(...) وتُعتبر العولمة مثل كل نمط إنتاج اجتماعي له بعده الثقافيّ والإيديولوجيّ، نمطا إنتاجيا رأسماليا معولما له بُعده الثقافيّ والإيديولوجيّ المعبّر عن توجّهاتها، والعامل على تكريسها وتثبيتها. فعلى هذا الصعيد، تقدّم العولمة على أنها ظاهرة طبيعية في السيرورة العامّة للإنسانية، أي أنها حتمية تاريخية، اجتماعية لا جدوى من مقاومتها، فهي مآل البشرية ومنتهى رحلتها. وما على الجميع إلاّ التكيّف معها والاندماج فيها تفاديا للتهميش والخروج عن مسار التاريخ. انطلاقا من هذا المرتكز الفكري وسعيا إلى تسويق العولمة، يروّج الإعلام والأدبيات الموجّهة وغير الموجّهة جملة من الأفكار حولها، منها: 1) اعتبارها طريق المستقبل وسبيل المجموعة الإنسانية إلى الرخاء، وذلك لإلغائها الحدود وتقليص المسافات وتقريب الجميع من بعضهم بعضا وتشريكهم في الفعاليات الاقتصادية وتوفير سوق عالمية واحدة لهم تلبّي طلباتهم وكلّ حاجياتهم، وما كان هذا ليتمّ لولا أرقى الإنجازات العلمية والتقنية ولولا الثورة الجديدة في مجال المعلومات والاتّصال. هذا الخطاب التزويقي، هدفه إخفاء الوجه الحقيقي للعولمة، إخفاء تناقضاتها وعدوانيتها وتسلّطها على الشعوب ومصادرة استقلالها. 2) ادّعاؤها الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان واعترافها بالأقلّيات العرقية والمساواة بين الجنسين، وغير ذلك من الأكاذيب المفضوحة. فأمريكا ما تزال حتى الآن ترفض التوقيع على عدد من الاتفاقيات، سواء كانت قضائية أو بيئية أو غير ذلك. أليست أمريكا معروفة بدعمها لأعتى الديكتاتوريات مثل الشاه وسيموزا والسعودية وغيرهم؟ ألم تقم بإسقاط بعض الحكومات المتبنّية للخيار الديمقراطي والانتخاب العامّ كما حصل مع حكومة اللندي في »الشيلي« ومع حكومة شافاز في »فنزويلا« ثم إن عدوانها على العراق كان مخالفا تماما لكلّ الأعراف والقوانين الدولية، وهو ضد إدارة المجموعة الإنسانية قاطبة. فديمقراطية العولمة، ديمقراطية مغشوشة واستهتارية وعدوانية. 3) أدبياتها المبشرة بها تتضمّن في ثناياها دعوة إلى إنسانية عالمية وهمية مكذوبة، لربط المعولمين بما هو خارج أوطانهم. وما الغرض من هذا إلا تمييع الانتماء والولاء للوطن والأمّة والثقافة. والأمر في هذه الناحية لا يقتصر على هذا التضليل الثقافي الإيديولوجي فقط، وإنما هناك أيضا أساليب عدائية أخرى مثل تفجير الصراعات الداخلية في الوطن العربي مستغلّين العرقية والطائفية الدينية واللغوية ، ففي المغرب العربي يجري ضرب وحدة السكان عن طريق النزعة البربرية »المتمزّغة«، وفي المشرق العربي يجري تفتيته عن طريق العرقية والطائفية الدينية، وفي العراق حاليا تعمل أمريكا على إحياء كل أنواع الطوائف وتهيئتها للصراع ضدّ بعضها بعضًا، والهدف من كلّ هذا تفكيك عناصر التماسك في الأمّة والقضاء على هويّتها. 4) في وسائل الإعلام والأنشطة الثقافية والدعائية يجري التركيز على الفردية وعلى تنميتها والتضخيم من شأنها، كي تتخلّق في الناس بالنفعية ونفسية التفصّي من الالتزامات، مما يسهّل عزلها عن مختلف الروابط الاجتماعية والوطنية والقومية وكلّ ما يشدّ الفرد إلى مجتمعه واقعا وتاريخا وحضارة. فهدف العولمة تحويل القيم وكلّ الأشياء مادية ومعنوية إلى سلعة أي أنها لا تؤمن بغير النفعية ولا شيء غير النفعية. 