سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الباحث الاجتماعي فؤاد غربال: فتور علاقة الشباب بالشأن العام يعود إلى تراجع دور م عزوف الشباب مفهوم تعميمي و التوجس من المبادرة الخاصة مسالة تربوية وثقافية
السيد فؤاد غربال باحث جامعي شاب في مرحلة الدكتوراه ومختص في علم الاجتماع التقيناه للاستفسار حول عديد الظواهر الاجتماعية كعزوف الشباب عن الاهتمام بالشان العام والهجرة بشكليها والمبادرة الخاصة ورغم انشغاله بالبحث خصنا مشكورا بالحوار التالي: ❊ السيد فؤاد غربال كيف تفسرون ظاهرة عزوف الشباب عن الاهتمام بالشأن العام؟ قبل أن نجيب عن هذا التساؤل دعنا نتساءل ما الشباب ؟ أو من هو الشباب ؟ و هل يوجد تعريف محدد له ؟ و هل يشكل »الشباب« فئة اجتماعية متجانسة لها خصائصها ومميزاتها المعروفة ؟ .في الحقيقة يضل تقديم مفهوم محدد للشباب أمر عصي و محفوف بالمزالق .يرى عالم الاجتماع الفرنسي الراحل »بيار بورديو« أن الشباب ليس سوى »مجرد كلمة« وذلك من منطلق الصعوبات التي يطرحها التعريف العمري للشباب، فالحدود بين الأعمار هي حدود اعتباطية، فنحن لا نعرف-برأي بورديو- أين ينتهي الشباب لتبدأ الشيخوخة مثلما لا يمكننا أن نقدر أين ينتهي الفقر ليبدأ الثراء .بمعنى آخر ليست الفئات العمرية سوى نتاجات اجتماعية ترتبط بسياقاتها التاريخية متخذه أشكالا متعددة و متغيرة بتغير الثقافات والمجتمعات .فلكل مجتمع مفهومه الخاص للشباب يقدمه وفق ما يعتمل داخله من تحولات وتناقضات ورهانات مما يعني أن لكل مجتمع شبابه ولكل شباب قضاياه وأسئلته؟ ولأن المجال لا يسمح بالتعمق على نحو تفصيلي في التعريفات المقدمة حول الشباب يمكن القول أن الشباب هو ظاهرة اجتماعية كلية و لا يمكن أن يعد كتلة متجانسة ولا طبقة اجتماعية و لا توجد هوية اقتصادية نقية له...إنه فئة عمرية مخترقة بالتناقض وبالصراع الاجتماعي وبالتقاطبات الفكرية والقيمية . و يشكل النصف الثاني للستينات وعقد السبعينات ظهور الشبيبة التونسية كظاهرة سوسيولوجية لها بعد جماهيري و ذلك في ارتباط وثيق مع بروز المدرسة العمومية و انتشار التعليم و ارتفاع نسبة التحضر. بالعودة إلى تساؤلكم حول »عزوف« الشباب عن الشأن العام وعن المجال العمومي بشكل أدق ، اسمح لي بشيء من التوجس و التحفظ إزاء مصطلح »العزوف« الذي يخفي بين طياته جملة من الأحكام المعيارية و التعميمية . فمن الناحية العلمية لا يمكن أن نجزم بأن هنالك »عزوف« تام للشباب عن الشأن العام. و ذلك لأننا لا نتوفر على ما يكفي من تراكم للنتائج والإستخلاصات المبنية على قاعدة المعطيات الميدانية و الواقعية ..فما أنتجته الجامعة التونسية في مجال »سوسيولوجيا الشباب« لا يزال قليلا و متناثرا هنا و هناك رغم وجود بعض الدراسات الجادة و القيمة . وهذا النقص في المعرفة العلمية حول الشباب قد يكون عائقا أمام تقديم قراءة متماسكة للواقع الشبابي التونسي في ارتباطه بإشكالية المشاركة في المجال العمومي . هذا من جهة أولى. من جهة ثانية فعندما نقول أن هنالك »عزوف« عن الشأن العمومي لدى الفئات الشبابية فهذا يقتضي التساؤل التالي: مقارنة بمن تعزف الفئات الشبابية عن الاهتمام بالشأن العام ؟ فالإجابة تفترض أن هنالك فئات عمرية واجتماعية أخرى تهتم أكثر بالشأن العام مثل الكهول و الشيوخ و النساء. و يبدو أن مقولة »العزوف« التي تتبناها بعض الخطابات الصحفية و كذلك بعض الفاعلين السياسيين و الجمعويين هي مقولة و مدخل لبناء مواقف أكثر منها أداة لتحليل وفهم ظاهرة اجتماعية معقدة مثل الظاهرة الشبابية في تونس. فإذا ما أردنا أن نقدم إجابة أولية عن تساؤلكم يمكن القول أن عمق الإشكالية يكمن في العلاقة و التصور الذي تمتلكه الفئات الشبابية حول الفضاء العمومي أي بمعنى آخر حول السياسة بماهي أحد المجالات الرئيسية لتدبير الشأن العمومي من منطلق فعل المواطنة الإيجابية ، فهذه العلاقة لا تزال »فاترة« بعض الشئ وهو أمر مرده بشكل عام إلى كون أن الثقافة المدنية لم تتجذربعد بالشكل الكافي لدى هذه الفئات و هذا ما يجعلنا نتساءل عن دور مؤسسات التنشئة السياسية و المدنية ودورها في ترسيخ تلك الثقافة و مدى نجاحها في دفع »الشباب« إلى المشاركة الفعلية في »الحياة العامة« ، فبعض من تلك المؤسسات أو الأطر لا تزال تشتغل بمنطق »الوصاية« و»ثقافة المجتمع الأبوي« في تعاملها مع »الشباب« وهذا أمر قد يعيق اندماج الشباب بشكل إيجابي في الفضاء العمومي. كذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار جملة التحولات القيمية التي عرفتها المجتمعات المعاصرة بشكل عام و المجتمع التونسي خلال العقود الأخيرة و هي تحولات قد مست الفئات الشبابية بشكل مباشر . فمع التواطآت الحالية لما يسمى »بالعولمة« تتراجع اليوم الشعارات الإيديولوجية التي كانت تتوهج في النفوس الشبابية المتطلعة إلى عالم أفضل لتخبو وتغدو باردة و ميتة وتتبوأ الرياضة اليوم و كرة القدم بصفة خاصة مكانها ، حيث أضحت هي التي تستحوذ على قضايا الشأن العام لدى الشباب خلال لقاءاتهم وأحاديثهم . بمعنى آخر يعاد في السياق الحالي إعادة تعريف »الشأن العام« ضمن مجتمع الجماهير والاستهلاك حيث لا يستدعي الفرد الحالي إلا ذاته و لم يعد يجسد تماهيا مع قضايا المجموعة و شعارات التحرك الجماعي ، الهموم الجماعية تصير اليوم شأنا نفسيا وفرديا الأمر الذي قاد علماء اجتماع كبار مثل »ألان تورين« إلى إعلان »نهاية الاجتماعي« بوصفه ذلك التركيب المؤسساتي و المجتمعي . كذلك أمسى »الزمن الحاضر« في السياق الحالي هو الذي يغزو الواقع في نظر بعض علماء الاجتماع الحاليين أي أننا صرنا في زمن لحضوي لم يعد يكترث كثيرا بالديمومة صارت بموجبه الفئات الشبابية منخرطة أكثر من ذي قبل في ثقافة استهلاكية تشي بها شعائر المظهرية و قيم الفردانية المتعية. و قد أدت هذه التحولات إلى تراجع و أفول مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية و تراجع دورها في إنتاج الهويات الفردية التي أصبحت تصاغ خارجها وبمعزل عنها و ضدها أحيانا لتتصاعد بلغة توكفيل فردانية منطوية على الحياة الخاصة لامبالية إزاء الشأن المدني العام حيث يهجر الفضاء العمومي كما يرى عالم الاجتماع »ريتشارد سينت« فيترك شاغرا لصالح الفضاء الخاص ، أي الحياة الشخصية و الحميمية ، و هذا التحول لا يجب أن نفهمه دائما بوصفه مجرد »أزمة« مؤسسات تعيشها العائلة والمدرسة بل هو مؤشر على إعادة تعريف للتنشئة الاجتماعية التي كفت على أن تكون مجموعة من القيم و المعايير المتعالية فوق الأفراد: إذا هناك سياق قيمي و معياري جديد يجب أن نأخذه بعين الاعتبار عندما نطرح المسألة الشبابية للمناقشة و التحليل و خصوصا علاقة الشباب بالشأن