ثمة مشاهد تحتاج الكثير من الألوان لرسمها، وأكثر من عينين لقراءتها، وأكثر من عشرة أصابع للإشارة. فهي لا تمتثل للإجابات ولا تقبل أحكام القيمة. ولو حاولنا رسم حال المرأة التونسية (من أعلى المشهد) لوجدناها حرّة ومتميّزة، تتمكن على رزمة من التشريعات، على تعدّد نصوصها وثقلها، يجعل لها خفّة الوجود وكثرة التواجد وسنوات من »الخروج«. خرجت من البيت ومن رداء الشريعة. خرجت من الأميّة ومن الوصاية الذكورية. خرجت من بيت الحريم ومن الدونية. هل خرجت؟ خرجت، و »الباب« لازال يدعو لعودتها، خيوط الجذب لم تنقطع. وأصوات تهتف إلى الخلف. والخطوات تثقل. خرجت دون رضى أغلب أهلها... وإن أنكروا. *** لقد مكّنت الدولة التونسية المرأة من أهم حقوقها المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكانت بذلك مثالا في المنطقة العربية، حيث لا يمكن أن نجد تشريعات تفرض المساواة أفضل مما عندنا (داخل فضائنا الإقليمي). وإن عرفت تونس نصوصا مؤسسة لهذه الحرية وأهمّها كتاب الحداد، فإنها لم تعرف حركة نسوية كبيرة ناضلت من أجل هذه المكاسب، ولا مراكمة مبادرات صنعها مجتمع مدني بقصد الإصلاح أو الثورة. حيث أن مشروع »بورقيبة« المجتمعي كان الأساس لكلّ المكاسب التي تحقّقت، فلقد فرض الرجل تصوّره الإصلاحي وكان »المُجتهد« الأكبر، وقدّم للجمهورية أحد أهم شروطها. ويجب النظر إلى هذا المشروع في سياقه التاريخي، وبناء على خصوصيات المجتمع لحظة إصدار »مجلة الأحوال الشخصية« التي تعدّ حدثا ثوريا لم يتمثّله المجتمع التونسي إلى حدّ الآن بصيغة فكر يفترض جملة من القيم التي تهزّ الأسس، ولكنّه ساير »القوانين« و »الإجراءات« وانخرط في سياسة الدولة وغلبته السّنون التي تلت الحدث وغلبةُ الأمر الواقع وإثبات التونسيات جدارتهن التي هي ولا شكّ عند كل النساء، وبإمكان المرأة السعودية (مثلا) أن تصنع لبلادها الكثير لو َتفتكّ أو تُمنح حقوقها. *** فرض بورقيبة رؤيته في المسألة الاجتماعية مع بدايات تأسيس دولة الاستقلال، فكانت حريّة المرأة جزءا من التغييرات العميقة وانخراطا شعبيا في تتبع خطى »الزعيم« وانضباطا ل »توجهاته«، ولم يكن لأحد من سلطة غيره، ولم تكن ثمة من مؤسسة قادرة على فتح النقاش. وإنما كانت الاحتجاجات »أخفت« من أن تذهب في الشارع التونسي الذي كان ولاء أغلبه للقائد المٌخلّص والحزب المُحَرّر. *** في أعلى المشهد، أصبحت للسيدات وظائف هامة في الدولة، واقتحمن أغلب المجالات التي كانت حكرا على الرجال. وما يرفضه الرجال، يفرضه القانون وعزم نساء عملن على إثبات جدارتهنّ ولم يتراجعن. في أعلى المشهد، صورة المرأة التونسية متميّزة جدّا ولا أحد يمكنه التشكيك. ولا أحد يمكنه أن يجادل الدولة إلا فيما يصعب الخوض فيه، أو ما تعتبره متعارضا مع ما أصطلح عليه ب »الهويّة الوطنيّة« وهي عند الكثيرين مرادف لما يُعرف ب »الهوية العربية الإسلامية«، والثانية مركّب يستعمله العرب شرقا وغربا ويؤوّل بكلّ صيغة تطرّفا وإصلاحا وما بينهما لا يُعدّ. إذا... في أعلى المشهد، (أيضا) مازالت الشريعة مرجعا أساسيا بمسافة معقولة لكنّها لا تبعدنا عن »الباب« الذي خرجنا منه، و»الشريعة« مسألة خاضعة للتأويل والاجتهاد، وتلبس أكثر من خطاب ولها أكثر من سكنٍ أسفل المشهد. *** أسفل