يستند المشروع الفكري للمفكر محمد الحبيب الجنحاني إلى مفاهيم أساسيّة، هي الأكثر كثافة وتواترا في بحوثه ومؤلّفاته ونقصد بذلك مفاهيم الحداثة والديموقراطية والمجتمع المدني بالإضافة إلى مفهوم الحرية الذي تصب مختلف بحوثه في اتجاهه، حيث يرى أن التنويريين العرب لم يتناولوا قضية الحرية في بداية الأمر بصفة مستقلة، وإنّما أسهبوا الحديث في وصفها وكيف أسهمت في تقدم البلدان الأوروبية. ولأنّه صاحب مشروع واضح المضمون والرؤية، فقد أجرى معه الكاتب ناجي الخشناوي حوارا مطولا ومبوبا، نشره في كتيب من 120 صفحة، وهو حوار شمل مراكز اهتمام الدكتور الحبيب الجنحاني طيلة مسيرته الفكريّة. وفي الحقيقة نضال الجنحاني من أجل تجذير مفاهيم الديموقراطية والمجتمع المدني لم يقتصر على الجانب النظري ولو أنّنا من المقتنعين بأن الكتابة في حد ذاتها فعل، بل أن الرجل قد ساهم في حركة التحرّر الوطني التونسية وناضل سياسيا ونقابيا بعد استقلال بلادنا وهو ناشط ضمن مؤسّسات المجتمع المدني تونسيا وعربيا ودوليا. ورغم أن اختصاص الجنحاني هو التاريخ الاقتصادي والاجتماعي فإن بحوثه الفكرية تلح على ضرورة الاهتمام بالتحديث السياسي، مؤمنا بالتحديث الشامل الأبعاد. وقبل التعرض إلى أهم أفكار الحبيب الجنحاني في هذه المدونة الحوارية من المهم الإشارة إلى طرافة هكذا إصدارات وأهميتها حيث تعتبر نافذة ذات شأن إلى جانب البحوث والمؤلّفات ومن خلالها تتضح نقاط كثيرة ويعتري الضوء الأفكار المغرقة في نخبويتها وقد نجح الكاتب ناجي الخشناوي في حفر في عالم الجنحاني الفكري ويظهر ذلك سواء في المقدمة المطولة والمجتهدة وأيضا في الأسئلة التي أجاد صياغتها بشكل بدت فيه منصهرة في اهتمامات محاوره. الحداثة في خصوص مسألة الحداثة شرح الجنحاني المخاطر التي تتهدد مستقبل الوطن العربي، مبرزا أننا كنا نشكو من فشل الدولة العربية الحديثة التي برزت غداة الاستقلال في مطلع النّصف الثّاني من القرن العشرين في تحقيق الوحدة العربية، أو في إيجاد شكل من أشكال التوحّد العربي، فأصبحنا اليوم نتأسّف، ليس على عدم إنجاز خطوات وحدوية جدية بين الأقطار العربية، ولو في مجالات محدودة وبعيدة عن تعقيدات السياسة مثل المجال الاقتصادي أو الثقافي، بل أصبحنا اليوم نشكو من انهيار الحد الأدنى من التضامن العربي، وأصبحت المنظمات العربية عاجزة عن أداء الحدّ الأدنى من رسالتها، بل بلغ الأمر حدّ ظاهرة التفكّك والتشظي، ليس في مستوى الفضاء العربي ككل، وإنما داخل القطر العربي الواحد. ويسترسل المفكر في هذا السياق متوقفا عند رصد مظاهر التدهور: «ومن أبرز مظاهر هذا التدور وقوع عديد الأقطار العربية تحت محنة الصراع الطائفي والمذهبي، فبعد أن حلمت أجيال متعاقبة بوحدة عربية تقوم على قيم العقلانية، واحترام قيم المواطنة، مما تعددت الرؤى الفكرية، أو تنوعت الانتماءات الإثنية والطائفية، تجد أنفسها الأجيال الجديدة في خضم صراع طائفي ومذهبي مقيت يشغل الشعوب العربية