في إحدى القرى الجنوبية بالمغرب، أكمل أحد المنتجين تصوير شريط سينمائي صنعت له مجموعة من الديكورات الثابتة من بينها جامع، بني على أرض استأجرها للغرض من فلاح بسيط يدعى »موحا«. عند الانتهاء من التصوير تمّ تفكيك كل الدّيكورات ما عدا الجامع الذي حوله أهل القرية إلى مكان حقيقي للصلاة. يسعى موحا لإقناع الإمام الجديد بضرورة هدم الجامع / الدّيكور، لأنّ الأرض التي بني عليها هي مصدر رزقه الوحيد. لكنّ الرّجل الذي يكشف عن عقلية انتهازية دنيئة يجيبه باطمئنان واثق وبنبرة لا تخلو من نظرات متشفّية ساخرة بأن منحه الأرض لأهل قريته لتكون جامعا للصلاة سيضمن له الثواب في الآخرة، وأن محاولته استرجاع الأرض وهدم الجامع سيورّطه في مشاكل في الدنيا قبل الآخرة. يثبّت المخرج الكاميرا في معظم مشاهد الفيلم على ملامح وجه موحا بطله منكود الحظّ الذي يواجه بحيرة ودهشة بالغيْن ردود الشيخ الفقيه وعمدة القرية وبعض ممثّلي السلطة السياسية وهم يهنئونه بالقصر الذي سيناله في الجنّة. يثير موحا رغم فداحة ما حلّ به السخرية في كلّ حركاته وردود فعله ويكاد يستسلم للمرض واليأس بل الجنون، لولا أن الصدفة وضعته أمام مذيعة تلفزيونية دعته في مهرجان فولكلوري شارك فيه بصفته عضو فرقة شعبية للحديث عن مشاركته فيستغلّ الفرصة للبوح بحقيقة أرضه التي انتزعت منه، وليطالب السلطات بإرجاعها له. يتصدى العمدة للخطاب ويقطع العرض التلفزيوني المباشر. وينتهي الفيلم بمشهد يصور موحا وهو يقاد إلى السجن. تلك هي أبرز فصول شريط الجامع المنتج سنة 2010 لمخرجه المغربي داود أولاد سيّد الذي نجح في صياغة كوميديا هزلية ساخرة، تذكّر بقصص الصور المتحرّكة، في مفارقاتها وغرائبها وشخصياتها النمطية الكاريكاتورية. ويفضح ببساطة وعمق ودون إثارة أو استفزاز السلطات السياسية والدّينية التي تتحالف في عالمنا العربي لصناعة الوهم والاتجار به. وقد عُرضَ الشّريط خلال الدورة الفارطة من أيام قرطاج السينمائية ونال جائزته البرنزية. في قرية أخرى بالجنوب التونسي تنطلق حكاية أخرى في شريط »شاق واق فيلم حلال« بمشهد مهيب لمراسم دفن، ولكن سرعان ما تتلاشى طقوس الخشوع أمام فورة مشاهد كوميدية ضاجّة وصاخبة، تتالت في الظهور المفاجئ لبائع الكاكي الأبله وهو يطلق صفارته معلنا عن بضاعته، ارتباك العمدة وهو يتلقى أمرا من ممثّل السلطة المحلّية بالقرية بالبحث عن إمام جديد يخلف الإمام المتوفى، غناء صاخب لشابين تعتعهما السكر، مشاهد الرقص والعشاء الصاخب الذي أُقيم بمناسبة خروج صعلوك شهير من السجن. إمام يوارى التراب و زعيم، صعلوك، يخرج من السجن، وحياة جديدة تبدأ في القرية بإعلان السلطة المحلّية عن مسابقة مفتوحة لاختيار إمام جديد للقرية. تساوي الوظيفة الجديدة ثلاث مائة دينار وتغطية اجتماعية ومكانة بين الناس. امتيازات أسالت لعاب جميع شبان القرية من العاطلين واللّصوص والمجرمين، ما جعلهم يسارعون في مشاهد كاريكاتورية إلى حمّام القرية للاغتسال وإعلان التوبة ثمّ يتدافعون لشراء ما يرونه من مستلزمات الإمامة ومتطلّبات التدّين والمعرفة بأمور الدّين. اتخذت المشاهد المصوّرة لهذه الانقلابات السلوكية السريعة التي تذكّر بأفلام الكارتون أشكالا كوميدية ساخرة دالة عن عقلية انتهازية تغذّت على الطمع وعظمت مع البطالة من قبيل إطلاق مفرط وفوضوي لِلِّحِيّ وشراء المسابح (جمع مسبحة) والمِسْكِ والطرابيش وما تيسّر حفظه وقراءته من القرآن والحديث استعدادا للمسابقة وما تخلّل ذلك من مراجعات مضحكة بين المتسابقين دلّت على فداحة جهلهم وذكّرت على نحو ساخر بمشاهد التمارين في البرنامج الشهير ستار أكاديمي الذي تتنافس الفضائيات العربية على نقل تفاصيل التباري فيه. يصوّر الفيلم لمخرجه التونسي نصر الدّين السهيلي بوضوح كيف يضطرّ الشباب العاطلون