أما المحور الذي تفاعل مع المحور العالمي في اتجاه الأخذ بالليبرالية الجديدة في البلاد النامية فيمكن صياغته في بضعة كلمات وهي: بروز تناقضات نموذج التنمية الذي اعتمدت عليه هذه البلاد بعد ان فشل في ان يحقق التنمية والعدالة والتقدم لشعوب هذه البلاد وما نجم عن ذلك من توترات وأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية. فمن الثابت ان مجموعة البلاد النامية بشكل عام حققت قدر لا بأس به من النمو خلال الفترة التي ازدهر فيها الاقتصاد العالمي (1945 1970) ففي ظل هذا الازدهار استفادت مجموعة هذه البلاد من انتعاش التجارة العالمية، وما رافقها من نمو اقتصادي، حيث زاد الطلب العالمي على المواد الاولية التي تصدرها، واستفادت من استقرار نظام النقد الدولي، واستطاعت ان تحصل على القروض من اسواق النقد الدولية بأسعار فائدة معقولة، وعلى مقادير لا بأس بها، رغم محدوديتها من المعونات الدولية في ظل الظروف، وفي اطار نموذج التحالف الاجتماعي الذي قامت عليه السلطة في مرحلة ما بعد الاستقلال قطعت كثير من هذه البلاد شوطا لا بأس به على طريق النمو والتحديث، وتحسن مستوى المعيشة، لكن سرعة الجهود على هذا الطريق سرعان ما تباطأت، وفي احيان كثيرة توقفت حينما ظهرات الازمة الاقتصادية العالمية في بداية السبعينيات وبدأت تلقي بظلالها على هذه البلاد (على نحو ما اشرنا حينما كنا نتحدث عن المحور العالمي) وهنالك أخذت تناقضات »نموذج التنمية« الذي طبقته هذه البلاد رغم اختلافه بهذا القدر أو ذاك في الظهور والتفاقم. 1) إتساع مستمر لفجوة الموارد المحلية (الفجوة بين معدل الاستثمار المنفد ومعدل الادخار المحلي) وهو الامر الذي أدى في مرحلة ما الى الميل للاستدانة. وكان هذا الاتساع راجعا في المحل الاول الى تدهور معدلات الادخار المحلية في هذه البلاد، وحينما ضعفت قدرة هذه البلاد على الاستدانة الخارجية، فإن مواجهة هذه الفجوة اصبح يتم من خلال خفض معدلات الاستثمار، ومن ثم أدت هذه المواجهة الى تدهور شديد في معدل النمو. 2) بروز عجز متواصل في الموازنة العامة للدولة، وارتفاع نسبته الى الناتج المحلي الاجمالي، بسبب تقاعس الايرادات العامة عن ملاحقة التزايد المستمر في النفقات العامة، وكان هذا العجز راجعا الى ضعف الطاقة الضريبية بسبب محاباة الاغنياء وكثرة حالات التهرب الضريبي، والى نمو الانفاق العام بمعدلات كبيرة. 3) بروز ضغوط محلية قوية للتضخم راحت تدفع المستوى العام للأسعار نحو الارتفاع بقوة وبشكل مستمر مما أفقد النقود المحلية الشطر الأكبر من قوتها الشرائية، وكانت هذه الضغوط ناجمة عن سياسات التمويل بالعجز الذي تمثل في زيادة الاصدار النقدي وزيادة حجم الائتمان المصرفي المسموح للحكومة وللقطاع العام، فضلا عن تأثير التضخم المستورد. 4) نمو هائل في عجز موازين المدفوعات بسبب عدم ملاحقة نمو الصادرات لمعدلات نمو الواردات التي زادت قيمتها بسبب تزايد الاعتماد على العالم الخارجي في استيراد الغذاء والمواد الوسيطة والسلع الاستثمارية وارتفاع اسعار هذه السلع في الاسواق العالمية، وقد أدى هذا العجز المتفاقم في موازين المدفوعات الى نمو الديون الخارجية والى استنزاف الاحتياطات الدولية والى تدهور سعر صرف العملة الوطنية. 5) إختلال واضح في علاقات النمو بين القطاعات المختلفة وهو ما تجلى بشكل واضح في تخلف القطاع الزراعي الذي كان يعتصر لسحب الفائض الاقتصادي منه لتمويل النمو والانفاق في قطاعات أخرى الأمر الذي أدى الى زيادة الاعتماد على الواردات لتغطية الطلب على المواد الغذائية والمواد الخام الزراعية، ومن هنا تعاظم ايضا الاعتماد على معونات الغذاء من الدول الصناعية وتحول هذه المعونات الى سلاح للضغط والهيمنة من جانب الدول المانحة. 