بعد أن استعرضنا استنطاقات القيادة النقابية تبيّن لنا أن أركان جريمة المؤامرة على أمن الدولة الداخلي والخارجي في قرار ختم البحث قد تمثلت في زيارة الحبيب عاشور الاولى والثانية الى ليبيا والتنكر للميثاق الاجتماعي واحتداد لهجة جريدة الشعب لسان المنظمة الشغلية والقيام بإضرابات دورية احتجاجا على التهديد باغتيال الحبيب عاشور الى آخر ما تمّ ذكره في الحلقات السابقة. وذكرنا أن استنطاقات قاضي التحقيق بدأت في أواسط شهر مارس 1978 أي بعد حوالي شهر ونصف بمقرات أمن الدولة جرت فيها الأبحاث واستنطاقات لم يقع إطلاع المحامين عليها بالرغم من طلباتهم المتكررة وحتى التحقيقات التي كانت تجرى من طرف قاضي التحقيق لم نتسلّم محاضرها الا قبل خمسة أيام من المحاكمة. وكان قد سبق هاته الاستنطاقات حديث مطوّل للوزير الاوّل بالفرنسية أدلى به للجريدة المغربية (ماروك سوار) وأصدرت جريدة العمل لسان الحزب الاشتراكي الدستوري ترجمة كاملة له بتاريخ: 5 مارس 1978 فقال: (تمّ إبرام الميثاق الاجتماعي في جوّ مشهود ضرورة أنه حصل بمرأى ومسمع من كل الناس وحتى أن الاذاعة والتلفزة أسهمت في نشره وإطلاع الناس عليه. وقام المسؤول الاول عن المنظمة النقابية بجولة عبر البلاد لشرح الاتفاق والتنويه بمزاياه وتقديم الثناء الى الحكومةمن أجل ذلك وبعد بضعة أسابيع حلّ بتونس الكاتب العام للمنظمة العالمية للنقابات الحرّة السيد »كيرستن« ضيفا على الإتحاد العام التونسي للشغل ومعه ضيف آخر تابع أيضا للمنظمة النقابية العالمية فما كان منهما الا أن نوّها بمزايا هذا الإجراء الذي اعتبره الكاتب العام للنقابات العالمية الحرّة نموذجا فريدا من نوعه في بلدان العالم الثالث ولربّما يكون في إمكان البلدان المتقدّمة أن تحتذي بمثاله وهذه هي عبارته لا تبديل فيها ولا تغيير. وممّا لا شك فيه أنّ هذه الشهادة بحسن السلوك من الوجهة الاجتماعية قد اعتبرها، جميع الناس نتيجةتعاون قائم على أوثق الوجوه بين كل الاطراف الاجتماعية أي بين ممثلي العمل والاستثمار والمستهلكين وشرعنا في تنفيذ المخطط الخامس في مثل هذا الجوّ من الوئام ولا أنسى أن أقول انه اعترضتنا أحيانا بعض صعوبات في تطبيق العقود لكن الذي فاجأنا هو حصول حادث أثناء مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل المنعقد في شهر مارس (77). وصورته ان بعض النقابيين من بينهم بعض الإطارات قد وقعوا على عريضة رفض ذلك الميثاق الاجتماعي بدعوى أن القاعدة لم تستشر في شأنه وطالبوا بناء على ذلك بإعادة النظر فيه بيد أن المؤتمر لم يجاريهم في هذا المجال وصادق على الاتفاق لكن هذا لم يمنع من اندلاع الاضرابات وتكرار الانقطاعات عن العمل خاصة في القطاع الدولي وهو القطاع الذي يدفع أوفر قدر من الأجور إذ أنّه يستخدم قرابة 35٪ من جملة العاملين ويدفع 56٪ من جملة الأجور. لقد حاولنا بواسطة الحوار تدارك الوضع لكننا لمسنا أن لهجة صحيفة المنظمة