مازال التاريخ لم يستكمل كل ما يمكن أن يكون فرحات حشاد العظيم أتاه أو فكر فيه في الجانب النقابي و الوطني و ما زالت الأيام لم توضح لنا أسرار بعض المواقف الحاسمة و الجريئة التي اتخذها الى حد اليوم و مازلنا نتحسس ذلك في كل المواقع والمناسبات التي كلما اكتشفنا فقرة إلا وزادتنا احتراما و تقديرا لشخصه و شرفا للانتماء الى منظمة كان هو أول باعثيها مع ثلة من رفاق دربه من الوطنيين النقابيين الذين آمنوا بالفرد التونسي و الذي جعلوا منه الوسيلة و الهدف للتحرر من براثن الاستعمار الغادر الذي كان من أول مخططاته استهداف الوطنيين من رجالات تونس و نحن نعيش ذكرى 5 ديسمبر 1952 المؤلمة في حجم قوة وطأتها في نفوس الجميع زمن وقوعها و التي أصبحت فيما بعد مبعث فخر و اعتزاز لما كان لها من عظيم الأثر في تحريك المد الوطني و تصاعد وتيرة الثورة بالبلاد في آن واحد و كما يقول المثل الرجل حديث بعده و لو أردنا أن نقيس هذا المثل على شخصية فرحات حشاد لتجاوزته بأشواط كبيرة جدا والمتتبع لحياة حشاد و بصماته التي جعلت منه رمزا و هرما وطنيا لا يقاس من حيث النضال و لا من حيث التأثير في مجرى التاريخ الوطني سواء أثناء حياته أو بعد مماته و لا أريد هنا أن أستعرض مواقف الرجل في المحافل الدولية أو المناسبات التي دافع خلالها عن القضية التونسية و التي عرف بها لدى المنظمات الدولية النقابية والحقوقية و السياسية لكن هناك مواقف تعادلها و لا تقل عنها أهمية لما لها من تأثير في نفوس المواطنين و الوطنيين الأحرار داخل البلاد و خارجها و قد كنت طرحت أحد مواقف حشاد العظيم في العدد 1103 من جريد الشعب بتاريخ 4 ديسمبر 2010 بمناسبة ذكرى استشهاده و كانت تحت عنوان «بمثل هذه المواقف خلد حشاد» و كنت طرحت خلالها موقف حشاد الذي تحمل فيه كامل المسؤولية في دفن منصف باي بتونس لكني لم أورد لماذا أصر حشاد على ذلك في حين أن الأمر عرض على بعض الوجوه المعروفة في تلك الفترة مثل صالح بن يوسف و عبدالمجيد شاكر لكنهما رفضا هذا الأمر تحت تعلات متفاوتة و متباينة لكن حشاد إعتبر ذلك ردا للجميل تجاه هذا الرجل الذي أحبه حشاد و تعاطف معه و الذي كانت عودته من منفاه لأرض الوطن في عديد المناسبات مطلبا من مطالب الاتحاد العام التونسي للشغل و في عديد المناسبات الوطنية و الدولية التي حضرها حشاد و هو وفاء منه لرجل كان صاحب مشروع وطني تحرري ما زالنا لحد اليوم نطالب ببعض ما جاء فيها حيث يرتكز أساسا على حرمة الفرد التونسي وحرمة الوطن و ضرورة أن يشعر كل فرد بكرامته و هو يعيش فوق أرض وطنه و في محيطه و أن لا مجال لأن يهان العامل التونسي الذي يعمل في وطنه منقوص الكرامة مهان في مجهوده غير متكافئ مع العامل الأجنبي رغم أن نصيبه دائما الأشغال المرهقة و المخلة بالصحة لكنه الأقل أجرا من الفرنسيين و الإيطاليين وغيرهم من العمال الأجانب و لأن المنصف باي كان تماما مثل فرحات في موقفه الرافض لنهب خيرات البلاد من طرف المستعمر الفرنسي ولقد علمتنا التجارب و ما استخلصناه من حياة حشاد أن النقابي يحتفظ دائما بجسور التواصل و المحبة مع الذين يشاطرونه أفكاره و يحملون مثله هموم الشعب و المستضعفين بصفة عامة لأن نفسية النقابي تحمل دائما في طياتها الوفاء لمن يشاطرها الأهداف النبيلة لأن العمل النقابي هو من أنبل الأعمال الاجتماعية على الإطلاق لما يتضمنه من حب للآخر و تضحية من أجل مبادئ جماعية بعيدة عن الأنانية و حب الذات و أكبر دليل على ذلك استشهاد حشاد و هو في أوج العطاء و غزارة أدائه النقابي و الوطني رغم تحذيرات الآخرين له من أن بعض المكائد تحاك ضده في الخفاء لكنه لم يبالي بشيء لذلك أصر حشاد على دفن المنصف باي في ارض أجداده معززا مكرما إنطلاقا من مقولة ارحموا عزيز قوم أطرد قسرا من وطنه وانتزع منه تاجه قهرا لكن حشاد أبى أن يظلم