6) فشل أنماط التصنيع التي اختارتها غالبية هذه البلدان سواء ما كان منها معتمدا على نمط الإحلال مكان الواردات أو نمط التصنيع للتصدير، بسبب تخلف طرائق الانتاج الفنية وارتفاع نفقات الانتاج وغياب اسواق التصدير وهو الامر الذي تبلور في النهاية في تزايد الطاقات العاطلة، وعظم حجم المخزونات الراكدة، وانخفاض عائد الاستثمار في هذه الصناعات ناهيك عن ان كثيرا من هذه الصناعات كانت تعتمد الى حد كبير على الاستيراد مما كان له علاقة وثيقة باختلال ميزان المدفوعات. كانت تلكم مجرد »عينة« من المشكلات والازمات الاقتصادية التي أفرزها »نموذج التنمية« في معظم البلاد النامية. والآن: وبعد ان أوضحنا الظروف الموضوعية والذاتية التي أحاطت بظهور الليبرالية الجديدة في مجموع البلاد النامية فان السؤال الذي يبرز امامنا الآن هو: كيف أثرت السياسات التي انبثقت عنها على اوضاع الفئات الشعبية. ونسارع بادئ ذي بدء الى التنبيه الى نقطة هامة وهي انه لا يجوز ان نحمل السياسات الليبرالية الجديدة المسؤولية الكاملة في تدهور اوضاع الطبقات الشعبية في البلاد النامية ذلك ان جانبا من ذلك التدهور كان قد حدث بالفعل إبان سنوات الازمة الاقتصادية التي سبقت برامج التثبيت والتكييف الهيكلي التي جاءت بها السياسات ولكننا نقرر في الوقت نفسه ان تنفيذ هذه البرامج سرعان ما عجل وبشدة من هذا التدهور الذي لحق بأوضاع هذه الطبقات. والسؤال المطروح الآن هو: ما تأثير هذا الانحطاط الذي حدث في اوضاع الطبقات الشعبية بالبلاد النامية التي طبقت ليبرالية برامج التثبيت والتكيف الهيكلي. ها هنا تتعدد الاثار وتتباين، وحينما تتراص جنبا الى جنب ترسم لنا صورة كئيبة عن مدى المحنة التي تتعرض لها هذه الطبقات في ظل الليبرالية الجديدة ويأتي في مقدمة هذه الاثار، هو ان تدهور مستويات الدخول الحقيقية، والانخفاض السريع الذي حدث في مستوى معيشة هذه الطبقات قد دفع بأعداد كبيرة منها للهجرة خارج الوطن بحثا عن عمل ذي أجر أعلى والتعرض لمشكلات الغربة. أما الذين لم تتح لهم فرصة الهجرة فقد اضطروا للبحث عن عمل اضافي بجانب عملهم الاصلي لكي يحققوا دخولا اضافية تعوض بعضا من التدهور الحادث في مستويات معيشتهم مع ما ينجم عن ذلك من تدهور في مستوى صحتهم نظرا لارتفاع عدد ساعات العمل وتدني شديد في مستوى انتاجيتهم في أماكن عملهم الاصلية، أما في حالة العاطلين الذين سرحوا من أعمالهم فإنهم يلجئون الى الاعمال الهشة والتي يتعرضون فيها للاستغلال الفاحش وهكذا تنحط قيمة العمل في مفهومه الجديدة في منظومة الفكر الليبرالي الكلاسيكي المرتد في غمرة هجومه على ما تبقى من مكاسب حققتها الطبقة العاملة عبر نضالاتها التاريخية في مواجهة جشع الليبرالية التي كانت تقاوم بكل حق فردي يعود بالنفع على الطبقة العاملة. إن تكريس هذه السياسات جعلت الانسان المضطهد في ظل اجراءاتها الاقتصادية الصارمة وفي استغلالها للكادحين والفقراء والمعدومين الى اقصى الحدود تكون قد خلقت في المجتمع أمراضا اجتماعية لم تألفها هذه المجتمعات وخاصة في أوساط الطبقات المعدمة فاستفحال العنف والجريمة بمختلف صنوفها والادمان على المخدرات في أوساط الشباب المهمش والعاطل خاصة امام اليأس من تغيير الاوضاع المزرية التي يعيشها في محيطه وفقدان اشكال التغيير الحر: حرية الرأي وحرية التعبير في ظل أنظمة مجملها غير ديمقراطية. إن إنسداد قنوات التعبير السلمي وامكانية التغيير عبر آليات المؤسسات التي تصون الحقوق لكل فئات الشعب عبر ممارسة التعبير والنضال في صلب احزاب تحترم نفسها ونقابات عمالية ممثلة لمصالح العمال ومستقلة عن هيمنة الانظمة تدفع باليائسين من هذه الفئات الى تبني الطروحات المضادة في المنظمات التي تروج للعنف والصدام قد تحول المجتمع الى فوهة بركان تأكل الاخضر واليابس عبر الانخراط في مشاريع جماعات العنف المسلحة والجماعات الارهابية.