المشهد، »تعود« المرأة كلّ يوم، ولازال المجتمع الذكوريّ يستقوي بإرث تراثيّ ثقيل ليُحكم سلطته. إرث تتحرّك بين ركائزه المرأة كما الرجل، وغالبا ما تُسلّم وقد لا تجد ذاتها إلا فيه لحاجتها إلى مرجع مجتمعي لتمثّل أدوارها وفضاءاتها ومسالك حياتها طورا بطور، ولخلق تصوّر لما يجب أن تكون عليه وبه. وغالبا ما كان المجتمع سائلا مؤسسات الدولة ومطالبا ومتقدّما في تصوّر احتياجاته خاصة تلك المرتبطة بالحرية والعدالة، إلا أن المؤسسة التشريعية التونسية كانت متقدّمة على المجتمع فيما يخصّ وجود المرأة قانونا. ولا زالت ضروب الاضطهاد تطال المرأة، »باسم العادات والتقاليد« وباسم الله. *** أسفل المشهد، تحمل لغة اليومي معجما مكثّفا قامعا مُذلاّ يحطّ من قيمة المرأة، أو هو يقدّم ألوان صورتها، بعض الألوان أصباغ قديمة وبعضها حداثة/أصوليّة. والمعجم حمّال معانيه ومقاصده وفاضح ما يسكن العمق وما يُورّث من تهجية الحرف إلى زغاريد ليلة الدخلة. وما ينطقه اللسان يحفظ في أعضاء الذكورة وأعضاء الأنوثة، ويسكن خطو امرأة تمرّ أو فخذا يُطلّ.. ويسكن ألعاب الأطفال، ووصايا الأمّ لابنتها والأب لابنه، والأمّ لإبنها، وعينا الأب ترقب ابنته.. يسكن الحكايا الشعبية، والسيرة والرواية.. وقيل أنها أمور جاء بها »الكتاب«. *** أسفل المشهد، استثمر من يملك العمل ما أعطت الدولة، وحدها الدولة لا تميّز في العمل. تونسيات بعدد الآلاف المؤلّفة تُسرق منهنّ ساعات كثيرة من اليوم، وسنين من العمر، يخرجن من ظلمة الليل ومن ظلام »اضطهادات« البيت إلى المصانع والمتاجر والحقول فيأكلهن الاستغلال إلى العظم. القوانين المنظمة موجودة، لكنّ أغلب ما يقع في الواقع خارج القانون، وبعيدا عن العدل ومرتكزا على رؤية دونيّة للمرأة التي مازالت تلك الناقصة عقلا والناقصة قوتا، قد تكون معيلة أطفالها أو أبويها ولها أن تأكُل القليل أو تبيع الكثير. *** أسفل المشهد، تُرسم المرأة بورنوغرافيّا، ولا شيء هي: أقلّ من جسد، شيء صالح للمتعة. لولا بعض قصص الحبّ التي تتكرّر منذ الأبد. أسفل المشهد، النساء متضرّرات بالفقر أكثر، ولحم النساء »يُأكل« في كل زاوية ويُفرم في وسائل النقل العموميّة، وفي المستشفيات المكتظة، ومبيتات الطالبات المحشورة بهنّ، وفي العلب الليلية، وفي العناية بالأبناء وأشغال البيت، وفي ارتفاع الأسعار، وفي الشتائم، وفي »لعنة« الأنثى... *** من أعلى المشهد إلى أسفله، المُكتسبات مهّددة، والأصوليات تخرج من كلّ زاوية وتتعدّد، تُشهر معاول هدم مشاريع لم تكتمل أصلا، وتريد »جزْم« »أفعال ناقصة« وسحبنا إلى الخلف. تخرج الأصوليات من الخرافة، ومن الأحزاب الدينية، ومن القنوات التلفزيّة، ومن خطبة الجمعة، ومن الفراغ السياسي، ومن فقر المجتمع المدني، ومن غياب صحافة حرّة وتقدّميّة، ومن استثمار الدولة للدين، ومن الغلق والتكميم، ومن هيمنة الحزب الواحد، ومن أحزاب غلق الباب على الممكن، وجمعيّات غلق الآفاق على الفعل. تخرج الأصوليات من وجع الفقر والشعور بالاضطهاد. وخوفي أن تسكن أصولية سلطة الدولة. *** من أعلى المشهد إلى أسفله، تتداخل الخطوط والألوان، ونُأخذ ما بين فخر بوضع امرأتنا وخوف على حاضرها ومستقبلها. ويقول المتفائلون و »الهتّافون« ما تعوّدوا، ويندّد المتشائمون على خجل.