بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخلفية التاريخية والفكرية (الجزء الأول)
الليبرالية الجديدة وانعكاساتها على أشكال التنمية غير المكتملة في البلاد النامية
نشر في الشعب يوم 20 - 11 - 2010

إن مصطلح الليبرالية يقصد به عموما ذلك المذهب الذي يضع الفرد في مكانة مطلقة أعلى من الجماعة، ويعطي الأولوية للمصالح الشخصية على المصالح الاجتماعية، ويتجلى ذلك في إيمانه المطلق بالحريات الفردية:
حرية العمل، وحرية التملك، وحرية التعاقد، وحرية التجارة، وحرية الاعتقاد والتفكير والتعبير... إلخ، وهي الحريات التي اذا ما توافرت لأمكن للفرد ان يعظم من حجم منفعته الشخصية، ولهذا كثيرا ما يستخدم مصطلح المذهب الفردي كبديل لمصطلح الليبرالية.
ويعتقد أنصار هذا المذهب ان مصلحة المجتمع ما هي الا مجرد تجميع حسابي للمصالح الفردية ومن ثم لو استطاع كل فرد ان يحقق مصالحه الشخصية فإن مصلحة المجتمع تكون قد تحققت. وكأن الفرد حينما يسعى الى تحقيق مصلحته الذاتية. منطلقا في ذلك من تعظيم منفعته الخاصة، فإنه يحقق دون أن يدري مصلحة الجماعة، ونظرا لأن هناك توافقا بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فقد وقفت الليبرالية منذ فجر ظهورها، بشكل عام، ضد تدخل الحكومة في المجال الاقتصادي والاجتماعي وطالبت بأن تكون الحكومة مجرد حارس للحريات لتردع أي اعتداء عليها.
ويمكننا هنا التمييز بين ثلاث مراحل مر بها المذهب الليبرالي
الليبرالية المطلقة
المرحلة الأولي: هي ما يمكن ان نطلق عليها »مرحلة الليبرالية المطلقة« التي تمتد فيما بين ظهور الثورة الصناعية وحتى اندلاع أزمة الكساد الكبير (1750 1929)، وهذه المرحلة كان يغلب عليها طابع الحرية الاقتصادية التي لا يقف أمامها أي عائق، وعكس نفسها في ذلك الشعار الشهير: دعه يعمل ودعه يمر وفي عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وآنذاك ساد الإعتقاد الكلاسيكي بأن النظام الرأسمالي الليبرالي قادر على تحقيق التوظف الكامل لكل الموارد، وقادر على تصحيح الأزمات الاقتصادية بشكل تلقائي دون حاجة لأي تدخل أو توجيه لو كانت الأسواق تعمل بشكل تنافسي حر في ضوء آليات العرض والطلب، كما ساد الاعتقاد ايضا ان جهاز الاسعار قادر على ان يعطي لكل فرد ما يستحقه من دخل في ضوء انتاجية عمله او انتاجية ما يملك من وسائل انتاج، ولهذا أنكرت الليبرالية وجود أية تناقض بين النمو والتوزيع بين العمل ورأس المال، ونظرت للنظام الرأسمالي على انه شبكة من علاقات الانسجام والتوافق، ورغم ان الليبرالية في بداية ظهورها كانت منظومة كاملة من الحقوق الفردية، إلا ان الطبقة البورجوازية الصاعدة آنذاك تمسكت بالجانب الاقتصادي لليبرالية فقط الذي كان يعطيها المبرر بأن ما تحققه من أرباح وثروات وسيطرة هو نتيجة لمجهودها الفردي وحسن تدبيرها وقيامها بالمخاطرة، ولهذا وقفت هذه الطبقة في البداية ضد اي حق للآخرين يمس، أو يحدّ من حريتها في تعظيم أرباحها وثرواتها وإحتكارها للسلطة.
