رغم أن الغالبية الغالبة من العاملين في المشهد السمعي -البصري التونسي، ولأسباب عدة منها الثقافية بالأساس، ما زالت تتوجس من تعددية المعنى في الصورة ولم تطور حاستها البصرية فتحصنت بعالم «الإثبات الكتابي»، فأن الوسائط الاتصالية في بلادنا، كما بينها رصد شركة «سيغما كونساي» لشهر جويلية الفارط، ولسبب التطور الحضري والنمو العمراني وتشكل التجمعات البشرية على أسس المواطنة وليس على الولاء التقليدي، هذه الوسائط أصبحت عينا تجارية تزرع المعاني وجذب الاستثمار... جني الاستثمار بزرع المعاني ففي شهر جويلية وبصفة «نظرية»، جمعت هذه الوسائط من تلفزات وإذاعات وصحف ما يقارب 7 ملايين دينار من الإعلانات وينقسم هذا «الكنز النظري» على النحو التالي: 1 التلفزتان العموميتان (تونس 7 وتونس 21) حصلتا على 959 ألف دينار فيما جمعت حنبعل لوحدها ما يقارب ضعف هذا المبلغ، أي مليون و641 ألف دينار... 2 كان نصيب الصحف المكتوبة بالعربية والفرنسية أكثر من 2 مليون دينار. 3 فيما كان نصيب الإذاعات أكثر من 2 مليون دينار أيضا مع العلم أن القنوات العمومية هنا كذلك هي الخاسر الأكبر لصالح إذاعة «موزاييك» بتونس و«جوهرة» بالساحل... زرع المعنى يتأتى من الخطاب الإعلاني، السطحي كما الضمني. وإن اتسم شهر جويلية في تلفزتي القطاع العام بالامتثال لوظيفتهما العمومية من خلال الإعلان عن مهرجانات قرطاج والحمامات وبنزرت وصفاقس، فإن توزيع الباقي ينسحب على الاتصالات، المأكولات والإستهلاك... أما في حنبعل، فإن الأولوية تذهب للمأكولات تليها الاتصالات فالنظافة وتأتي المهرجانات كنوع ثقافي في المقام قبل الأخير... أما في مجال المطبوعات، فإن رأس القائمة يحتلها الاستهلاك ويأتي بعده النقل وما يتبعه ثم الاتصالات فالمواد الكهرومنزلية وتأتي في آخر القائمة إعلانات التربية والتكوين... في باب إذاعتي «موزاييك» و«جوهرة»، يكون التوزيع على النحو التالي: المأكولات فالاتصالات فالبنوك تليها الفندقة ثم الكهرومنزليات... وقراءة متأنية لتراتبية الميادين وتحليل أعمق لمحتوى الخطاب الإستشهاري الضمني بجميع أجناسه قد يدلنا على القيم التي ينفثها الاستشهار في الكيان الاجتماعي التونسي... الحلم هو الملجأ هذه الخلفية القيمية التي تزرع في المجتمع جراء الاستشهار ومضامينه والتي هي في النهاية رؤية للعالم دالة على تكتل أو تحالف طبقات اجتماعية قد تعبر عنها بصفة أو بأخرى البرامج الأكثر مشاهدة في قنواتنا المحلية... كما هي العادة، البرنامج الذي يحصد أعلى نسب المشاهدة هو برنامج «المسامح كريم» لمنشطه علاء الشابي على قناة حنبعل (4,5 في المائة) وهو في حد ذاته علامة جد ناطقة وإن ظاهريا - عن أعلى هرم القيم الاجتماعية فيما تأتي الأخبار الرئيسية بتونس 7 على رأس القائمة العمومية بنسبة 3,8 في المائة... وإن كان من الطبيعي ان يحتل برنامج حنبعل الصدارة كما اسلفنا، فمن المفاجآت أن تحتل الأخبار مركزا هاما حتى وإن كان ذلك ملحوظا مذ ضخت القناة العمومية في الشبكة برامج «البصبصة» أو تلفزة الواقع التي ينتجها سامي الفهري مثل «عندي ما نقلك» لعلاء الشابي أو «الحق معاك» لمعز بن غربية الذي حصل على نسبة 3,6 في المائة من نسب المشاهدة، أي 86 الف مشاهد. وإن اتسمت برمجة حنبعل بالمنحى الروائي الفج حتى في برامج القرب، وهو ما نلاحظه في ضخامة نسب إستقطاب المشاهد من طرف المسلسلات المصرية والغربية (5,8 في المائة، أي ما يقارب 140 ألف مشاهد موزعة على «باب الحارة» و«سنوات الضياع» و«المصراوي» و«كيدنابد») فإن ذلك تؤكده برمجة تونس 7 إذ احتلت البرامج الروائية ما يعادل 6,4 في المائة، أي 153 ألف مشاهد موزعة على «عند عزيز» و«قمرة سيدي محروس» وهما إنتاجان تونسيان خلافا عما قدمته حنبعل... من هنا يمكن القول أن البرامج الروائية (مسلسلات وأفلام إلخ..) تستقطب نسبا هائلة من التونسيين بمعدل 12,2 في المائة، أي ما يقارب 293 ألف مشاهد مقابل البرامج «الواقعية» والخدماتية على تونس 7 (الأخبار الرئيسية، «متابعات»، «أحلى ناس» و«همزة وصل») والتي لا توجد على حنبعل تي في، وذلك بنسبة 8 في المائة أي 194 ألف مشاهد.. ولو جمعنا الإنتاجات التونسية روائيا وخدماتيا لرأينا أن التونسي في النهاية لا يجد نفسه إلا في صورته مهما كانت أثار الخربشات على المرآة... وهكذا ورغم هيمنة القناة السعودية اللبنانية (أم، بي، سي 4)لشهر جويلية، فإن «قاع الخابية» مازال تونسيا مهما اختلفنا في تقييم مكوناته.. وهي سمة من سمات المجتمعات المتماسكة والثابتة وإن اهتزت من حولها الأرض...