يمكن أن لا أضيف شيأ للبعض و يمكن أن يتفاجأ البعض الآخر بما سوف أسرد حول المواقف الشجاعة لحشاد و الرجولة في عرف القوة مواقف والموقف قرار والقرار إلتزام والإلتزام ثقة في النفس وفي الآخرين من حولك بأن يتجاوبوا معك فيما ذهبت إليه ومن أشجع المواقف التي لا بد أن يعتز بها كل نقابي القرار الذي أخذه حشاد على عاتقه حين أعلن الإستعمار عن وفاة المنصف باي في المهجر وخوفه مما سوف يحدث لو أن المنصف باي يدفن في تونس كيف ستكون ردة فعل الشعب التونسي بأسره؟ أنطلاقا من جماهيرية هذه الشخصية المقربة لقلوب كل التونسيين بدون إستثناء لدرجة أن المستعمر فكر في دفنه في مقبرة المسلمين بباريس ومن المعروف في تلك الفترة بأن حشاد كانت له علاقة مميزة بالمنصف باي كما سوف نرى لاحقا وأن المنصف باي لم يكن معاديا للإتحاد العام التونسي للشغل بل العكس هو الصحيح وقد كانت عودة المنصف باي للوطن مطلبا وطنيا قبل حتي الحقوق الأخرى وقبل حتي الغذاء رغما عن المجاعة والفقر السائدين في تلك الفترة وموقف حشاد عند وفاة المنصف باي جاء كرد جميل لشخصية وطنية لها مكانتها في قلوب الجميع وقد برهن حشاد عن قوة شخصيته وحضور بديهته وثقته في نفسه وقدرته على إتخاذ القرار الصائب الذي لا يمكن لأحد مراجعته فيه أو لومه أو عتابه عليه بل هو واثق من أن الجميع سوف يمتثل لذلك دون تردد ونحن نحي ذكرى إستشهاده أردت أن أطلع من لم يطلع بما فيه الكفاية على تاريخ حشاد ومواقفه المشرفة والثابتة والتي لا يقدر أي كان حتي بعد هذا الزمن الطويل نسبيا إلا أن يؤيده ويجله وهو درس تاريخي في قوة الشخصية وعدم الإرتهان لأي كان في إتخاذ القرار خاصة عندما يكون النقابي في مواقع متقدمة من المسؤولية فلا بد هنا من أن يطلع الشباب النقابي و العمالي على هذا الموقف الذي لزام علينا أن تحفظه الذاكرة الجماعية الوطنية وهو ما جاء في شهادة السيد رجاء فرحات في الندوة الفكرية التي نظمتها مؤسسة التميمي للبحوث والدراسات بالتعاون مع الإتحاد العام التونسي للشغل سنة 2002حول شخصية حشاد ومواقفه وهو يروى لقائه مع المقيم العام السابق بتونس حيث جاء ما يلي كنت في مكتبي في الإقامة العامة ذات صباح عندما جاءتني برقية من الكي دورساي تعلمني بوفاة المنصف باي وأنه سوف يدفن في مقبرة المسلمين في باريس ...غير أني أرسلت له برقية: إن مكان الملك هو في أرض أجداده...وإن لم تتراجعوا عن هذا القرار فسوف تصلكم إستقالتي ...فردوا عليه إن المسألة تهم النظام العام ...وإذا كنتم ضامنا للنظام العام فإنه في هذه الحالة سيقع نقل المنصف باي إلى بلاده في الأيام القادمة لكن على شرط أن الدفن يتم مباشرة بعد وصول الجثمان ...وقد أمسكت بالسماعة لأطلب أبرز تونسي في نظري محمود الماطري قلت له مات المنصف باي وأطلب منك المساعدة فبكى الدكتور الماطري ثم قال لي :بكل أسف سيادة المقيم إني لا أستطيع فعل شيء ...ثم إتصل بصالح بن يوسف الذي جاءه للمتكب وطرح شروطا سياسية مقابل ما يطلبه المقيم العام فذكره هذا الأخير بأن الموضوع ليس شروط سياسية نحن أمام نعش قادم إلينا بعد بضعة أيام فرد بن يوسف إن لم تأخذوا بعين الإعتبار هذه الشروط فلن تجدوا التعاون المطلوب وإنصرف ...فإتصلت بفرحات حشاد ورجوته أن يأتيني إلى الإقامة (كان حشاد في تلك الفترة العدو رقم واحد للمقيم العام) لأمر ليس سياسيا وأكد له بأن سوف يستقبله شخصيا في مكتبه ...وقد أدخلته مكتبي وعندما سمع فرحات الخبر أذكر أنه وقف وعلى رأسه شاشيته وتوجه نحو نافذة المكتب وبكاه لعدة دقائق مثلما يبكي الطفل والده ثم رجع لي وقال السيد المقيم العام تستطعون الإعتماد علي إن المنصف باي سيدفن في كنف الكرامة من قبل الشعب التونسي لكن لدي شرط واحد: إني لا أريد أن أرى أي جندي فرنسي إن النظام سيتوالاه التونسيون وخاصة الإتحاد العام التونسي للشغل ....