ولهذا فقد شهدت تلك المرحلة وبالذات في بدايتها أبشع صنوف الاستغلال للعمال والنساء والأطفال (طول ساعات العمل، ضآلة الأجور، وإفتقاد الشروط الصحية والوقائية، وعدم وجود خدمات اجتماعية كافية)، كما شهدت تلك المرحلة التوسع الاستعماري وتكوين الامبراطوريات الاستعمارية واستغلال شعوب المستعمرات من قبل الدول الرأسمالية الليبرالية وإحتاج الامر لعشرات السنين ولمعارك ضارية (أحيانا دامية) لكي يرضخ النظام الرأسمالي لبعض المطالب الاجتماعية، وإقرار بعض الحقوق الفردية (السماح بتكوين الاحزاب والنقابات وحق التظاهر وحق الانتخاب وزيادة حجم الخدمات الاجتماعية...).
الليبرالية المنظمة
أما المرحلة الثانية، فسوف نطلق عليها مرحلة الليبرالية المنظمة، وتمتد خلا الفترة ما بين أزمة الكساد الكبير وبداية عقد السبعينيات (1929 1970) وهذه المرحلة تبدأ بزلزال الكساد الكبير الذي تعرض له النظام الرأسمالي في مختلف أنحاء المعمورة وحطّم تمام أوهام الفكر الكلاسيكي والنيوكلاسيكي الذي كان ينكر إمكانية حدوث الأزمات في النظام الرأسمالي ويدعى عدم وجود تعارض بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة. وقد مهّد الكساد الكبير السبيل لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وان يكون لها دور فاعل في المجال الاجتماعي، وقد تجلى هذا التدخل في برنامج الرئيس »روزفلت« المعروف بالنهج الجديد في الولايات المتحدة الامريكية، وفي تجربة التدخل الحكومي خلال فترة النازية ايام »هتلر« بألمانيا، وفي تجربة النظام الفاشستي في ايطاليا في عهد »موسوليني«، بل وفي تجارب كثير من الدول النامية حينما تدخلت الحكومات للحد من تردي أثار إنهيار المواد الأولية اثناء سنّي الكساد الكبير، كما ان كارثة الكساد الكبير كانت هي الأرضية التي أنجبت »النظرية العامة لكينز« عام 1936، وهي النظرية التي سيكون لها تأثير كبير على أوضاع الطبقة الوسطى والطبقة العاملة في عالم ما بعد الحرب، فقد أثبت »كينز« ان الرأسمالية قد فقدت قدرتها التلقائية على التوازن، واصبح بها ميل كامن يعرضها للأزمات الدورية بسبب الاحتمالات القوية لعدم تناسب قوى الطلب الكلي مع قوى العرض الكلي، ولأن الرأسمالية عاجزة عن ان تولد من ذاتها، وبطريقة تلقائية، سبل تجنب هذه الازمات، فقد دعا الى ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي باعتبارها العامل الموازن او التعويض لتقلبات هذا النشاط. واقترح جملة من السياسات النقدية والمالية والاجتماعية التي من شأنها الحيلولة دون حدوث الكساد او التضخم، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أصبحت الوصفة »الكينزية« هي الاساس الذي بنيت عليه السياسات الاقتصادية في دول الغرب الرأسمالي، ومنذ ذلك الحين توسع حجم ملكية الدولة والقطاع العام والانفاق الحكومي، فمن ناحية تملكت الدولة بعض الصناعات الهامة التي تتعرض للخسائر او تنخفض معدلات الربح فيها ولكنها مع ذلك هامة جدا للنشاط الاقتصادي (مثل مشروعات الطاقة والحديد والصلب والنقل والاتصالات...) كما زادت الاستثمارات الحكومية في مجال الأشغال العامة (مثل الطرق، الجسور، محطات المياه والكهرباء...) كما زاد الانفاق العام الموجه للخدمات الاجتماعية الضرورية (التعليم، الصحة، الاسكان، المرافق العامة، الضمان الاجتماعي)، كما دخلت الدولة بثقل كبير في مجال الانفاق العسكري والانتاج الحربي، وأعطت الحكومات للبعد الاجتماعي أهمية كبيرة جدا، حيث إستهدفت تحقيق التوظف الكامل، وتخفيف المعاناة عن كاهل الفقراء والمحرومين، فتم الأخذ بنظام إعانات البطالة والتوسع في مجال التأمين الصحي والضمان الاجتماعي، ودعم المواد التموينية للفقراء ومحدودي الدخل، وتوفير الخدمات العامة برسوم أو بأسعار معقولة، كل هذا خلق ما عرف بدولة الرفاه في الولايات المتحدة الامريكية ونظم الاشتراكية الديمقراطية في دول غرب أوروبا، كما انعكست هذه السياسات ايضا في تجارب التنمية الوطنية التي تحققت في كثير من الدول النامية التي استقلت بعد الحرب العالمية الثانية. وكان من الطبيعي والحال هذه ان تتحسن أوضاع الطبقات الشعبية ايضا.