المنصف باي بعد مماته و لم يكن الأمر من أجل ذلك فحسب بل من أجل قيم نبيلة تقاسمها الرجلان في حبهما للوطن و للفرد التونسي حيث كان المنصف باي من الذين يؤمنون بأن تونس بلد ذو سيادة لكنه تحت الحماية الفرنسية وليس بلد مستعمر لقد طالب بضرورة تكوين مجلس استشاري تشريعي تونسي حيث يمثل كل شرائح الشعب و تمسك بالمساواة في التعامل بين الموظف التونسي وزميله الأجنبي في جميع النواحي ومن أهم ما شد حشاد للمنصف باي مطالب مشتركة وهي أساسية في عرف العمل النقابي حيث تمسك المنصف باي بسراح المساجين الوطنيين أو السياسيين و بوجوب التخفيف من وطأة البطالة بتونس و ضرورة توفير مواطن الشغل للشباب التونسي والعاطلين عن العمل منه لأن البطالة زادت في تدهور الوضعية الاجتماعية و النفسية للشباب و للفرد التونسي بصفة عامة بل أن المنصف باي كان تماما مثل حشاد و رفاقه يصر على جانب في غاية من الأهمية نادى به من قبلهم محمد علي الحامي و الطاهر الحداد ألا وهو وجوبية التعليم للناشئة التونسية و مجانيته بل ذهب لما هو أبعد من ذلك حيث طالب بأن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوطنية للتدريس إلى جانب اللغة الفرنسية التي يفرضها المستعمر على أبناء الوطن قسرا كل هذه المطالب و الأفكار التي ينادي بها المنصف باي و التي انزعج لها المستعمر الفرنسي وطالب الباي الجديد بالتخلي عنها لكنه اعتبرها من مقومات الشخصية التونسية التي هي جزء من شخصيته باعتباره حاكم البلاد الشرعي و بما أنه مطلع على ما يجري في البلاد طالب المنصف باي بأن يشارك العنصر التونسي في مؤسسات القضاء و عملية مراقبة الموازنات و ضبط الميزانية العامة للبلاد وهي وظائف كانت على مدى المرحلة الاستعمارية من اختصاصات الرجل الأوروبي بصفة عامة و هي نقاط يلتقي فيها الرجلان و كل أحرار الوطن في تلك الفترة و الذين يرفضون الاعتراف بحق الأجنبي في طمس الهوية التونسية العربية المسلمة و تغريب التونسي في وطنه و الإمعان في تفشي الأمية و الجهل و الفقر فيه و ضرورة مزيد انغماسه في المسكرات والشعوذة و الابتعاد به عن كل ما يعمل العقل و ينور الفكر و يفتح البصائر عما يدور حوله من أمهات قضايا وطنه و نهب خيراته لقد ذهب المنصف باي في تلك الفترة المظلمة من تاريخ الوطن للمطالبة بتأميم عديد القطاعات المهمة و المؤثرة في حياة الفرد على غرار قطاع الكهرباء و النقل و غيرها ذاك هو المنصف باي التونسي الأصيل المحب لشعبه الذي لازمه و عاش واقعه اليومي و من أنبل ما قام به في تلك الفترة أنه لما اعتلى العرش قطع مع عادة الإذلال لأفراد الشعب حيث لغا عملية الانحناء أمام الباي و تقبيل يده و استعاض عنا بالمصافحة و هي لعمري قمة الاحترام للذات البشرية للتونسي في حين أننا مازلنا الى حد يوم الناس هذا نشاهد في الوطن العربي أيادي تقبيل من الجهتين، كما برهن على البعد الإنساني في فكره حيث رفض إصدار مرسوم يقضي بأن يضع يهود تونس النجمة الصفراء على صدورهم كي يتميزوا عن غيرهم من الديانات الأخرى واعتبر أن الجميع سواسية في تونس دون ميز عرقي أو ديني حتى في عملية دفنه التي أرادها حشاد أن تكون في مستوى عظمة صاحبها و في حجم فكره النيّر وغيرته على وطنه و أفراد شعبه الذي لأجلها أحبه و شيعه بتلك الكثافة و بكاه أهل الداخل و في الأرياف و التي تمت تحت الضمانات الشخصية لفرحات حشاد، ذاك هو حشاد و تلك هي مواقفه الخالدة يعطي لكل ذي حق حقه من أبناء وطنه دون حسابات ضيقة معتبرا المنصف باي شهيد الوطن و لم يكن مناصرا له باعتباره باي تونس الجالس على عرشها الذي لم تزد ولايته على السنة بل تنقصها قليلا إنما ناصر فيه قيمه النبيلة الداعية لتكريس حقوق الإنسان لشعب حر في وطنه بكل مقدراته الطبيعية و البشرية مع أن المنصف باي كان في منفاه لما تأسس الإتحاد العام التونسي للشغل.