العام أي علاقتة بمؤسسات المجتمع. كذلك إذا ما عدنا إلى السياق التونسي يمكن أن نتجه إلى القول في اتجاه الإجابة عن تساؤلكم يمكن أن نشير إلى أن هاجس إيجاد عمل فئات كثيرة من الشباب التونسي يشكل أحد الأوليات التي طغت على مسألة الاهتمام بالشأن العام ، ذلك أن العمل يضل هو الممر الرئيسي لكل أشكل الاندماج الاجتماعي . لكن مع هذا يضل دعم المشاركة السياسية و تشجيع الفئات الشبابية للانخراط كقوى فاعلة في الفضاء العمومي المدخل الرئيسي لترسيخ الوعي المواطني لدى هذه الفئة التي تشكل قوة ديمغرافية مهمة داخل المجتمع التونسي . لهذا من المهم والإيجابي جدا أن تتجه السياسة الرسمية التونسية اليوم إلى إحداث مؤسسات تدعم حضور »الصوت الشبابي« في الحياة العامة. كذلك من المهم جدا أن نشير في هذا الصدد إلى أهمية البحث العلمي حول الشباب لأننا لا نستطيع أن نفهم »شباب اليوم« بالاكتفاء بتقديم انطباعات عامة حوله عادة ما تتسم بالتسرع بل إن تأسيس معرفة علمية حول الشباب من الممكن أن يساعد على التعامل معه بشكل أكثر واقعية. ❊ ماهي الأسباب التي تدفع الشباب التونسي للجري المحموم وراء الهجرة السرية والشرعية ؟ الهجرة ليست ظاهرة مستجدة أو طارئة على الفئات الشبابية التونسية فمنذ عقود والشباب يهاجر سواءا بغرض العمل أو الدراسة و لكن ضمن سياق مختلف فرضه مناخ دولي واقتصادي معين ، لكن الملفت للانتباه هو أن الهجرة في السياق التونسي الحالي تتحول إلى هاجس وأولوية شخصية لدى جزء من الفئات الشبابية التونسية ، تترافق مع ظهور أشكال جديدة من الهجرة يطلق عليها في اللغة السائدة مصطلح »الحرقة« أو الهجرة السرية ، و هذا يمكن تفسيره أولا و بشكل أكبر بنزوع الشباب نحو العثور على أفاق أفضل للعمل و التخلص من البطالة ، لكن البطالة لا تفسر ضرورة كل شئ ، بل إن المسألة متعلقة أيضا بالتمثلات و الصور التي يمتلكها الشاب حول الهجرة إلى الدول الأروبية خاصة ، فهناك اعتقاد سائد بأنه من الممكن تحقيق الثروة في أسرع وقت هناك وبالتالي تحقيق الإعتراف الاجتماعي و الاندماج في مجتمع الاستهلاك و هي صور تدعمها بغض وسائل الإعلام و كذلك بعض المهاجرين الذين يأتون خلال الصائفة لقضاء عطلهم حيث نجدهم بوعي منهم أو بدون وعي منهم يستعرضون بشكل استفزازي نجاح مشروعهم الهجروي من خلال السيارات المرفهة و تشييد المنازل و إقامة الحفلات ...إلخ . و لكن الأسباب تضل متعددة و لا يمكن أن نقتصر على سبب واحد . ❊ ماهي الأسباب التي تعطل المبادرة الخاصة لدى الشباب وتجعله ينتظر الوظيفة العمومية عوضا عن الانتصاب للحساب الخاص؟ المبادرة الخاصة وقبل أن تكون سياسة تشغيل توختها الدولة هي بدرجة أولى ثقافة تتأسس على جملة من المعايير والقيم مثل قيم الفردانية والمسؤولية والعقلانية والاستقلالية والقدرة على التواصل العقلاني واتخاذ القرار والمفاوضة وقبول المخاطرة وهذه القيم لم يتعلمها »الشاب التونسي« وذلك بحكم التنشئة الاجتماعية التي تلقاها بدءا من العائلة وصولا إلى المدرسة ووسائل الإعلام . فالشاب الذي ترسخت لديه منذ صغره فكرة »أن الحل موجود في كراس المعلم« وان الحلول الحقيقية هي التي تقدمها الدولة لا بد أن يكون مترددا و متوجسا من الانتصاب للحساب الخاص وان يضل في انتظار الوظيفة العمومية . فالمسالة إذا هي مسالة تربوية وثقافية بدرجة أولى.