الليبرالية الطائشة
أما المرحلة الثالثة لليبرالية، ويمكن تسميتها بالليبرالية الطائشة، فتمتد خلال الفترة ما بين بداية السبعينيات وحتى الآن، وتبدأ هذه الفترة بمجموعة من الازمات المستعصية التي عانت منها، ولا تزال، الدول الرأسمالية الصناعية، وهي الازمات التي ستطيح في النهاية ب »الكينزية«، أو بما أسميناه بالليبرالية المنظمة، ففي بداية السبعينيات شهدت هذه الدول زيادة واضحة في معدلات البطالة ومعدلات التضخم في آن واحد (وهي الظاهرة التي عرفت تحت مصطلح الركود التضخمي. وتدهور معدلات النمو الاقتصادي، وتراجع معدلات النمو الانتاجية، وزيادة عجز الموازنة العامة وارتفاع حجم الدين العام الداخلي، وزيادة أسعار الطاقة، وانهيار نظام النقد الدولي بالتخلي عن أسعار الصرف الثابتة والتحول نحو التعويم، وتزايد عجز موازين المدفوعات (بإستثناء حالة اليابان وألمانيا الغربية) الامر الذي أدى الى تزايد نزعة الحماية وإبطاء نمو التجارة العالمية... الخ.
في خضم هذا المناخ المأزوم، صعدت الليبرالية الجديدة، وهي عبارة عن رؤية اقتصادية واجتماعية وسياسية، هدفها الرئيسي الدفاع الأعمى عن مصالح اصحاب رؤوس الاموال الى الحد الذي دفع بعض انصارها للقول بأن حق الملكية له الأولوية على اية حقوق عامة اخرى بما فيها حق الحياة. ولا عجب، اذن ان تنادي هذه الليبرالية بالعودة الى المفاهيم والمقولات الكلاسيكية المبكرة لليبرالية، فهي تؤمن إيمانا راسخا بقدرة النظام الرأسمالي على النمو المستمر وعلى تحقيق التوظف الكامل، وأنه قادر على تصحيح أزماته بشكل تلقائي، لو عادت له الحرية المطلقة »نقاوة« السوق وابتعدت الدولة عن التدخل في سير العجلة الاقتصادية، بل ان انصار هذه الليبرالية أعادوا إحياء فكرة اليد الخفية التي تحقق، بشكل تلقائي، التوافق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، ونادوا بإطلاق الحرية الاقتصادية الى أبعد مدى، وبما يلغي اية تدخلات او قيود او ترتيبات او تنظيمات تضعها الحكومة على الاسعار والارباح والاجور والعمالة، وأصرّوا على القضاء على الملكية العامة وتحويلها للقطاع الخاص وضروة التخلي عن أهداف التوظف الكامل والرعاية الاجتماعية ودولة الرفاه، حيث لم تعد الطبقة الرأسمالية راغبة في دفع الضرائب التي تمول هذه الاهداف ولهذا فإن هذه الطبقة في غمرة حماسها الشديد لهذه الليبرالية الطائشة، كانت تحلم بالعائد الضخم الذي ستحققه من وراء ذلك، وهو خفض الضرائب على دخولها المرتفعة وعلى ثرواتها الكبيرة وإعادة توزيع الدخل القومي والثروة القومية لصالحها.
