عرفت النقابات العربية وسائل الاعلام منذ انطلاقتها الأولى منتصف القرن الماضي وقد مرت تجربتها في تلك الفترة بالعديد من المراحل... في البداية لم يكن هناك اعلام نقابي مستقل عن وسائل الاعلام الاخرى بل كانت اخبار ونشاطات تلك النقابات تُغَطّى ضمن تلك الوسائل. ولعل انطلاقة الاعلام النقابي العربي بشكله المستقل كانت في الستّينات لكنها تبلورت بصورتها الحقيقية في السبعينات مع امتلاك أغلب النقابات لوسائل اعلام خاصة بها... كثيرون يعتبرون الفترة الممتدة من السبعينات حتى نهاية الثمانينات الذهبية نظرا الى الدور الذي استطاع أن يلعبه الاعلام النقابي في المجتمع حيث كان واجهة حقيقية للعمل النقابي برمته في ذلك الوقت. أما الفترة الممتدة منذ منتصف التسعينات وحتى يومنا هذا فهي الفترة التي شهدت تراجع أداء الاعلام النقابي... فعلى الرغم من ان هذه الفترة عرفت تطورا إعلاميا مذهلا على الصعيد التقني لكن هذا التطور لم ينعكس إيجابيّا على الاعلام النقابي بل همشه... ولهذا الامر اسبابه الكثيرة التي سنحاول الوقوف عليها في هذه الورقة. ❊ مفهوم الاعلام النقابي: ارتأينا ان جزءا كبيرا من موضوع ورقتنا له علاقة بتحديد مفهوم الاعلام النقابي فعلى ما يبدو ان المصطلح يحمل دلالات كثيرة في داخله أسهمت الى حد كبير في تحديد موقفه وصورته النهائية: فمصطلح الاعلام النقابي بحد ذاته هو مصطلح تشعر أن فيه إقصاء أو محاولة إلغاء وهي تسمية غربية بعض الشيء حيث ان الاعلام إعلام مهما كانت هويته... ثم اذا كان الاعلام النقابي يتميز أو يختلف عن غيره فعلا فما هي أوجه هذا الاختلاف او التميز؟ هل للأمر علاقة بالشكل أم بالمضمون؟ بمعنى هل نستطيع ان نطلق على الاعلام الذي تصدره المؤسسات الدينية أنه اعلام ديني مثلا أو الاعلام الذي تصدره الهيئات النسائية الذي يهتم بشؤون المرأة أنه اعلام نسائي؟ اذا، نرى أن اطلاق التسمية منذ البداية لا يخلو من الخبث لان الاعلام اعلام مهما كان مضمونه أو شكله... ولعل هذا يقودنا الى السؤال التالي: ما الذي نقصده بالاعلام النقابي العربي تحديدا؟ أهو الاعلام الذي تصدره الاتحادات العمالية بأشكاله المتعدّدة وينطق باسمها ويعبر عنها ويهتم اساسا بمشكلات الطبقة العاملة ونضالاتها؟ أم هو ذاك الاعلام الذي يتخذ من العمل النقابي واجهة له من أجل ايصال رسالة سياسية؟ أم ان كلا النوعين يمكن ان نطلق عليه تسمية الاعلام النقابي؟ من خلال محاولتي البحث عن المقصود بالاعلام النقابي وجدت ان المقصود به هو الاعلام الذي تصدره النقابات على وجه الخصوص ولا يشمل ذلك الاعلام المتعاطف مع القضايا النقابية مع الاشارة الى ان هذا الاعلام يمثل تجربة مهمة في عصرنا الحالي وقد نجح في اثارة قضايا على درجة كبيرة من الاهمية... غير اننا سنقصر كلامنا في هذه الورقة على الاعلام النقابي الذي تصدره النقابات تحديدا. من خلال تجربتي مع هذا الاعلام لعدة سنوات، كان يلفت انتباهي دائما النظرة الخاصة التي كان ينظر بها اليه سواء من قبل وسائل الاعلام الاخرى أو من قبل المتلقي... وسائل الاعلام الاخرى الرسمية والخاصة تتعامل م هذا الاعلام على انه درجة ثانية او ثالثة واحيانا كثيرة لا ترى انه اعلام... وهي نظرة طارئة لم تكن في السابق وهذا يعود في رأيي الى ما بعد التسعينات وهي الفترة التي شهدت تراجع هذا الاعلام بعد غياب او هروب الأطر المهنية التي كانت تقود هذا الاعلام الى الاعلام الأشمل سواء الخاص او العام... وفي سوريا هناك أسماء كبيرة كانت موجودة في الاعلام النقابي حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي لها اليوم وزنها في وسائل الاعلام الاخرى... إذا، تعرض