يمثل الاعلام حقل ألغام بامتياز، ذلك أنّه بقدر ما يأبى التردّد والمشي الأعرج بقدر ما يطلب المغامرة والجرأة، ولئن اختارت بعض الدول مغامرة التجوّل داخل ، فإن أغلب دول العالم خاصة المتخلفة منه والنامية لم تتجرأ على اختيار نهج المغامرة ودُفعت دفعًا إلى أن تظلّ تمشي عرجاء لتُصاب في كل مرّة بانفجار غير منتظر... وتظل في كلّ مرّة تُجمّلُ ما تُشُوّه منها... غير أن هناك نوعًا آخر من الاعلام ذاك الذي احترف التجميل وتعوّد على عمليات الترقيع واستلذ المساحيق الاصطناعية ومختلف أدوات التشريح والتلفيق والتزويق الباهت... هذا النوع الثالث من الاعلام هو الأخطر على الاطلاق، لأنّه ببساطة منبتٌ عن بيئته وفاقدٌ لأيّ انتماء... وقد لا نغالي إذا قلنا إن اعلامنا التونسي، وعلى ما شهده من تطوّر على مستوى الشكل، فإنه لا يزال يكابد السيّر المتعرّج والكتابة المتردّدة، تلك التي تريد أن تقول كل شيء دفعة واحدة فتجد نفسها في الاخير لم تقل كلمة واحدة... فلو تجرّأت وقالت وكتبت عن أحداث سيدي بوزيد وما شابهها لما اشرأبت أبصارنا إلى قناة الجزيرة أو غيرها... ولن نغالي أيضا إذا قلنا إن اعلامنا التونسي رغم ما شهده من تطوّر على مستوى الشكل، فإنه ما زال يستلذ ذرَّ المساحيق واجراء العمليات التجميلية الآنية التي تمحّي بعد برهة فتعود حليمة إلى عادتها القديمة، مثلما قالت الاستاذة والمناضلة النسوية بشرى بالحاج حميدة في حصّة تلفزية خاصة على قناة نسمة، تلك القناة التي تذكّرت فجأة ودون سابق اعلام ان هناك توتّرا اجتماعيًّا واحتقانًا شعبيًّا في منطقة »مغاربية« اسمها سيدي بوزيد فاستنفرت قواها أو أُستُنْفِرَتْ لتنقضّ على »الحدث« وتقدم لمشاهديها الوليمة الفرجويّة... وتقدم لجمهورها »نسمة بوزيدية« خفيفة... لست مُتحاملاً على هذه القناة التي حاولت، ولا على غيرها من القنوات التي صمتت ولا على الاذاعات التي رتبّت ولائمها الاعلامية بشكل متقن ولا على الصحف التي أشبعتنا بالسّم المدسوس في علب الحلوى، ولكن وددت أن أقول إنّ الاعلام التونسي لن يتطوّر أبدًا إذا لم تتطوّر ذهنياتنا وعقلياتنا ولن يتطوّر بتغيير هذا المسؤول أو ذاك ولن يتطوّر ما لم تتعامل معه السلطة بأنّه نبض الشارع وصوت المواطن وقوة اقتراح... إنّ اعلامنا لن يتطوّر إذا لم يستوعب أنّه سلطة في حد ذاته لا تنتظر ان تملي عليها جهة أخرى أوامرها وقراراتها...