والحق، ان الليبراليين الجدد بهجومهم الشديد على مبدأ تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وإنكارهم للدور الهام الذي تلعبه الدولة في ضبط آليات وحركة النظام الرأسمالي وحمايته من الشرور الاجتماعية والازمات التي يولدها، كانوا في ذلك قد أجهضوا كل تقدم حققته النظرية الاقتصادية الرأسمالية على يد »جون مايترد كينز«، وانتكسوا بالفكر الاقتصادي والاجتماعي الى بدايات القرن الثامن عشر. ومهما يكن من أمر، فقد تحولت هذه الليبرالية من مجرد إرهاصات لفكر اقتصادي واجتماعي جديد، الى برامج اقتصادية وسياسات اجتماعية وجدت سبيلها الى التطبيق في بريطانيا بعد نجاح »مارجريت تاتشر« في الانتخابات عام 1979، وفي الولايات المتحدة، بعد نجاح »رونالد ريجان« في انتخابات بداية الثمانينات، بل وفي غالبية دول غرب أوروبا، وايضا في دول شرق أوروبا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، ثم سرعان ما وجدت هذه الليبرالية صداها في الدول النامية التي وقعت فريسة لديونها الخارجية ثم لتدخلات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين اصبحا اكثر المؤسسات تحمسا لهذه الليبرالية.
وتجدر الاشارة الى ان الليبرالية الجديدة تحولت، بحكم الاهداف الحقيقية التي تسعى اليها الى ما يشبه الايديولوجيا الجامدة، وأصبح تحليل القضايا والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية في اطارها لا يستند الى قواعد العلم والبحث الموضوعي بقدر ما يستند على التهافت الايديولوجي السطحي الذي يتسم بالضحالة الفكرية وبؤس المحتوى.
وسؤالنا الآن هو: ما الأثار التي نجمت عن تطبيق هذا التوجه البائس على الطبقات الشعبية، (الطبقة الوسطى والطبقة العاملة).
1) لعل أول هذه الأثار هو شعور ابناء هذه الطبقة بالخوف من الغد المجهول والمستقبل غير المضمون، وهو الأمر الذي ينجم عن فقدان فرص التوظف والدخل، وعدم ضمان فرصة العمل حتى بالنسبة لهؤلاء الذين يعملون فعلا الآن، بسبب الخوف من خطر التسريح في أية لحظة ومجرد الشعور بهذا الاحساس غير المريح، يدفع بهؤلاء الى تخفيض ميلهم للاستهلاك، وزيادة ميلهم للإدخار، تحسبا لمواجهة مستقبل غير مضمون الدخل، وفي هذه الحالة من المرجح تماما ان تتغير أنماط الاستهلاك بإتجاه التوفير من خلال استبعاد بعض ألوان الاستهلاك الترفي وشبه الترفي التي كانت تمارس في »العصر الكينزي« ودولة الرفاه. وفي ظل اقتصاد يغلب عليه طابع الركود، أو بطء النمو، فإن سعي الافراد نحو تعظيم المدخرات، تحسبا للمستقبل، سوف يؤثر على حالة السوق، ويفاقم من صعوبات التصريف، ومن ثم يؤدي الى زيادة الطاقات العاطلة ومعدل البطالة.
2) إن الانصياع اللامشروط لقوى السوق الذي نادت به الليبرالية الجديدة لصالح الاحتكارات وأصحاب رؤوس الاموال، وضد مصالح العمال والموظفين، في ظل مناخ عام يؤازر ويشجع القيم البراجماتية والأنانية والنفعية الضيقة، ويعادي مبادئ العدالة الاجتماعية، ويرفض الدور الاجتماعي للدولة، قد خلق لدى أبناء الطبقات المتضررة، وبالذات لدى هؤلاء الذين فقدوا وظائهم وتدهورت أوضاعهم الاقتصادية، خلق حالة من الاغتراب أي ضياع المرء وغربته عن ذاته ومجتمعه، وهذا الشعور بالاغتراب، يقوّي عبر الزمن من ميول العزلة واللاإنتماء، تضخم الشعور بالعجز، وإفتقاد المعنى، والانفصال عن المجتمع.