النقابية أخذت تزداد حدّة وعنفا الأمر الذي لم يكن لنا عهد بمثله حتى انه لم يكن يدور في خلدنا في ذلك الوقت ان صحافة منتصبة لمعارضة يكون في مقدورها ان تسلك في مقالاتها سبيلا أشد عنفا ممّا سلكته الصحيفة الناطقة بلسان المنظمة الشغلية. ومع ذلك فليس التطرف ولا رعونة التعبير هما اللّذان كانا يشغلان بالنا كثيرا، ولو أنهما يتسببان في إفساد جوّ الوئام. لكن كان هناك ماهو أدهى وأمرّ. كان هناك شعور بالحقد وعودة الى حرب الطبقات وهذا مناف لسياستنا التي أعددناها وقبلها الاتحاد العام التونسي للشغل وأعلن اقتناعه بها والاسهام فيها وهي السياسة التي تعني رفض التطاحن الطبقي وإقرار سياستنا الإنمائية على ما نسميه بالوحدة القومية التي هي تعبير عن التضامن القومي بين جميع الاطراف الاجتماعيّة. كلّ الوسائل الصالح فيها وغير الصالح قد استعملت لهذا الغرض وتفجّر الوضع بصورة جدّ مكدرة في أواخر شهر سبتمبر 1977 الذي صادف حلول شهر رمضان وفي هذا الشهر يكثر الاستهلاك كما هو معلوم وترتفع بالتبع لذلك أسعار الخضر والغلال الفصليّة وغيرها على ان هذا الارتفاع لئن حصل بالفعل الا انه لم يكن بالدرجة من الفداحة التي أرادوا تهويلها بدليل ان المنتوجات الاساسية كالحبوب والزيت والسكر والقهوة وكثيرا غيرها بقيت أسعارها على حالها وثمة منتوجات أخرى إمّا أنها تتمتع بالإعانة من صندوق التعويض أو بالخفض من الآداءات الموظفة عليها وهذا ما أفضى الى مشاكسة طفيفة ثمّ إلى تحكيم من قبل رئيس الدولة وبذلك وضع كلّ طرف أمام مسؤولياته. وفي الحال رجع الجميع شيئا ما الى الرشد). ويتابع الهادي نويرة: جرى هذا في شهر أكتوبر. وفي أواخر ذلك الشهر جدّ حدث أثناء سهرة »كحولية« بين جمع من المدمنين على معاقرة الخمر وكان الجمع مختلطا بين الجنسين وبمحضر عونين من الشرطة كانا هناك بمحض الصدفة، وأثناء مشادّة بين اثنين من أفراد ذلك الجمع صدر تهديد مجرّد تهديد باغتيال السيد الحبيب عاشور. وأنا الذي باشرت المحاماة منذ أمد طويل. أعلم حق العلم أن اللذين يهددون غيرهم بالقتل هم إمّا مجانين أو سكارى. والسيد الحبيب عاشور لم يعر هذا التهديد أية أهمية، وقد صرّح لأحدى الوكالات الإعلاميّة »إني هددت بالقتل لكنني كنت بعيدا جدّا عن المكان الذي صدر فيه التهديد وقد وقع التهديد على بعد 140 كيلو مترا من تونس«. إذن فمهما يكن بعد مرمى القذيفة وحتى ولو أدخل التهديد حيّز التنفيذ فقد كان من المؤكد ان يظلّ محافظا على سلامته. لكن ما راعنا إلاّ ومنظمة الاتحاد العام التونسي للشغل تعلن عن شنّ إضرابات دورية في جميع القطاعات. ولما سؤل السيد عاشور عن مبرّرات لهذا الوضع قال: »لست أنا الداعي إليه بل هم رفاق ولا قدرة لي على معارضتهم«. وبالطبع فإن هذا لا يعتبر جوابا شافيا وهذا يدلّ على ان القوم متحفزون لاستغلال أي حدث لبثّ الشغب وقد كان هذا الموقف جدّ مكدّرا لانه أدخل أوّلا الإضرابات على حياتنا