مسافة من الذاكرة تقرب من نصف قرن قطعها الكاتب والباحث التونسي »الحبيب الجنحاني« في كتابه الجديد »سمر على ضفاف نهر السان« وهو نصّ سردي كما أراده صاحبه، نصّ متواصل ضَاعَفَ من زمن يوم وليلة باريسيتين قضاهما الكاتب عند ضفة »السان« اليسرى ومعالمها الباريسية القديمة في صيف سنة 2009 فشكّلا زمن القصّ، ليجعلا من زمن الحكاية ما يقرب من الخمسين عاما في تأويل أوّل ومن بضعة قرون في تأويل ثان. فالحبيب الجنحاني تعرّض في كتابه لبعض محطّات العالم الغربي والعربي ومسار بعض المثقفين فيهما خلال النصف الثاني من القرن العشرين مشيرا الى لحظات فارقة في التاريخ المعاصر تحكي إلتحام قضايا الشرق والغرب في تصوّرات النخب وفي الانتقال الماديّ لبعض متعلمي ومثقفي الضفة الجنوبية من المتوسط الى ضفته الشمالية للنهل من معين العلم والثقافة وللمشاركة في رسم ملامح بعض الاحداث هناك من خلال المساهمات القاعدية في التحركات، كإنتفاضة النخب في ماي 1968 التي شارك فيها الكثير من الطلاب العرب، أو من خلال انتقال قسري للحالمين بالحريّة الفعلية من العرب بعد أن أطبق عليهم الوطن. ولكن الكِتَابَ أيضا نبْشٌ في ذاكرة المؤلف القُطرية استوعبت بالحكي مساحة من الزمن أكثر اتساعا هي مراحل بدايات القرن العشرين وانخراط شعوب العالم العربي في حركات التحرّر الوطني لتخليص بلدانها من الاستعمار، ثم هو نبْشٌ أعمق في الذاكرة للبحث عن مُرفدات وعي التحرّر من خلال استحضار بعض أفكار وتاريخ روّاد الفكر العربْ ورافعي راية الحرية الاوائل فيه من أمثال ابن ابي الضياف والافغاني وعبده، ولم يغفل السيد الحبيب الجنحاني تسديد فوهة ذاكرته أيضا إلى المكان فتحدّث عن معالم باريس في خمسينات القرن العشرين عندما كان طالبًا بها، فذكر جامعاتها وجسورها ومقاهيها وفاتناتها وشبّانها وموسيقييها ومناضليها ومثقفيها وزبانيتها... ذكر ضفتيْ النهر بما حملته كل منهما من رمزية الرؤى والاحداث، ذكر اليمين واليسار، ذكرالبورجوازية والعمّال، ذكر الاحلام والرؤى، ذكر الاناقة واللياقة وأجرى مقارنات مفعمة بالحنين ووخز القلب بين باريس التي عايشها في الخمسينات وكانت مراتع الصحب والرفاق، وبين باريس التي جاءها زائرا في نهاية العقد الاول من الالفية الثالثة والرأس يشتعل فيه الشيب وترزح الخيبات... باريس التي جلس في يسارها يومًا واخذه الحنين دوما الى تفاصيله وملامحه وكل محطاته فلم يستطع أن ينسجم مع يمينها حتى ليشرب أحد الانخاب... باريس لدى الكاتب حلم الحريّة وثمنها، وباريس هي الافكار المستجدّة والايمان بالانسان وباريس هي مابقي منها في الذاكرة لتأثيث هذا السمر على ضفاف نهر »السان«.