيا بالاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلامية.
قد يكون من الوجاهة على الأقل إجرائيا ومنهجيا تأويل مسارات هذه الوضعية وفقا لإحداثيات التصور الهيقلي لعلاقة الكلي الفلسفي بالتاريخ.
وعندئذ يصبح من الضروري استدعاء جدلية «السيادة والعبودية» باعتبارها كليا يساعد الموقف الفلسفي الراهن على تأويل وضعية التناقض الفعلي بين «إيديولوجيا الأسياد» و «إيديولوجيا العبيد» في سياق سيرورة فهم مسرح العلاقات المتعينة موضوعيا بين الأمم والشعوب اليوم. فإذا كانت «إيديولوجيا الأسياد» تسعى بشكل منهجي واستراتيجي لفرض واقع الهيمنة الإمبراطورية على الأمم المستعبدة، فإن هؤلاء الأسياد يتخذون من البنى الإيديولوجية والمؤسسات الحضارية مطية لتكريس واقع التناقض بين الكلي-والجزئي أي بين الحرية والعبودية سواء بواسطة القوة المادية أو الإيديولوجية.
لا يسعنا ها هنا الإشارة إلى الوضع المفارقي لهذا التناقض الموضوعي فإذا كانت الحداثة قد حملت في طياتها عوامل التحرر من العبودية عبر الانخراط في مسار الثورات الفكرية والثورات الاجتماعية السياسية.
في المقابل أنتجت الحداثة وما بعدها شكلا جديدا من الاستعباد على الصعيد الأممي لعل أهم مظاهره تتموضع في معاناة «الاستعمار» والتبعية والخضوع والوصايا.
وعندئذ يصبح الكلي الفلسفي والإنساني التنويري ملجأ للأمم المستعبدة للتعبير عن الوعي الشقي بواقعها وتوليد استراتيجية «المقاومة» للتحرر من اغتراب الانفصال في الواقع الموضوعي عن السيادة والحرية.
ولهذا السبب بالذات يقول هيقل في تشخيصه لواقع الاغتراب (Les fleurs de la liberte sont devenus noirs) «لقد أصبحت زهور الحرية سوداء».
ومن ثمة يمكن التساؤل بشأن وظيفة الكلي الفلسفي في التاريخ الراهن:هل يمكن للكلي الفلسفي بإنتظاراته وتشريعاته وتصوراته الكونية أي يعيد لزهور الحرية الإنسانية نظارتها وألقها بعد ذيولها وانطفاء بريقها في واقع العلاقات الموضوعية بين الأمم والشعوب الفاعلة في مسرح الحضارة العالمية اليوم؟
في الضفة المقابلة للتأويل الهيقلي لمسألة الكلي في مسار الحداثة التنويرية يقف التأويل الجينيالوجي على مسافة جد بعيدة من المواضعات التي اعتمدها هيقل وكل الفلسفات المثالية التي أسست «للكلي المنطقي والعقلاني» على أنقاض تغييب الجزئي-الحسي والكثرة والاختلاف في تمثل الرؤى الشمولية للفكر وللحياة وللقيم التي حددت الروابط والعلاقات البشرية على الصعيدين الأخلاقي والوجودي والحضاري للوقوف على طرافة التأويل الجينيالوجي للجذور النيتشوية للكلي الفلسفي-الميتافيزيقي وتحطيم أسسه المنطقية ونماذجه المعرفية والأخلاقية . يلجأ نيتشه في كتابه «جينيالوجيا الأخلاق» إلى الاستدلال بالمماثلة (Le raisonnement par analogie) لتوضيح أصالة أطروحته حول عدمية الكلي الميتافيزيقي والأخلاقي كما يتجسد عبر تعاقب الأجيال في الثقافة الأوروبية. وفي هذا الصدد يمكن تنزيل هذا النص ضمن هذا المنظور، كيف أتى إلى الوجود كل ذلك الجهاز الذي نسميه «الضمير المتعب» من هنا نعود إلى أولئك الذين أرخوا لأصل الأخلاق وفصلها...