عن العمل إلى القيام بأي شيء للحصول على فرص عمل بما في ذلك التظاهر بالتدّين لأجل الفوز بالوظيفة الوحيدة المتاحة في تلك القرية. وقد كشفت بعض اللّقطات التي نقلها الفيلم في ردود المتبارين عن أسئلة اللّجنة حجم الجهل بأبسط المعارف الدّينية لكن أكثرها قوة وإثارة ما جاء في أجوبة زعيم صعاليك القرية الذي يدعى »قملة« فقد أجاب بثقة العارف المتمكّن أن جزاء مفطر رمضان القتل وعقاب الزاني قطع ذكره وجزاء من يقول بغير ما جاء في القرآن قطع لسانه. ولأنّها كوميديا مفاجآت فقد آلت الإمامة للشخص غير المتوقّع وهو الشاب الأبله، الألكن، بائع الكاكي، الذي يعجز عن قراءة الفاتحة. أثار القرار غضب شباب القرية وشجّعهم صراخ أحدهم »الهجرة، الهجرة« على الإعلان في مشاهد كاريكاتورية ساخرة عن تمرّدهم واعتزالهم. أخذ كلّ واحد منهم قليلا من الزّاد وساروا خلف بغلة زعيمهم الرّوحي »قملة« الذي جمعهم إلى حلقته ليظهر لهم بعض معجزاته، من قبيل سقوط حجر مقدّس من السماء الرّابعة كان قد قذفه أحد أطفال القرية و ظهور كبش كتب عليه »قملة أو لا أحد«. تذكر بعض المشاهد والأحداث بفصول التمرّد والاعتزال والهجرة التي صورتها بعض المسلسلات والأفلام التاريخية الشهيرة وخصوصا فيلم الرّسالة كما تذكّر أيضا بنوع من الاستعارة العكسية بالمجموعات والتنظيمات المتطرّفة التي اعتزلت مجتمعاتها ودخلت في ألوان من العمل السرّي. يختار المخرج أن ينهي شريطه بمشهد زعيم العصابة المتدّين وهو يتوجّه في آخر اللّيل بدعاء صادق للربّ أن ينصره وإخوته على أعدائه وأن يمكّنه من أموالهم ونسائهم. نهاية درامية لفيلم هزلي دلّت بقوّة على أن الكوميديا التي اختارها المخرج وان كانت مرحة، ساخرة، لاعبة، لكنّها جادّة وخطرة في نفس الوقت، تحمّل المسؤولية للجميع وخصوصا للسلطة القائمة. فالرغبة في السيطرة والقيادة والتحكّم في رقاب الناس والنزوع إلى التطرّف قيم وسلوكيات مشتركة بين زعماء عصابات الصعلكة وأمراء التنظيمات الجهادية المتطرّفة التي تسعى إلى أن يمكّنها الرّب من أموال ونساء أعدائها. كما تبيّن هذه الكوميديا أنّ التطرّف الدّيني يمثّل شتّى أشكال الانحراف صناعة ثقافية و اجتماعية وسياسية ننتجها كلّما أمعنّا في إغفال حاجة الناس إلى فرص العمل والحياة الكريمة، كلّما كذبنا وتظاهرنا بتشريك الناس في اختيار من يهتم بشؤونهم، كما تمّ في المسابقة المفتعلة، التي تمثّل من غير شكّ تصويرا كاريكاتوريا للانتخابات المزيّفة. ينتمي كلّ من فيلمي الجامع والشاق واق فيلم حلال إلى نمط مخصوص من الكوميديا يصطلح عليه ب »الكوميك« أو المضحك حسب الترجمة العربية. وتشكّل الأحداثُ المفاجئة والتحوّلُ السريع للشخصيات أحد العناصر الأساسية في هذه الكوميديا التي تذكّر شخصياتها النمطية وأحداثها المدهشة ومقالبها الساخرة بأفلام شارلي شابلن الشهيرة وأشهر أفلام الكارتون. في رواية »ايكو« الشهيرة »اسم الوردة« قتل الرّاهب »جورج« عددا من الرهبان الذين ماتوا بالسمّ الذي وضعه على صفحات كتاب لأرسطو موضوعه الضحك. لم يكن الرّاهب يخاف من ضحك العامة الذي تسمح به الكنيسة للتنفيس في الاحتفالات والأعياد بل كان يخاف من تنظير أرسطو للضحك، حيث يرقى بالكومديا إلى مستوى الفنّ. كان الرّاهب يخاف أن تتحوّل عملية نفي الخوف بواسطة الضحك إلى خطر عظيم يهدّد هيبة السلطة الدينية. وهو خوف تشاركه فيه بعض الأوساط السياسية والدّينية المحافظة في عالمنا العربي الإسلامي. بل إن الشقّ المتشدّد منها لا يحبّذ الفكاهة والضحك أصلا في التعاطي مع هذه القضايا لاعتقاده بأن التعاطي الكوميدي مع المقدّس والتعامل المَرِح مع المناسبات الجليلة والمقدّسة سواء تمّ ذلك في الواقع أو في الفنّ يحرّر الإنسان من الخوف الذي يسعى أصحاب هذا الخطاب إلى غرسه في نفوس المؤمنين.