الإجتماعية والإقتصادية ثم أنه صادف أن حدث في وقت كانت فيه ندوتان دوليتان منعقدتين بتونس احداهما ضمّت وزراء الشؤون الخارجية للدول العربية والاخرى اشترك فيها وزراء الصناعة العرب. وكان ذلك ينمّ عن انعدام الشعور بالمسؤولية أو بالأحرى عن سوء نيّة لانه كان في الإمكان ان يتمّ التعبير عن التضامن بصورة لا يكون فيها مساس بسمعة تونس وإشعاعها في الخارج وفي ذلك الوقت بالذات كنت استقبل بين الحين والحين مسؤولين من بين أشقائنا العرب ولم يتمالك أحدهم وهو من أعلاهم منزلة أن خاطبني بقوله لقد أصابتكم العين كما يقولون. وعندما يدعو النقابيون رجال التعليم في مجموعهم الى إعلان الاضراب غير عابئين بإلقاء (1.250.000) من فلذات أكبادنا في الشوارع أفلا يكشفون عن مدى استخفافهم بمسؤولية المربّين الذي أنيطت بعهدتهم أمانة الحفاظ على أبنائنا. لقد قلنا أن هذا الاضراب ليس إضرابا تضامنيا للتعبير عن العطف تجاه زميل معيّن لانه في الامكان ان يعبّر عنه بصورة أخرى كأن يعقد اجتماع كبير يقدّم له في خلاله إكليل من الزهور والورود مثلا. لقد قلنا أنّ ما وقع لا يعدو أن يكون تظاهرا سياسيا بكلّ ما للكلمة من معنى، وكنّا نرى بين الحين والحين أنفارا يتجمعون في أكبر شارع من شوارع تونس ويأخذون في التظاهر وهذا لم نعهده في بلادنا من قبل وعلمنا ماهو أفدح من ذلك أن هذه المجموعات من المتظاهرين بصورة غير قانونية معكرين صفو الامن العام خصوصا في الأوقات التي يكثر فيها الزحام كانوا كلّما جاءت الشرطة لتشتيتهم لاذوا بالفرار مرجئين مظاهرتهم الى الغد بحيث ان هناك اتفاقا بل تواطؤا قد أدرك شرهما كلّ الناس. وثمّة حادث آخر تسبّب فيه إضراب شنّه عملة في مصنع كبير للنسيج في إحدى مدن الساحل التونسي وهي مدينة قصر هلال التي شهدت ميلاد الحزب الإشتراكي الدستوري. وهذا المصنع يضمّ ألفا ومائتين من العملة وكان هذا الاضراب إضرابا من نوع خاصّ لانه لم يشمل فقط أقرباء المضربين بل شمل أناسا آخرين لاسباب بيّنة فقد ظهرت في تلك الفترة أزمة النسيج عندما سلكت المجموعة الاقتصادية الأوروبية سياسة حمائية عدوانية وكنّا تنبأنا بذلك منذ سنتين وقد نبّهت أصحاب صناعة النسيج الى ذلك مشيرا عليهم بأن لا يكثروا من الاستثمار ومن تنمية صناعتهم لأن السوق الاوروبية ليست مأمونة وعليه فإنه يتعين عليها ان تسير وئيدا. ثم أننا كنا بدأنا نحن أنفسنا في المسؤوليات التابعة للدولة بتغيير وجهة صناعتنا فأنشأنا معملا جديدا هاما جدّا وعصريا جدا لنسيج »البلودجين« باشتراك مع مؤسسات أجنبية تتولّى تصريف الإنتاج لكي لا تحدث بطالة في حالة توقف معامل أخرى. ونظرا لحداثة هذا المعمل وبما أنّه كان علينا أن نواجه مزاحمة شديدة في هذا الميدان فقد اقتضى الحال تنظيم العمل بطريقة جديّة. وإقرار مقاييس مضبوطة للإنتاج وبذلك لم يبق بإمكان العمال أن يبارحوا العمل بين فينة وأخرى للاستراحة أو لاحتساء كأس من الشاي فأثارت