حين ولجنا قاعات الدرس لننهل من معينها المسجور كان من بين المعارف التي تلقيناها ودرسناها وحفظناها أنه يمكن أن تتوفر للمجتمع آليات تسمح بمراقبة السلطة ومحاسبتها وتساهم في تأمين حقوق الأفراد من سلطة الدولة وهي إن توفرت تجعل المجتمع المدني العين الساهرة على دوام الديمقراطية واستمرارها ففي الدولة الديمقراطية وعلاقتها بالمجتمع المدني لا بد أن يقع دعم مؤسسات المجتمع المدني دعما قانونيا وماديا و ذلك بالحرص على تشريكها في اتخاذ القرار والمساهمة في جهود التنمية وتكريس مبدأ الوفاق... إلا أن ما أضحت تطالعنا به تلفزتنا الموقرة منذ سنوات تقريبا يضرب هذا المفهوم الذي اقره رجال القانون والمشرعون عرض الحائط وذلك من خلال ما تبثه من حالات اجتماعية أسبوعيا وعبر ثلاثة برامج تقريبا ، فمن منا لم يسمع ولم تأتيه أخبار ما ينجزه برنامج »عندي ما نقلك« و »الحق معاك« و»المسامح كريم« من معجزات وخوارق تتمثل في إرجاع الحقوق إلى أصحابها في ساعات قليلة بعد أن عجزوا وأضناهم الإرهاق والتعب والمماطلات والتسويف والوعود من قبل الإدارة التونسية بمختلف أصنافها وأدوارها ومسؤوليها من بلدية، ولاية، وزارات، مؤسسات عمومية، مؤسسات خاصة، صناديق اجتماعية، مستشفيات، مصحات وغيرها على تحقيقها: لله درها تلفزتنا وبالتحديد هذه البرامج. كيف لا وقد أعطت الابن الذي حار وضاع وتاه مدة ثلاثة عقود باحثا عن عائلته الأصلية الخبر اليقين فلئن قال الشعر قديما »وعند جهينة الخبر اليقين« فاليوم نهتف عاليا:» وعند برامجنا التلفزية تربت يداها الخبر اليقين«؟ وكيف لا وقد تحصل سكان العمارات على شققهم ودخلوها فرحين مسرورين بعد أن يئسوا من ذلك وتبخرت آمالهم وأحلامهم جراء السنين الطوال التي عاشوها في الانتظار ولكن بدون جدوى إلى أن نزلت معجزة برنامج »الحق معاك« وبين عشية و ضحاها تحقق المستحيل بفضل اتصالاته بأعلى المسؤولين الذي يمده بالجواب الإيجابي وذلك في لمح البصر بعد أن استحال على أصحاب الحقوق حتى الاتصال بأبسط مسؤول...؟ ثم تنعم علينا تلفزتنا الموقرة مرة أخرى ومرّات أخر بإدخال الفرحة على قلوب المظلومين والمشاهدين فتنزل الدموع مدرارا تأثرا و تبلغ حمى العواطف ذروتها و تتحول هذه الانجازات العملاقة التي تحققها هذه البرامج الخارقة إلى مسلسلات (استرجاع أرض بعد عقود، تصالح زوجين بعد شقاق لم تبت فيه هيئات المحاكم،عودة الابن الضال إلى أهله، البت في شرعية أحد الأبناء بعد عجز مخابر التحليل عن ذلك، استرجاع مصاريف العلاج بعد سنوات غابرة، إقرار وجوب العلاج بالخارج بعد أن كان مستحيلا)... يسهر من أجلها جمهور كبير أمام الشاشة و أبصاره خاشعة و كأنما على رأسه الطير ينتظر النهاية كالنهاية التي كنا ننتظرها في الأفلام المصرية في الستينات والسبعينات والتي بختامها يتزوج الأبطال وتصير هذه الفرجة حديث الجمهور في الغد وذلك في الحافلة مرورا بالمقهى وصولا إلى مقر العمل. أنا في حيرة من أمري هل أسعى بعد كل ما سمعت وشاهدت من خلال هذه البرامج إلى المؤسسات المدنية والقضائية لقضاء شؤوني وحلّ مشاكلي؟ أنا في تساؤل يؤرقني كثيرا: هل مازالت مؤسسات تعيد الحقوق لأصحابها كالمحاكم والبلديات والولايات والمؤسسات العمومية والخاصة أم أن هذا الأمر قد ولى وأدبر وانتهت معه مقولة: »ما ضاع حق وراءه طالب« إلا إذا التجأنا وسابقنا وسارعنا وهرعنا إلى برنامج »الحق معاك« ، »عندي ما نقلك« ، و »المسامح كريم« التي بلغت كلها مستوى التقاضي بعد التقعيب. فلا عجب أيها المار من أمام مبنى الإذاعة و التلفزة أن تجد عدد الطوابير يتضاعف باطراد كل يوم.