3) إن البطالة وإنخفاض مستوى الدخول (إعانة البطالة، ومساعدات الضمان الاجتماعي) وما نجم عن ذلك من معاناة وزيادة درجة الحرمان، وتنامي الشعور بالعجز في مجتمع ينحاز الى الأغنياء، قد خلق شعورا باليأس وعدم الرضا هو الاحباط والانسحاق، وهي الامور التي كثيرا ما تدفع بالأفراد الى تعاطي المخدرات (هربا من الواقع)، والى الميل للعنف والجريمة، (إنتقاما من المجتمع)، والى الانتحار (هربا من الحياة).
وقد أشارت بعض الاحصاءات والدراسات المتاحة الى ارتفاع عدد نزلاء السجون، وزيادة جرائم القتل العمد، وجرائم المخدرات، وحالات الاغتصاب والانتحار في كثير من البلدان الصناعية مع تنامي الأخذ بالسياسات الليبرالية المتطرفة.
4) إن تدهور الاوضاع للطبقات المتضررة من التطبيقات الاقتصادية المجحفة في حقها قد دفع بالمرأة الى سوق العمل لمساعدة أسرتها في ايجاد مصدر للدخل، وقد اثر هذا على سوق العمل حيث نافست المرأة الرجل في فرص العمل المحدودة، مما أدى الى تفعيل قوى العرض والطلب في هذا السوق بإتجاه خفض معدلات الأجور، وزيادة جيش العمل الاحتياطي، وفي حالات كثيرة أدى خروج المرأة للعمل للتأثير بشكل سلبي على العلاقات الاسرية.
5) في ظل مجتمع تتفاقم فيه البطالة وتتدهور الاوضاع الاقتصادية الاجتماعية، وتسيطر فيه وسائل الاعلام الحديثة التي تقوم بتزييف وعي الناس، تظهر البيئة المناسبة لنمو الافكار والاتجاهات العنصرية والقومية الضيقة التي تتوجه بالعنف للآخرين الذين لا ذنب لهم في هذا الواقع الأليم.
ويبدو ذلك على وجه الخصوص في إعادة ظهور الأحزاب الفاشية والنازية والعنصرية والقومية في بلدان أوروبا الصناعية، وممارستها العنف والتمييز ضد العمال الأجانب المشتغلين في هذه البلدان بعد تصوير هؤلاء الأجانب على أنهم سرّ بلاء الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية لأنهم ينافسون مواطني البلاد الأصليين في فرص العمل واقتسام الدخول.
6) أدت أيضا هذه السياسات الليبرالية الجديدة الى إحياء التضامن الطبقي بين العمال، حيث تظهر من حين لآخر كثير من ألوان الاحتجاج الجماعي ضد هذه السياسات التي أدت الى إفقارهم، وهو ما تجلى في حركات الاضرابات والمظاهرات الجماعية التي عمت ولا تزال، مختلف البلدان الصناعية ويبدو ان استمرار تدهور أوضاع العمال والطبقات الشعبية عموما سوف يسهم في إعادة إحياء قوة النقابات وعودة الحيوية للحركة العمالية وللأحزاب اليسارية.
السؤال الجوهري المطروح هو: ما الظروف الموضوعية والذاتية لظهور اللبيرالية الحديثة في البلاد النامية؟ وكيف أثرت السياسات الجديدة التي إنبثقت عن الليبرالية في تدهور وإنحطاط حالة الطبقات الشعبية في هذه البلاد؟
وعند الإجابة على هذا السؤال يبرز أمامنا محوران أحدهما دولي وثانيهما محلي، سيتفاعلان معا بقوة للضغط على البلاد النامية صوب الأخذ بالليبرالية الجديدة في عقد الثمانينات بعد ان تبلورت داخل هذه البلاد قوى اجتماعية معينة، تبنت هذه الليبرالية وتحمست لتنفيذها نظرا لما توفره لها من امتيازات ومصالح ضخمة.