هذه المسألة الاستياء. وهناك أيضا قضية فواضل الأقمشة التي كان يتداولها العمال، الا ان الادارة أنشأت كما هو الشأن في كلّ مصنع عصري فرنا لإحراق هذه الفواضل وبذلك زالت هذه الفواضل التي كانت تتخذ ذريعة لتغطية عمليات معينة فنتج عن ذلك نقص في أرباحهم كلّ ذلك خلق مناخا معيّنا فشنّ الاضراب واحتلّ العمال المصنع واضطررنا لدعوة قوّات الأمن الى التدخل. وقد صحب هذا الاضراب تمرّد في البلدة وكان التضامن كاملا أو يكاد إلى درجة تثير الشكوك. وأول ما يتبادرالى الذهن هو كيف ان مصالح الاستعلامات لم تكن على علم بهذا الاجماع. فعلا ظلت البلدة طيلة ثلاثة أيام أو تكاد في حالة أشبه ما تكون بحال الحصار ثم إلتجأنا بعد ذلك الى قوّات الجيش لفك الحصار. وقد توصلنا الى ذلك دون خسارة كبيرة لكننا شاهدنا تمرّدا حقيقيا وقد عثرنا على فتائل محرقة وعلى كميات من البنزين الذي تمّ خزنه في أوعية فوق السطوح بالاضافة الى فرق معدّة لمعارك الشوارع لكلّ فرقة قائدها وكلمة سرّها كل ذلك يبيّن لكم كيف ان كل شيء كان منظما وبالطبع كانت الاستعلامات العامّة غير موجودة وكانت الشرطة غائبة أيضا وقد تدبرنا الأمر لارجاع النظام الى نصابه وعندما عادت المياه الى مجاريها أدرك الناس هول ما حلّ بهم وأفادنا كل واحد بما لاحظه أثناء الحادثة والحقيقة أنّ الواقعة كانت بمثابة التمرين العام لادوار المسرحية. حدث كلّ ذلك في شهر اكتوبر وفي شهر ديسمبر أجري تحوير وزاري كما يحدث في كل بلدان العالم وبارح الحكومة وزيران أحدهما كانت بعهدته مسؤولية حفظ النظام وتبعهما ثلاثة آخرون. على ما أظن فاستقالوا فجعلت منهم المنظمة النقابية أبطالا وأظهرت للرأي العام هذه العملية في شكل تصلب من قبل السلطة وهو تصلّب إن شئتم حيث أن الامر يتعلق بتواطئ بين اللذين يتمثل واجبهم في حفظ النظام وبين الذين يعكرونه لكنّّ تصلب لفائدة المصلحة العامة وإذا بهؤلاء ينبرون لحمل لواء التحرّر). وأنهي هنا هاته الحلقة والتي استغرقها حديث الهادي نويرة الوزير الاول لجريدة »ماروك سوار« وقد نقلت هذا الحديث أو بالاحرى هذا الجزء من الحديث لأبيّن للقراء الكرام وكان قد سبق لهم ان تعرفوا على استنطاقات قاضي التحقيق فتبيّن ان هذا الاخير قد اتبع خطى الهادي نويرة بل إنّ ما اعتبره حاكم التحقيق عناصر تكوين جريمة التآمر على أمن الدولة الداخلي هي عناصر مستوحاة من حديث الهادي نويرة بل كان التمشي الذي اتبعه قاضي التحقيق في استعراض عناصر الاتهام قد سبق بها الهادي نويرة في حديثه الذي أدلى به في أوائل شهر مارس، بينما لم يتمّ جلب القيادة من إدارة الامن الى التحقيق الا بداية من النصف الأخير لشهر مارس، وسيدرك القارئ بنفسه كيف ان المرحوم الهادي نويرة غيّر الحقائق وكيّفها كيفما أراد ولكن لم يقنع أحدا بأن النقابيين تآمروا على الأمن الداخلي للدولة. وسأتابع في الحلقة القادمة سرد بقيّة حديث الهادي نويرة للصحيفة المغربية.