هل تستطيع الحكومات تحقيق النمو السريع والتشغيل الكامل والسيطرة على اتجاهات التضخم والمحافظة على توازن التجارة الخارجية في آن واحد أم أنّها معجزات لا تتحقق دفعة واحدة؟ وإذا كان اقتصاد السوق يتميز بالنمو غير المنتظم وغير المتوازن، كيف يمكن امتصاص الأزمات الاقتصادية وإخماد التقلبات الدورية؟ هنالك اتفاق دولي على تحفيز النمو الاقتصادي العالمي منذ مطلع العام 2009 للخروج من أزمة فائض الإنتاج والحد من إتلاف الشركات الاقتصادية وانهيار المؤسسات المالية والبنكية، لكن صانعي السياسات الغربية منقسمون خلال الأشهر الأخيرة حول سبل الإنعاش وكيفية السيطرة على العجز في الميزانيات وعلى تراكم الديون وإصلاح ما بعثره فساد الفاسدين،لاسيما بعد أن غلفت مؤخرا الاقتصاد العالمي غيوم الاضطرابات المالية الناجمة عن سياسات مواجهة الأزمة، ورسوخ الثقة بشأن استمرارية تردئ الأوضاع المالية العامة في بعض بلدان منطقة اليورو بوجه خاص. وقد برز هذا التباين للعيان في قمة الأثرياء مجموعة20 المنعقدة بمدينة تورنتو، العاصمة المالية الكندية، عشية نهاية المؤتمر الدولي الثاني للكنفدرالية النقابية العالمية CSI المنعقد بمدينة «فانكوفر» الكندية، على ضفاف المحيط الهادي، فيما بين 21 و25 جوان 2010 تحت شعار: «من الأزمة... إلى العدالة العالمية»، وفيه انتقلت الأمانة العامّة للكنفدرالية إلى النقابية الاسترالية شاران براو خلفا للانكليزي قواي رايدر، تزامنا مع انتقال رئاسة الحكومة العمالية الاسترالية إلى المحامية غلاي كيلارد 48 سنة . انتقال على رأس الكنفدرالية النقابية يصفه بعض المتابعين لتطور الاقتصاد العالمي بالهادئ، وقد يكون شبيها بالانتقال المرن للسلطة في مركز المسيطرين على تحول وتطور الاقتصاد العالمي، كوصول الأسود باراك أوباما إلى سدة الحكم في البيت الأبيض خلفا لبوش العنيد العنيف، عدو الكادحين ومبعثر الحضارات الإنسانية. فالليبراليون المتطرفون ما انفكوا يحاربون التدخل في حلبة الاقتصاد، ولطالما هاجموا سياسة الدعم والإنعاش، وهم يحملونها دوما مسؤولية الإخلال بموازين التجارة الخارجية وارتفاع الأسعار، على اعتبار أن سياسة تنشيط الاستثمار وحفز النمو ودعم المقدرة الشرائية للمواطنين تقود في معظم الحالات إلى ارتفاع الاستهلاك بنسق أسرع من نسق النمو، فيتنامي الطلب على السلع والبضائع المحلية والمستوردة، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع الأسعار واتساع عجز الميزانيات واختلال الاقتصاد الكلي. ويرى البعض الآخر من الكلاسيكيين أنّ الجمع بين هدفي النمو السريع وتوازن التجارة الخارجية صعب، فحين ينمو الاقتصاد المحلي بنسق أسرع من متوسط نسق نمو الاقتصاد العالمي يختل ميزان التجارة الخارجية ويرتبك الاقتصاد الكلي. ويعلل فريق ثالث من وسط اليمين الانكماش الاقتصادي بوجود خلل على مستوى التجارة الخارجة، إمّا لخفض التصدير أو للإفراط في الاستيراد؛ بينما يبرر المحافظون الجدد تراجع النمو خلال السنوات الأخيرة بنقص في ديناميكية العرض، إمّا فيه قصور، أو أنه غير متكيف مع الطلب، أو أنه محبط بالغلاء. وعليه، لا سبيل للخروج من الأزمات الاقتصادية والمالية إلا عبر سحب التدابير التنشيطية وتشديد السياسات النقدية وخصخصة الشركات الاقتصادية والمؤسسات المصرفية والمالية وإقرار سياسة عدم التنظيم؟ كم هي تعيسة وفقيرة سياسة حل الأزمات عند الليبراليين المحافظين !! أهي كلب حراسة الرأسمالية، أم تيار في خدمة العملات الصعبة وتهميش الآخرين ؟! وهيكليا بالإمكان أعزائي القراء شرح جمود التنمية عند الكثيرين خلال السنوات الأخيرة وتراجع نمو الاقتصاد العالمي وارتفاع البطالة بهيمنة وسيطرة المركز على تحول وتطور الاقتصاد الرأسمالي العالمي المعاصر، واحتكاره للتكنولوجيا العصرية والعلوم الحديثة والموارد المالية، مع إدماج اقتصاديات الأطراف في شبكة التقسيم الرأسمالي الدولي للعمل بميزان التخصص من أجل تثبيت وإدامة الموقع المتخلف والتابع لأهل الجنوب. كما لا ننسي أيضا أعزائي القراء شرح الانكماش الاقتصادي واختلال الميزانيات في عالمنا الحديث بالفترة الفارغة التي تعشها الرأسمالية العالمية في كل مرحلة من مراحل ما بين ثورتين تكنولوجيتين ، إضافة إلى تعاظم ضغوط المجتمع المدني الرامية إلى كسر شوكة التصنيع الفوضوي بهدف الحفاظ على سلامة تراثنا البيئي. وثمة تفسيرات أخرى لضعف النمو والتنمية في بلدان الأنظمة الشمولية المستهزئة من حكم القانون والشافية، ومن بين هذه التفسيرات نجد ما هو مرتبط بثقل البيروقراطية وبتفشي ظاهرة الفساد المالي والفساد الإداري وتهميش الكثير من الكفاءات في المؤسسات والشركات والبنوك. والنتيجة تقويض الاقتصاد، وارتفاع ضحايا الفقر والحرمان والأمية والأمراض المهنية، وتشويه النسيج الاجتماعي مع تعميق الفوارق الطبقية لصالح النخبة السياسية المسيطرة على جميع دواليب الدولة والشركات الاقتصادية والمالية والمؤسسات القانونية والقضائية. وهذا ما يؤدي، في نهاية المطاف، إلى اندلاع الموجهات النقابية والحقوقية والجماهيرية، إضافة للصراعات الأهلية والعرقية والطائفية في عدد من بلدان العالم التابع المتخلف، المستهلك للعلوم والتكنولوجيا، الساخر من ثقافة الديمقراطية والحرية. صراعات سرعان ما تقتنصها القوى العظمي حال نشوبها، هذا إن لم تكن هي ضالعة في تفجيرها؛ وسرعان ما توظفها، عبر سلاحها المالي والتكنولوجي والاستخباراتي وأحيانا العسكري، في اتجاه استعمار فرض النفوذ الاقتصادي والتجاري، في اتجاه بوصلة بسط السيطرة السياسية والثقافية. تحقيق النمو المستقر والمستمر أي تحقيق النمو السريع والتشغيل الكامل مع الحفاظ على سلامة توازنات التجارة الخارجية والسيطرة على معدلات التضخم هو أفضل ما تنجزه الحكومات على المدى القصير. لكن اقتصاد السوق المنفتح على الخارج، وبوجه خاص في زمن العولمة، كزمن احتكار بوش الصغير لمصير العالم، لا يقبل أن تتعايش فيه هذه الأهداف مجتمعة. فالبعض منها متنافسة النمو السريع وتوازن التجارة الخارجية ومتباغضة التشغيل الكامل واستقرار الأسعار ، كبغض بوش الثاني لبن لادن والظواهري. والبعض الآخر متسامحة استقرار الأسعار وتوازن التجارة الخارجية ومتكاملة النمو السريع والتشغيل الكامل ، كتكامل قوات التحالف في تحطيم العراق العربي، زمن تباغض وتنافس أنظمة لغة الضاد. وعليه، يفترض أن تتأقلم الحكومات مع الأوضاع الاقتصادية والمالية، المحلية والدولية، في عهد السلم كما في عصر الكوارث والحروب؛ ومع أحوال المجتمع وهياكل الاقتصاد، في زمن تكاثف الغازات الدفيئة وارتفاع ضحايا الأمراض الفيروسية؛ ومع عقيدتها الفكرية ونضجها السياسي، في عصر السرعة والدقة والغدر، كغدر بوش الصغير لحلفائه العرب، وكسرعة انصياع بعض الأطراف لأوامر واشنطن دون قيد ولا تردد؛ والتكيف مع أوضاع الكادحين عند ترتيب أولوياتها الاقتصادية وبرمجة عملية تصيح هذا الاختلال أو ذاك. أو السير مثل الكفيف الذي يتابع خطاه بالاعتماد على حواسه وعلى عصاه البيضاء، طورا يتقدم إلى الأمام، وطورا آخر يتوقف عندما تختلط أمامه السبل ويتبعثر عنده عهد الأمان، ألا وهو سير التقشف طورا ثم الإنعاش طورا آخر stop- and- go، أي اللجوء إلى سياسة الضغط المرتفع زمن الانكماش وارتفاع البطالة، وإلى سياسة الضغط المنخفض في وقت التضخم وتدهور ميزان التجارة الخارجية. فالحكومات الليبرالية من أشهر الراقصات في الحرّ كما في البرد، أكثر حتى من الراقصة الروسية والتي اختارها كاينز أن تصبح زوجة له، رغم أنّ انزلا قات الرقص غالبا ما تهدد الراقصات والراقصين بفقدان ثقة الجماهير، الله همّ إذا كانت صناديق الانتخابات الشفافة والنزيهة مسلوبة أو مفقودة