لما أنشئت وزارة الشؤون الثقافية كان عليّ أن أفكّر في مرامي العمل الثقافي، وفي نوعية الرجال القادرين على الاسهام فيه. وكان من المحاور الرئيسية التي ركزت عليها تفكيري نشر الثقافة في كل الفئات الاجتماعية، وجعلها في متناول الجميع. وكانت تونس إذّاك تخوض »معركة الخروج من التخلف« وكان من قناعة الكثيرين في الحزب وفي »المنظمات القومية« وكذلك كان من العديد من المسؤولين في الحكومة، أن يكون العمل الثقافي من أهم أركان هذه الحملة، ومن أقوى وسائل إنجاحها، وكسب رهاناتها المتعددة. ثم كان ايضا من أكبر إهتماماتي تركيز العمل الثقافي الى جانب المجالات التقليدية على سائر الأنشطة التي دخلت في مفهوم الثقافة الحديثة، اي ما كان يسمى ب »الفنون الجميلة«. وكذلك الموسيقى، والمسرح والسينما. وكنت، مدة اشتغالي بالتدريس، أسمع عن زميل يدرس في مدينة صفاقس، واشتهر باهتماماته السينمائية وبإسهام متميز في تنشيط »نوادي السينما«. وكانت تعتبر أداة فعالة لنشر الثقافة السينمائية، وتوجيه ذوق الجمهور وتدريب الشباب على أسلوب النقاش الموضوعي. هذا الزميل هو الاستاذ الطاهر الشريعة. فطلبت منه الالتحاق بالوزارة، وكلفته بإنشاء ادارة خاصة بشؤون السينما، آخذا في ذلك بجملة التوجهات التي اتفقنا عليها. وفي وقت قصير، استطاع الطاهر الشريعة أن يبني أركان هذه الادارة، بعد انتخابه لعدد من معاونيه، من بين أحباء السينما ممن كان له بهم علاقة ومنذ العام الاول، انطلق عمل هذا الفريق متميزا بقوة التنظيم ونصاعة الأهداف. أعرف أن اسم الطاهر الشريعة اقترن باسم مهرجان قرطاج السينمائي، لكن الحق هو ان الرجل قام من خلال إدارته لشؤون السينما بجملة من الاعمال الواعية والمركزة تجاوزت المهرجان، وشملت وضع النصوص القانونية والتراتيب الادارية وتنظيم العلاقات مع الخارج. ذلك ان تونس تستورد الأفلام بما يقارب 100٪، وسوقها ضيقة لا تمكّن من بعث انتاج وطني ذي مردود تجاري وشبكات التوزيع تهيمن عليها مصالح تجارية عالمية يهمّها الربح بالدرجة الاولى لكن ذلك لم يمنع من وضع المشاكل موضع الدرس والعمل على حلّها، بأناة وصبر، وفي طليعتها الطموح الى أن يكون لتونس كلمتها في قطاع التوزيع، نوعا وكمّا، باعتبار اختياراتها الثقافية والاجتماعية. وفي أوائل الستينات كان الوافد علينا من الافلام قليل منه عربي، وقليل من هذا العربي كريم المذاق، عزيز المعنى. والطاهر الشريعة كانت له بذلك خبرة دقيقة. أما الانتاج التونسي فكان إذاك لا يكاد يذكر، لقلته ولغلبة تأثير الأجنبي على أسلوب إخراجه، مما جعله يدخل في صنف التجارب الفنية، اضافة الى ما يلقاه من صعوبة التوزيع، في الداخل وفي الخارج، وكنا في كل القضايا الكبرى نتفّق على ما بمقتضاه تتولى الادارة التصرف بهامش واسع من الاجتهاد، تجاه هذه القضايا نشر الثقافة السينمائية بمختلف الوسائط، في المدن وفي الأرياف وخاصة بواسطة المهرجانات والسعي لتركيز انتاج وطني واع لرسالته الثقافية والاجتماعية معا والنظر في شؤون التوزيع وكان ذلك يبدو قريبا من المستحيل، تجاه كل هذه القضايا وغيرها بل على كل هذه الجبهات كان الطاهر الشريعة في نضال يومي بأريحية فكرية عالية، جعلته محاورا كفء يحظى بالاحترام، لا في تونس فحسب بل ايضا في بلاد المغرب الكبير، وفي المشرق العربي. وكذلك في أوروبا واستطاع أن يجعل لتونس مكانة مرموقة في أوساط السينما الدولية وفي المهرجانات العالمية، بفضل سعة خبرته، وصراحة آرائه والحق يقال بفضل ايضا أخلاقياته الكفاحية التي جعلته مناضلا من اجل سينما لا تخضع للمصالح التجارية خضوعا يردها عن رسالتها الانسانية. لكل هذه الاعتبارات، لم يكن الطاهر الشريعة فقط الرجل الذي إضطلع باقتدار بتنظيم مهرجان قرطاج كان معه في ذلك ثلة من المساعدين يصدق عليهم هم ايضا الوصف بالمناضلين بل كان بصورة أعمّ وأشمل، الدماغ المفكر الذي نظم الشأن السينمائي في تونس، بعد الاستقلال ومكّن من جعل السينما في مقدمة وسائل التثقيف على الصعيدين الفني والجماهيري.