الاعلام النقابي منذ البداية لهجرة كوادره المهنية وهو امر يمكن قول الكثير في اسمائه التي شكلت في مجملها بداية المشكلة والمأزق الذي يعيشه اليوم الاعلام النقابي. أما المتلقي على محدوديته هو ايضا يتعامل مع هذا الاعلام على انه ليس اعلام حدث ولا يستطيع ان يستقي منه معلومته كما انه لا يحمل التغيير الذي ينتظره... اضافة الى ذلك فهو لم يعد يجد صورته فيه كون الفاعلية اتجهت برمتها نحو وسائل الاعلام الرسمية الاكثر جماهيرية... فتلك الوسائل كما هو معروف تتبناها الدولة وتعتبرها واجهتها الرسمية وتعول عليها كثيرا في توجيه الرأي العام بل وتعتبرها صلة الوصل الرئيسية والقناة الراجعة بينها وبين هذا الرأي... لذلك هي وسائل ممولة ماديا ومهنيا ومؤسساتيا بشكل جيد... قد يرى البعض ان الاعلام النقابي في ظل هذه الظروف محكوم بواقع تشاؤمي يصعب تغييره... فكل المعطيات تميل الى فائدة الاكبر والاقوى على حساب الاعلام الضيق الذي يخاطب فئة معينة... لكن هل يعني هذا انه لا جدوى مما نقدمه من اعلام...؟ سؤال يبدو للوهلة الاولى مخادعا... فالقول بعدم جدوى ما نقوم به امر محبط فعلا... لكن لماذا لا نعترف بالحقيقة... فنحن نمتلك صحفًا ومجلات لا تُقرأ وبرامج اذاعية وتلفزيونية لا تُسمع ولا تُشاهد. نمتلك كذلك مواقع الكترونية لا تُتَصَفّحُ... وحتى أخبارنا في وسائل الاعلام الاخرى الاكثر اتساعا لا تثير الاهتمام الا اذا كانت مرتبطة بالشأن العام... فهل هذا يعني أنه يجب ان نتوقف عن ضخنا الاعلامي ونوفر ما نبذله من امكانيات مادية وغيرها... أم يجب ان نتطلع الى عمق المشكلة ونبحث عن حل لها... كون الامل كبير في ان نعود من جديد الى واجهة الحدث الاعلامي...؟ ❊ الاعلام النقابي العربي... نظرة في العمق: لا أعتقد أننا دخلنا في نفق مظلم وليس بوسعنا الخروج منه، بل إننا قادرون على الخروج لكن سيكلفنا ذلك بعض الارتطام بالجدران... ونحن اليوم نرتطم بالفعل وأعتقد أنه لم يتبق أمامنا سوى الخروج... وإمعانا في تشخيص المشكلة فان الحل في رأيي يتعلق بطبيعة فهمنا للمرحلة الراهنة ومتطلباتها وايضا فهمنا لدورنا الحقيقي فيها. فكل النقابات على اختلاف أنواعها واختصاصاتها هي صاحبة رسالة ومعنية في نفس الوقت بايصال هذه الرسالة الى الفئة التي تمثلها... وهي من جهة ثانية تمثل المجتمع وتعكس صورته... لكن السؤال. لماذا لا يرى المجتمع صورته في اعلام هذه النقابات؟ واذا ما دعمنا اعلام هذه النقابات بالامكانيات المادية والمهنية المطلوبة ووفرنا له كل الظروف المتوفرة لغيره، هل يستطيع هذا الاعلام أن يصبح جماهيريا ويحقق ما يصبو اليه؟ مما لا شك فيه ان معرفتنا بالمشكلة يشكل نصف الطريق الى الحل ولو طرحنا السؤال السابق على القائمين على النقابات والعاملين في اعلامها لتطلبت الاجابة منهم فترة طويلة... لأن الامر مرتبط بمغامرة لا أحد يستطيع ان يتحمل مسؤوليتها... أقول بصراحة إننا وصلنا الى مرحلة نكاد نفقد فيها الثقة بالواقع الراهن وهو ما يقودنا الى حالة من اليأس بجدوى الطرق السليمة والصحيحة... فثورة الاتصالات خلخلت ثوابت كثيرة والتطور التقني متحرك يوميا ولا يمكن العمل معه وفق شكل نهائي... لم نعد قادرين على التعويل على اي شيء، لكنّ هذا لا يعني انه لا أمل في ما نقوم به... بل الامل موجود وكل ما هو مطلوب منا ان نحدد وجعنا بدقة... ❊ المضمون... بين المشكلة والحل: لقد قرأت مقالات كثيرة تتحدث عن الاعلام النقابي وتنظر الى ما يجب ان يكون عليه هذا الاعلام ليصبح مقروءا ومسموعا ومُشَاهدا ومُتَصَفّحا... واغلب هذه المقالات تشخص المشكلة بشكل صحيح لكنها لا تطرح الحلول