وجاء قائد الحامية العسكرية ليعلمني بأن الأمر سيتحول إلى هيجان عام وأن العرب سيحطمون كل شيء وجاء (كوميسار) شرطة تونس لإعلامي بأنه مصمم على إعلام باريس بهذا الجنون كيف يتم تشييع المنصف باي بدون قوة عسكرية قلت لهم أوقفوا قواكم على بعد كيلومتر من مروره من ميناء تونس إلى الجلاز إذ المنصف باي أوصى بأن يدفن وسط شعبه... كتبت لوزير الخارجية البرقية التالية: دفن المنصف باي في جلال بين شعبه (إنتهى الإقتباس). تلك صورة حية وشهادة لا يرتقي لها الشك في الثقل الإجتماعي الذي لعبه الإتحاد العام التونسي للشغل الذى أضفى عليه حشاد رداءا من الوقار مستمدا من قوة شخصيته التي صغر أمامها حتى المستعمر الغاصب المتكبر الذي على عظمته وقوة آلته العسكرية إأتمر بأوامر وإنتهى بنواهيه ومما يزيد في القيمة المادية والمعنوية لهذه الحركة النبيلة والأخلاقية الرفيعة المستوى هي أن الحركة النقابية الوطنية مازالت حديثة العهد حيث لم تتجاوز من العمر السنتين فقط ، لقد أردت الإستشهاد بهذه الحادثة في مثل هذه المحطة التاريخية الوطنية ذكرى إستشهاد الزعيم النقابي والوطني فرحات حشاد وفي هذه الفترة التي يمر بها الشأن النقابي والتحديات المطروحة على الإتحاد العام التونسي للشغل بكل مكوناته عمال وهياكل والتي نحتاج فيها لمصدر قوة وإلهام يكون لنا جميعا دافعا لمزيد التمسك بمباىء الإتحاد التي فيها الكثير من العزة والشموخ وأن الإتحاد العام التونسي للشغل ومن والاه ما كان أبدا ليعامل على أنه الدرجة الأوطى بالعكس فان حشاد منذ البداية حجز مسبقا و للأبد ولكل منتسبي الإتحاد العام التونسي للشغل على مر الأزمنة والعصور موقعا متقدما وفي الصدارة ضامنا للجميع وزنا وطنيا وإجتماعيا لا يمكن لأحد تجاوزه أو أنكاره علينا وكأن حشاد وضع خطا أحمر لكل أحفاده من الأجيال القادمة أن لا تكونوا تحت هذا السقف بأي حال من الأحوال ثم أنه ذهب لأبعد من ذلك في فلسفته النقابية الوطنية أن الفرد التونسي مهما كان إنتمائه لا بد أن يكون محترما في وطنه حيا كان أو ميتا وهي رسالة أيضا في أن الإتحاد العام التونسي للشغل مسؤول عن الحقوق العامة والفردية للمجتمع التونسي بكل مكوناته ومدافع شرس عليها وأن الإتحاد قادر أيضا على حماية البلاد وحفظ أمنها متى وجد الآذان الصاغية والتعاون الصادق وهي حقيقة عاشها الغاصب المستعمر قبل الصديق والتي إنضبط لها الأجنبي فلما لا يحترمها الوطني إبن البلد؟ ولكن حشاد أضاف شيأ أخر فيه كثير من المعاني السامية و السلوك النبيل هو الإخلاص للمبادىء لنبيلة التي تأسس من أجلها الإتحاد والممارسة الصحيحة وهي نكران الذات وأن لا تأخذنا في الحق لومة لائم قولا و فعلا لأن حشاد لو لم يكن متشبعا بمثل هذه الأخلاقيات ما كان يتخذ مثل هذه المواقف الشجاعة و المؤثرة والتي قبل كل شيء يمكن أن تضعه موضع المتهم خاصة إذا ما علمنا بأن المقيم العام يكرهه شخصيا وأن الإتحاد العام التونسي للشغل غير مرحب به على الساحة الإجتماعية وحتي السياسية بالبلاد وهو مستهدف منذ ولادته ذاك هو حشاد العظيم الذي رغم منطلقاته النقابية في الظاهر لكن مسعاه كان وطنيا في الأساس وأنه لم يفرق قط بين منتسب للمنظمة وبين سواه من أبناء الشعب التونسي الذي أحبه ووهبه نفسه دون أن ينتظر جزاءا ولا شكورا إنما فقط المحافظة على (الشقف) كما كان يقول و(الشقف) المعني به الإتحاد العام التونسي للشغل هو ملك مشاع للجميع الفرق فيه ليس لمحافظة على المنظمة لأن ذلك أمر مفروغ منه إنما الأساس هو المحافظة على المكانة المتقدمة والثقل الإجتماعي الذي لا يمكن لأحد إنكاره أو تجاوزه داخل المجتمع ككل والذي إرتضاه لنا شهيدنا فرحات حشاد وفي ذلك فليتنافس المتنافسون بعيدا عن الشخصنة والذاتية المفلسة ورحم الله رجلا وهب نفسه وحياته ومكانته الإجتماعية ودفء العائلة التي كانت في بدايتها هي أيضا ملازمة للإتحاد العام التونسي للشغل التي ضحى بها من أجل أن يخلد الإتحاد وينعم الكادح التونسي بالحرية والإستقلال والمساواة والعيش الرغيد والذي نحن مرتهنون له أخلاقيا بالوفاء بالجميل و بدين خلاصه في بقاء الإتحاد حرا منيعا كما تصوره هو شخصيا وكل عام والإتحاد العام التونسي للشغل بخير وكل ذكرى لحشاد العظيم والإتحاد أقوى واثبت.