فهل خطر في بال مؤرخي الأخلاق هؤلاء مجرد خاطر بل حتى في أحلامهم. إن المفهوم الأساسي «الذنب» مثلا يستمد أصله من فكرة «الين» التي هي فكرة مادية للغاية؟
عندما نتخيل هذه العلاقات التعاقدية تنتابنا على ما توحي به الملاحظات السابقة شكوك وتوجسات من كل نوع تجاه تلك البشرية البدائية التي تصورت هذه العلاقات أو تساهلت معها ،تجاهها. فالوعد يقطع على هذا النحو وقضية تكوين ذاكرة للذي يعد إنما تتم على هذا النحو أيضا.
كذلك يمكن أن تجول في خواطرنا أن القسوة والفظاظة والعنف تنطلق على سجيتها عن هذه الطريقة أيضا فالمستدين حتى يسبغ طابعا من الثقة على وعده بتسديد الدين لكي يقدم ضمانة على جدية وعده و على نقاء هذا الوعد لكي يحفز في وعيه الشخصي ضرورة هذا التسديد على شكل واجب والالتزام يتعهد تجاه الدائن عن طريق العقد بأن يعوض عليه في حال عدم وفائه بالدين شيئا من الأشياء الأخرى التي يملكها والتي مازالت تقع تحت سيطرته كجسده، أو امرأته أو حريته بل حتى حياته...
إن عالم المفاهيم الأخلاقية من «ذنب» و «ضمير» و «واجب» و «قدسية الواجب» إنما يجده مركزه الأصلي ضمن هذا الإطار من حق الالتزام (جينيالوجيا الأخلاق).
استنادا إلى المنظور التأويلي-الجينيالوجي ، لا مفر من استحضار مفهوم «العود الأبدي للاختلاف» أي العود الأبدي للكثرة والتعدد في تلاوينه الجزئية والصيرورة الحسية ضدا لما يترسب على السطح في قراءة حذرة من كل احتمالات العود للكلي الواحد والماهوي في استيطانه «لأقانيم» العقل والحكمة وإرادة الحقيقة كما شرع لها الحكماء الأخلاقيون والفلاسفة ورجال الدين عبر التاريخ الثقافي الأوروبي والكوني.
وحسب المنظور النيتشوي إذا كان الأقوياء يتباهون على الصعيد العالمي بتشريع «للحروب العادلة» و «الحروب الوقائية الاستباقية» فذلك من أجل الرغبة في توسيع إشباع الحاجة إلى «إرادة القوة» (La volonte de puissance) وتطوير ترسانة استراتيجيات القوة من أجل إبداع قيم المستقبل الفاعلة ضد ا للقيم الماضوية الارتكاسية.
في المقابل يلجأ الضعفاء إلى تبرير إرادة الضعف عبر الآليات الدفاعية المحايثة «للعقل الحيلة» (La raison ruse) باعتبارها استراتيجية مضادة للحد من قوة الأقوياء واستعدادهم للبطش وتصريف تلاوين إرادة القسوة من خلال رفع شعار «كل شيء مباح مع العدو» (Tout est permis avec l'ennemi) .
ولكن لسائل أن يتساءل، لماذا انقسمت الإرادة الأخلاقية وتشريع قيم الحياة إلى إرادات متصارعة ومنظورات متصادمة كل هذا التصادم بين «إرادة الأسياد» و «إرادة العبد».
انطلاقا من هذه النظرة لقيم الفكر والحياة يؤكد نيتشه في النص أعلاه أنه إذا ما أراد مؤرخو الكلي الفلسفي الميتافيزيقي والأخلاقي الوقوف هنيهة لمراجعة مواقفهم وتصوراتهم المترسبة عبر تعاقب الأحقاب التاريخية ، فما عليهم إلا أن يستعيدوا الصورة الحية والملموسة للعلاقة التعاقدية بين الدائن والمستدين كما تتعين موضوعيا في المستوى الاجتماعي الاقتصادي والحقوقي التعاقدي.
يشتغل نيتشه على هذه الصورة الحية من واقع العلاقات البشرية على الصعيد المادي ليرز التشابه والتناظر بين الدائن والمستدين من جهة وبين القوي والضعيف من جهة أخرى.