أما عن المحور الدولي فيمكن تلخيص فحواه في عبارة موجزة هي: تدهور وضع البلاد النامية في الاقتصاد العالمي، وهو التدهور الذي بدأت ملامحه تظهر منذ بداية عقد السبعينيات وأدى في النهاية الى تفاقم عجز موازين مدفوعات هذه البلاد، وتحول هذا العجز الى ما يشبه فوهة »بالوعة« شرهة، يحتاج سدها الى موارد هائلة مقترضة، يتزايد حجمها عاما بعد الآخر، مسببة في ذلك في مرحلة لاحقة حجما مروعا من المديونية الخارجية، وبشكل موجز يمكن رصد أهم معالم تدهور وضع البلاد النامية في الاقتصاد العالمي فيما يلي:
ارتفاع أسعار السلع التي تستوردها البلاد النامية، سواء ما كان منها متعلقا بالسلع الاستهلاكية (وفي مقدمتها السلع الغذائية) أو السلع الوسيطة (ومنها مواد الطاقة التي ارتفعت أسعارها بشكل فجائي عبر صدمتين سعريتين للنفط في عام 73 / 74 وعام 79 / 80 أو أسعار السلع الاستثمارية (الالات ومعدات النقل وتجهيزات تكوين رأس المال الثابت) أو أسعار الخدمات الدولية (النقل البحري والجوي والتأمين...).
2 تدهور اسعار الصادرات من المواد الخام التي تصدرها البلاد النامية وذلك بسبب تدهور الطلب العالمي عليها نتيجة لموجات الكساد والركود التي خربت اقتصادات البلدان الرأسمالية الصناعية.
3 وكنتيجة لما تقدم، تدهورت شروط التبادل التجاري (اي العلاقة النسبية بين اسعار الصادرات والواردات) في غير صالح البلاد النامية، مما أدى الى أن تلك البلاد اصبحت مجبرة على ان تصدر كميات أكبر من سلعها الأولية لكي تحصل على نفس الكمية التي كانت تستوردها من قبل وقد سبب ذلك خسائر هائلة انعكست في تفاقم عجر الميزان التجاري.
كل هذه العوامل وغيرها كارتفاع اسعار الفائدة على القروض الخارجية، ضعف موقع البلاد النامية في المنظمات الدولية: (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومجموعته) بسبب ضآلة حصص هذه البلاد في رؤوس أموال هذه المنظمات التي باتت تتحكم في الاقتصاد العالمي: توضح لنا ضعف البلاد النامية في الاقتصاد العالمي، ومدى تبعيتها له.
تفاقم أزمة الديون الخارجية، وجد عدد كبير من البلاد النامية المدينة نفسه في موقف حرج للغاية، وأهم خصائص هذا الموقف، إن البلد لا يكون قادرا على التوفيق بين الاستمرار في دفع أعباء ديونه الخارجية (الفوائد مع الأقساط) وضمان توفير الحد الأدنى الضروري من الواردات الاستهلاكية والوسيطة والاستثمارية.
وحينما يعجز النظام القائم على مواجهة الازمة فإنه لا يجد من سبيل سوى طرق أبواب نادي باريس أو لندن طلبا لإعادة جدولة ديونه بعد أن يكون قد إستنزف إحتياطاته الدولية وعرض سعر صرف عملته الوطنية للتدهور، وبعد أن يكون قد ضغط على وارداته الى أقصى حدّ ممكن من ما يمثله ذلك من مزيد التضخم والبطالة، وعندئذ يعلن البلد توقفه عن دفع أعباء ديونه، ويطلب الدخول في مفاوضات مع الدائنين لإعادة جدولة الديون أي تجميد دفعها لمدة معينة، والاتفاق على مواعيد جديدة للسداد وفي هذه الحالة لا يوافق الدائنون على إعادة الجدولة الا اذا اتفق البلد المدين أولا مع صندوق النقد الدولي على وضع وتنفيذ برنامج للتثبيت.
وقد يتطلب الامر ايضا ضرورة الاتفاق مع البنك الدولي لوضع برنامج للتكيف الهيكلي وكلا البرنامجين يستند من حيث الاساس النظري على الأسس الفكرية للمدرسة الكلاسيكية الليبرالية التي يمكن تلخيصها في جملة واحدة، وهي: »السوق هي الخير والدولة هي الشر«.
