لقد ظلّت معضلة العنف المسلّط على الطفولة، من المحاور الفكرية والفلسفية والبيداغوجية الحيوية في علم الإجتماع وعلم النفس الإجتماعي وعلوم التربية، ومن المشاغل الأساسية القارّة لخبراء الإختصاص ورجال التعليم والأولياء ومكوّنات المجتمع المدني والرأي العام في بلادنا. فالحياة المدنية اليومية تبوحُ كلّ يوم بأنّ الطفل التونسي يتعرّض للعديد من أنواع العنف، وهي لا تتساوى أبدًا في خطورتها، ويمكن حوصلتها في ما يلي: 1 العنف الإقتصادي البغيض، والمتمثّل في تشغيل الأحداث دون السن القانونية، وإمتصاص عرقهم وقوّة إنتاجهم ويفاعتهم مقابل أجور زهيدة، وإستغلال الكثير منهم في تعاطي الأعمال المشبوهة الشنيعة والزجّ بهم في سراديب الجريمة المنظمة. 2 العنف الرّهيب الإرهابي المتأتّي من »كرتال« الإعلام الرخيص الذي يخرّب الوعي ويُبلّد الذهن، ومن أوكار الثقافة المتفسّخة التي تُشَعْوذُ العقل وتُدنّسُ القيم السامية. 3 العنف الإيديولوجي والسياسي المنظّم: متمثّلا في زرع اليأس والبؤس والإحباط والخنوع، وترويج أفيون الجهل والشعوذة ومظاهر الإنحطاط الحضاري وأساسيّات الثقافة الغيبيّة ومصادرة الحقوق والحريّات الحيوية والنّزوع نحو الإستبداد الفردي وديكتاتورية الأقلية الطبقية وخنق الأنفاس. 4 العنف البدني المباشر داخل العائلة وخارجها على السواء،، وتكون دوافعه في الغالب ردعية أو إنتقامية أو إجرامية. 5 العنف المعنوي والنّفسي (داخل العائلة وخارجها) مثل مظاهر الإحتقار والتقزيم والإستهزاء والتأنيب الجارح. ولكن، بالرّغم من المظاهر الفاحشة الصارخة للإستغلال والإضطهاد والعنف اليومي المسلّطة على الطفل في بلادنا، فإنّ ذلك في المقابل لا يُجيز إطلاقا الإستسلام للنّظرة المثالية القريبة من البلاهة، والقائلة بأنّ الطفل يمثّل بُلبلاً وديعًا من بلابل الجنّة والبراءة: إنّ الطفل ليس مَلاَكًا على الاطلاق، ولكنّه أيضا ليس شيطانًا على الاطلاق: فَوِفْق تعاليم مؤسّس علم »البسيكاناليز« الشّهير، »سيڤموند فرويد«، فإنّ »شخصية الطفل تاريخ متّصل«، أي أنّ كلّ طفل يمثّل كائنا إجتماعيا ونفسيا لذاته، ونتاجًا مباشرًا لجميع مراحل حياته وأطوار منعرجاتها وأحداثها منذ يوم ولادته... كما أنّ الطفل لا يصُوغُ نفسه بنفسه، بل ينبثق من بين تضاريس الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والتربوي السّائد... ... فضمن هذا الخضم الصادر من حياة الطفل التونسي، أقدم المشرّع خلال الأسابيع القليلة الماضية على تفتيق قريحته الخلاّقة، وقرّر بمفرده ودون إستشارة وطنية واسعة وسماع رأي الخبراء وأهل الذّكر، تنقيح الفصل 319 من المجلّة الجنائية، المتعلّق بحقّ التأديب الممنوح للأولياء، حيث أقرّ المشرّع عقوبة سالبة للحريّة ضدّ الأب الذي يتعمّد استعمال العنف تجاه ابنه أو إبنته على أساس منح الطفل الحقّ القانوني في مقاضاة أبيه بسبب ذلك العنف، واعتبار تلك المخالفة (بعد إثباتها) جنحة تستوجب الحكم بالسجن النافذ لمدّة تتراوح من يوم واحد إلى ستة عشر يوما!!؟ ... وفي هذا المضمار، قد يكون التشريع الجزائي التونسي هو الوحيد في بلدان الوطن العربي وفي افريقيا الذي تضمّن هذا النوع من المقاضاة ضدّ الأب أحد مؤسّسيْ العائلة بحكم قضائي سالب للحريّة... كما أنّه من المفارقات، فإنّ حتّى فرنسا (بلد الحريّات وحقوق الإنسان كما يروّج الإعلام الغربي وغير الغربي!!) مازالت إلى اليوم تحافظ على تشريعاتها التي تحصّن حقّ التأديب للأولياء وعدم معاقبة من يمارسه تجاه الطّفل. »إذا كان العنف خفيفا والطّفل دون الخمسة عشر سنة« كما ورد حرفيا في مقتضيات الفصل 312 من المجلة الجنائية الفرنسية... ... فباللّه، ألا يعلم المشرع أنّ هذا التنقيح المذكور ودفع الطّفل لمقاضاة أبيه، يمثّل أقصر طريق لضرب أواصر البنوّة والأبوّة في الصميم ونسف مرتكزات كلّ واحدة منهما في نفس الوقت؟! ثمّ ألا يعلم المشرّع أنّ كلّ من يحرم طفلا من أبيه (أو من أمّه على السواء) كَمَنْ حرم الأطفال جميعا من آبائهم؟ وأنّ كلّ من يحرم أبًا (أو أمًّا) من طفله، كَمَنْ حرم الناس أجمعين من أبنائهم وفلذات أكبادهم؟! وأنّ كلّ من يفرّقُ بين طفل وأبيه (أو أمّه على السواء) ويزرع الأشواك بينهما، يمثّل ضربا من ضروب الحثّ على التباغض العائلي والمدني البغيض والمدمّر؟! وفي هذا الصّدد، يعلم الجميع وفي مقدّمتهم المشرّع نفسه، أنّ الحثّ على التباغض العائلي قد يكون أشدّ خطورة من الحثّ على التباغض بين الأجناس أو الأديان أو الأعراق، والذي يمثّل في التشريع التونسي جريمة لذاتها تستوجب عقوبة جزائية محدّدة... وللمرء أن يتساءل، ماهو ضررُ المؤاخذات التوعوية أو العتاب التوجيهي والتأديبي (حينما يكون تربويّا وديّا) الذي يصدر من الأب أو الأم، نحو إبنه أو إبنته، بالمقارنة مع الأضرار البالغة الدائمة التي تلحق بالطفل مباشرة جرّاء العنف الإقتصادي والإجتماعي (وهو أشنع مظاهر العنف على الإطلاق)، إضافة إلى عنف القنوات التلفزية الفاسدة، والثقافة البائدة والصحافة الراكدة؟ ... ثمّ باللّه عليك يا مشرّعنا الموقّر: ألا يكفي العائلة التونسية ما تعانيه طيلة العقود الثلاثة الأخيرة بالخصوص، من مصاعب اقتصادية حادّة ومتاعب مالية خانقة، وتفكّكٍ هائلٍ أصاب نسيجَها النّفسي المشترك وتصدُّع مفزع أَرْبَكَ أركان وأواصر التواصل العاطفي داخلها، حتّى يَزُجّ بها المشرع في متاهات التقاضي بين أفرادها وسراديب التباغض والعدواة بين الطّفل وأبيه؟ ... إنّ الطفولة التونسيّة ليست في حاجة أبدًا لهدير ماكينة الشعارات الإستهلاكية الفجّة، وليست إطلاقا في حاجة إلى حمايتها من الأب أو الأمّ أو الأخ أو الأخت أو الأقارب (وهم جميعًا أقرب النّاس إلى الطفل) بقدر ماهي في حاجة عاجلة إلى تحصينها من براثن الاستغلال والفقر والجهل والمرض والحرمان وحمايتها من آفة التشرّد والإنحراف: ... فلنرحم جميعًا العائلة، لعلّ من في السّماء يرحمنا...