المناسبة. لقد لفت انتباهي ان بعض هذه المقالات تجد المشكلة في التحديث والتفعيل... بمعنى ان نحدث مواقعنا الالكترونية ونوزع مطبوعاتنا بشكل اكبر وهي لا ترى اطلاقا ان المشكلة في مضمون هذا الاعلام بل ان البعض يشخص المشكلة على انها ضعف تواصل بين القيادات النقابية في عدد من الدول ويرى الحل في عودة هذا التنسيق. بعيدا عن هذه الأوراق دعونا في البداية نعترف ان مضمون اعلامنا هو المشكلة... ومن خلال تصفحي لعدد كبير من المواقع الالكترونية والمطبوعات المعنية بشؤون النقابات وجدت ان هذا الاعلام يركز على اخبار قياداته وتنقلاتهم وتصريحاتهم المكررة بينما تؤجل القضايا المهمة التي قد تكون متضمنة في مضمون هذه التصريحات الى فقرات تالية ولا يتم ابرازها بالشكل المناسب... كما تغلب على اعلامنا الصيغة الخبرية التقريرية وتغيب باقي الانواع التحريرية كالتحقيق والاستطلاع والتعليقات والزوايا وغيرها من الانواع التي تعتبر في عصرنا الحالي أكثر لَفْتًا للانتباه... باختصار شديد إن الاعلام النقابي العربي الحالي هو بمثابة وكالة انباء رسمية للنقابات لا أكثر ولا أقل وهو ما يدفع وسائل الاعلام الاخرى الى أن تتجاهل ما يطرحه هذا الاعلام... وكي نكون فاعلين في اعتقادي، علينا ان نتخلى عن البزة الرسمية التي ألبسناها للاعلام النقابي والتي أفقدته حضوره... والبحث عن ساحة العمل الحقيقية التي يجب ان يكون بها لاعاملون بها الاعلام... والمطلوب منا ان نتورط اكثر بمشاكل وهواجس من نمثلهم وان نعايشهم ونعايش همومهم... وان ننزل الى الميدان مسلحين بهواجس هذه الفئات كي نكون اكثر صدقا بنقل أخبارنا... عندها فقط يمكن ان نصبح مرجعا اعلاميا للآخرين ويصبح ايضا من الصعب تجاهلنا... طبعا ثمّة تجارب مضيئة امامنا... حتى وان لم تكن كثيرة. هي موجودة وأغلبنا يعرف على الاقل وسيلة اعلامية في بلده نجحت في طرح قضايا نقابية جماهيرية أثارتها بصورة لفتت انتباه الحكومات ووسائل الاعلام العالمية... مثل جريدة اليوم السابع المصرية وفي سوريا هناك ايضا عدد من المطبوعات التي حققت حضورا مميزا بطرحها لقضايا نقابية حساسة... لكن للأسف اغلب هذه الوسائل وفق تصنيفنا للاعلام النقابي لا تعتبر ضمن هذا الاعلام. يرى كثيرون اليوم انه يجب ان نستفيد من الثورة التقنية خاصة في مجال الاعلام الالكتروني وهم يرون فيه المدار الحقيقي للاعلام النقابي في المرحلة القادمة لأن الاعلام الالكتروني رخيص في سبيله للانتشار كما شاشة التلفاز في كل بيت... وأنا أتفق تماما مع هذا الامر لكن بشرط ان يكون مقترنا بتغيير المضمون. إن النقابيين المؤمنين فعلا بضرورة تحسين واقع المشهد الاعلامي النقابي العربي ملزمون بتشجيع هذه الفضاءات الالكترونية عبر الكتابة والنشر على صفحاتها وتقديم الملاحظات الى المشرفين عليها لتحسين أدائها اضافة الى التعريف بها. ان الاعلام النقابي الالكتروني في ظل هذا الانغلاق وهيمنة خطاب خشبي بائس على مختلف وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة هو ملاذ كل النقابيين الصادقين الحامل لهمومهم والناقل لنضالاتهم. وبالتالي فإن انجاح مسيرة هذه التجربة الوليدة هي مسؤولية كل النقابيين خاصة ان الاعلام كما يقر بذلك النقابيون والعارفون بالشأن النقابي هو الشريك الاساسي في معارك النقابيين وعامل بارز في انتصاراتهم ونضالاتهم. ❊ الخاتمة: لابد ان يمر تطوير الاعلام النقابي عبر قراءة نقدية شاملة للمرحلة التي شهدت تراجعه والظروف الموضوعية لهذا التراجع... وبالتالي لابد من دراسة الجدوى من ايجاد اعلام نقابي يعنى بشؤون الفئة التي يمثلها ويطرح قضاياها اماما الحكومات والرأي العام...