والحق إن تبني هذه البرامج وتنفيذها بصرامة شديدة وعبر أفق زمني محدد، وتحت رقابة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، باعتبارها شرطا ضروريا لإعادة جدولة الديون، أحدثت ما يشبه الانقلاب الصامت في مختلف مناحي الحياة بالبلاد النامية، ومثلت في نفس الوقت »ثورة مضادة« للفكر التنموي فيما كانت أدبيات التنمية في الخمسينيات والستينيات تنادي بأهمية دور الدولة والقطاع العام في تحقيق التنمية (نظرا لغياب »طبقة المنظمين)، أصبح هذا الدور يشجب بشدة تحت زعم الاساءة في استخدام الموارد، وانخفاض العائد، وان القطاع العام هو سبب المشكلات والازمات التي تمر بها هذه البلاد الآن ولهذا يجب التخلص منه تماما إما بيعه بأية ثمن للقطاع الخاص المحلي او الاجنبي، او ان يتملكه الاجانب مقابل شطب بعض ديون الدولة.
وبينما كان الفكر التنموي حتى عهد قريب يؤكد على اهمية التخطيط الاقتصادي كوسيلة لتحقيق الاستخدام الامثل للموارد المحدودة، وتجنب أخطاء السوق وللاسراع بمعدلات التنمية والتصنيع والتحديث، اصبح ينظر الى التخطيط على انه خطيئة كبرى لا تغتفر، وانه لكي يطمئن القطاع الخاص وتزيد حوافزه على الاستثمار فإنه يتعين على الدولة ان تبتعد كلية عن التخطيط، وان تترك آليات السوق لتعمل عملها بحرية تامة، وبينما كان البعد الاجتماعي للتنمية (الرعاية الاجتماعية للفقراء والمحرومين) تعتبر ضمن اهداف التنمية والتقدم وبخاصة في مجتمعات البلاد النامية فيما بعد الاستقلال حيث كانت شعوبها ترزح تحت ظروف معيشية لا إنسانية، اصبح هذا البعد منبوذا باعتباره يشجع على التواكل والتكاسل ويستنزف موارد مالية كثيرة، ومن ثم فهو المسؤول عن عجز الموازنة العامة للدولة.
وعلى حين كان ينظر الى الضرائب كوسيلة اساسية للتوفيق بين التطور الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، اصبحت الضرائب متهمة بأنها تثبط همة الناس الأكثر دينامية وجسارة ولذا يتعين تخفيض الضرائب والحد من المشاركة في تكاليف الرعاية الاجتماعية ودفع الدولة الى التراجع في كافة الميادين لكي تتمكن السوق من تحرير »طاقات المجتمع الخلاقة« فلم يعد الامر يقتصر فقط على جعل السوق فاعلة والقطاع الخاص قائدا مزعوما، بل العمل بكل الطرق للحد من مجالات الدولة، وانتزاع كثير من اختصاصاتها الى اقصى درجة وإحلال السوق محلها بقدر الامكان.
ومهما يكن من امر، فقد تبين من تجارب التطبيق العملي لبرامج التثبيت والتكيف الهيكلي ان تلك البرامج تمخضت عن ايقاف التنمية، وزيادة معدلات الفقر والبطالة وتوسيع درجة اللامساواة في توزيع الدخل والثروة، وعن حدوث موجة انكماشية شديدة وفرت كثيرا من الموارد التي ستمكن البلد من الاستمرار في دفع أعباء ديونه الخارجية مستقبلا (وهو ما يتضح من الزيادة التي تحدث في حجم الاحتياطات الدولية للبلد) وتقرير كم هائل من المزايا والحوافز والضمانات التي تستهدف الارتفاع بمتوسط معدل الربح المتوقع لرؤوس الاموال الاجنبية الخاصة، وفتح أسواق هذه البلاد أمام الواردات حتى لو أدى ذلك الى منافسة مدمرة للانتاج المحلي، وغلق المصانع الوطنية وزيادة البطالة، وتقليل الفائض الاقتصادي الذي يؤول للدولة ونقله الى القطاع الخاص المحلي والأجنبي وهذه هي في الحقيقة الاهداف التي تسعى اليها الليبرالية الجديدة التي صاغت سياسات برامج التثبيت الهيكلي، وهي اهداف واضحة وتتسق تمام مع اهداف الدائنين والمستثمرين الاجانب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.