تأسيسا على ما تقدم يقر نيتشه بأن الدائن لا يتوانى البتة عن ممارسة القسوة كل القسوة لإرغام المستدين على الوفاء بتعهداته التعاقدية التي تلزمه ضرورة بالوفاء بالدين حتى وإن تطلب ذلك إجباره على تقديم تنازلات مهيمنة للإرادة وللحرية وللشرف وصولا إلى تصفيته جسديا. واستنادا إلى المماثلة يقر نيتشه أن القوي على الصعيدين الوجودي والأخلاقي لا يتراجع لحظة في الميل إلى استعراض أفانين قوته لتشريع قيم الحرب بما تفترضه من ممارسة لكل مظاهر القسوة والعنف والفظاظة والسحق والمحق من أجل إثبات تفوق إرادة القوة على إرادة الضعف.
ومن ثمة ينخرط الأقوياء في مسارات وجودية لمواجهة اختيار تحقيق البطولات والانتصارات تجسيدا لنشوة الاستمتاع بالتسلط على الضعفاء وتجاوزهم وباعتبار أن الضعيف لا حول له ولا قوة إلا أنه يلجأ إلى التعويض عن الحرمان الإحساس الدفين بالحرمان من القوة إلى «المناورة الايديولوجية» بواسطة «العقل الحيلة».
تكمن الوظيفة الأساسية للعقل الحيلة عبر التاريخ الفكري والحضاري في ابتكار الأقنعة ونشرها السطح لتكوين ذاكرة فكرية ووجودية تنتصر لقيم إرادة الضعفاء وتكرس تجريم إرادة القوة إلى حد اعتبارها أم الرذائل ومصدر كل الأوهام والشرور.
ضمن هذا السياق يبين نيتشه كيف نشأت أحكام القيمة الأخلاقية من جنس «لا تقتل»، «ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء»، «لا تفعل للآخرين ما لا تريد أن يفعلوه بك» وعندئذ يبين نيتشه الجذور الفكرية والتاريخية التي مهدت لنشأة شخصية «العبد المريض» الذي يعيش في واقع حياته على وتيرة الانفصام في الإحساس والذاكرة والسلوك.
فالعبد حامل للأعراض المرضية لأنه يعاني من الإحساس الجفين بالحقد على الأقوياء لأنه فقير لما لديهم من مظاهرالقوة.
أما على سطح «الذاكرة الواعية» فإنه يميل إلى المجاملة والنفاق وتصنع الكبرياء وتصعير الخد عبر الرفع من قيمة تقديس «شعار الحقيقة والحكمة والسلم» واحتقار كل ما له بأحكام القيمة التي لها علاقة برموز ومسميات «إرادة القوة» المساوقة لتسويق «شعار الحرب».
ملاحظة : إن اختيار التأويل الأخلاقي-السياسي لأفول مطلب الكلي الميتافيزيقي في اللحظة التاريخية الراهنة لا يمثل في الحقيقة سوى اختيار منهجي باعتبار أنه لا يبرر مطلقا إقصاء الاحتمالات الممكنة لتأويل إرادة القوة ضمن المسار الوجودي والفني الجمالي الذي يجده مبثوثا في كل الآثار الفلسفية التي خلفها نيتشه.
ومن ثمة نخلص إلى الإقرار بوجود تداخل في المنظورات الجينيالوجية لتأويل تجليات العود الأبدي لإرادة القوة حسب التمشي الذي تميز به المنهج الجينيالوجي سواء بسلوك:
- مسلك التحطيم الجذري لأوهام الذاكرة الميتافيزيقية واللاهوتية والمدونات الأخلاقية التي بررت بشكل مخاتل وزائف يعتمد الموارية والثورية في نشر قيم إرادة الضعفاء الموسومة كلها «بتاء التأنيث» كالحكمة والرحمة والشفقة والعدالة والمساواة والفضيلة.
- أو سلوك مسلك الاستعاضة عن أحكام القيمة المحايثة لإرادة القوة بوصفها قيم المستقبل.
هذه القيم التي من شأنها أن تحفز «الإنسان المتفوق» (Le super man) نحو إبداع قيم تتوجه إلى تحرير الحياة من قيم إرادة الضعف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.