5) اعتماد العولمة على وسائل الاتّصال الحديثة مكّنها من نقل ثقافتها إلى داخل الحدود الوطنية والقومية لتثبيتها، وسمّيت ثقافة العولمة في هذه الحالة »ثقافة الاختراق« التي أثّرت في الحياة الفكرية والثقافية للشعوب المخترقة بدرجات متفاوتة، وهذا ما نلمسه في: أ) اختفاء مقولات الفترة السابقة: الوطنية، التحرّر، الاكتفاء الذاتي، حماية الاقتصاد الوطني، ديمقراطية التعليم، وحلّت محلّها مقولات أخرى : التفتح، الانغلاق، الشراكة، صراع الحضارات، التسامح (القبول بحقيقة إسرائيل الإجرامية). ونعيد بهذه المناسبة ما ذكره إسماعيل صبري في نصّه السابق الذي لاحظ »مع ازدهار إيديولوجية السوق اختفاء الوطنية قيمةً من سلوكنا ولفظًا من لغة حديثنا المكتوب أو المنطوق (41)«. ب) التدخل في برامج التعليم وما أدى إليه من تحوير في محتويات بعض الموادّ: تاريخية ودينية وأدبية وفلسفية. وكانت إسرائيل من قبل تطالب بحذف وتغيير كلّ ما يمسها . واستجابت لهُ مصر والمغرب وعدد من الدول العربية. وخضعت تونس أيضا إلى هذا التوجّه فأدخلت عدّة تعديلات على مقرّرات الموادّ في تسعينات القرن المنصرم. وهناك حديث يدور بين رجال التعليم مفاده أن وزارة التربية والتكوين قد تُقْدِمُ على إلغاء مادتي التاريخ والتربية الإسلامية من التدريس مع إمكانية تناول بعض موضوعاتهما ضمن أنشطة ما سمي بالنوادي المدرسية . وبالطبع فهذه الأنشطة ليست منتظمة ولا إلزامية، قد تنجز وقد لا تنجز. وإذا كانت إسرائيل قد طالبت من قبل بإدخال بعض التغييرات على المقررات المدرسية فإنّ أمريكا تطالب الآن بإدخال تغيير شامل على هذه المقررات. وفي معرض الصحف لإحدى الفضائيات العربية (25 ماي 2003) أوردت مجلة الأسبوع المصرية أن ثمانين خبيرا أمريكيا في شؤون التعليم سيقومون بفحص برامج التربية والتعليم في الدول العربية أي أنّ مطالبتهم بالتغيير في الموادّ ستكون واسعة ومحدّدة وصارمة. والمعروف أن دول الخليج تواصل منذ السنوات الأخيرة إدخال التغييرات على برامجها التعليمية والتربوية. وقامت السعودية بطرد ألف من أئمة المساجد. وحرّمت على الجميع أن يتناولوا في خطبهم الهجمة الأمريكية على المنطقة والإسلام ، لكون ذلك من قبيل الموضوعات السياسية التي لا تهمّهم ولا شأن لهم بها. كما طالبتهم أيضا بالتخلي عن استعمال كلمة »الكفرة« استرضاء لأمريكا وتحاشيا لغضبها. وقام الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بإغلاق معهدا دينيا نزولا عند الرغبة الأمريكية. وعلى كل فإنّ عملية التحوير في المقررات استجابة للصهيونية أو لمتطلبات العولمة الأمريكية هي أمر عامّ في الدول العربية التي استحكمت فيها التبعية وأفقدتها حريّة القرار والاختيار، وبالطبع فإنّ التسلط على موادّ التعليم يهدف أساسا إلى »الاستئصال الثقافي الحضاري« وإلى »قتل الذاكرة« وإنهاء العلاقة التي تربط الماضي بالحاضر والمستقبل. ت) الاختراق الثقافي للعولمة لا يقتصر على ما ذكر فقط بل هو شامل لكل مناحي الحياة الاجتماعية والفكرية والفنية والذوقية في الأكل واللباس والعمارة وغير ذلك. هُنَاكَ تنميط ثقافي إلى جانب التنميط الاقتصادي والسياسي . والاختراق الثقافي ليس صراعا بين الثقافات كما قد يتوهّم البعض وإنّما هو »إحلال ثقافة العولمة محلّ الثقافات الأخرى«.