عن قضايا المصيرية. من المعروف أن هناك أخطارا أخرى تنذر بالمزيدم ن التردّي والانهيار مثل تدهور المؤسسة التربوية في جل الأقطار العربية، ومثل التصحّر الثقافي الذي يكتسح المجال العربي برمته، هذا طبعا إلى جانب المشاكل الاجتماعية المزمنة التي تمس بالخصوص مستقبل الأجيال الناشئة». وعبر المتحدث عن تفاؤله بأن المرحلة القادمة للفكر الحداثي العربي ستكون أكثر تجذرا وتأثيرا في حياة الشعوب، لأنها ستفيد من ظاهرتين جديدتين وإيجابيتين: 1) حيوية قوى المجتمع في جل الأقطار العربية. 2) وسائل الاتصال الحديثة التي تسهل عمليات التوصال بين ممثلي هذا التيار في مختلف الأقطار، وذكر الجنحاني في هذا الصدد أنه أسس قبل شهور قليلة في العاصمة الأردنية مع مجموعة من المثقفين العرب تيارا يسمى «تيار الديموقراطيين العرب» وهو تيار فكري حداثي يتبنّى أهداف معينة ذات طابع فكري بالأساس، ويتم التواصل بين المنتسبين لهذا التيار عبر الشبكة العنكبوتية، ثم إن هذه الوسائل الحديثة تمكن التحام الرؤى التحديثية العربية بالتطورات الجديدة لظاهرة الحداثة الأم، وأعني بها حداثة عصر الأنوار. هكذا عالج الحبيب الجنحاني إشكالية الحداثة فكيف قارب قضية العولمة؟ يقول الجنحاني: إن نضال قوى التحرر والتقدم اليوم ضد سلبيات الظاهرة، ينبغي أن لا يوقعنا في فخ تجاهل جوانبها الإيجابية، وهذا ما تنبهت إليه هذه القوى في الوقت نفسه لما طرحت منذ تسعينيات القرن الماضي بصفة خاصة مفهوم «العولمة البديلة»، وبرزت نتيجة ذلك منظمات تنتسب إلى قوى المجتمع المدني في كثير من البلدان الأوروبية، وفي أمريكا اللاتينية، وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، تناضل من أجل عولمة بديلة تحافظ على جوهر الظاهرة الإيجابي وتحدّ من غلوها، ومن استغلالها من طرف القوى الرجعية التي تقود الليبيرالية المتطرفة اليوم، بل تجاوز نضال هذه القوى الحدود الوطنية، ليصبح ظاهرة عالمية، والتي تمثلها اليوم مؤتمرات المنتديات الاجتماعية على غرار منتدى بورتو اليغرو، وبرشلونة، وباماكو، وأخيرا نيروبي، هذا النضال يذكرنا بالنضال الذي قامت به نفس القوى ضد الرأسمالية الأمبريالية، وخاصة في الغرب، وأدى في نهاية الأمر إلى ميلاد ما هو معروف بالليبرالية المعتدلة التي تبنت مبدأ دولة الرفاه، والحد من غلو الاستغلال الرأسمالي، وقد تنكرت له الليبيرالية الجديدة، ومن المؤسف أن نضال شعوب الجنوب من أجل عولمة بديلة، ما يزال ضعيفا وهامشيا، بالرغم من أنها هي المستهدفة الأولى من أدلجة ظاهرة العولمة، كما تبرهن على ذلك الأحداث التي تعيشها المنطقة العربية بصفة خاصة. المجتمع المدني وقد عارض من جهة أخرى الحبيب الجنحاني تلك النظرة التي تتعاطى مع مفهومي المجتمع المدني والدولة بإعتبارهما نقيضين مبرزا تلازمهما وتكاملهما وأنه لا يمكن أن ينهض المجتمع المدني ويؤدي رسالته المناعة والتقدم من دون دولة قويّة تقوم على مؤسسات دستورية تعمل على احترام القانون.