»الثورة ابتدأت ولم تكتمل« كتبتها عندما سارع البعض للتهليل بهروب الطاغية وعائلته ورصاص زبانيته لا يزال يحصد أرواح ابناء الشعب صناع الثورة. وحين هبّت الجماهير بالآلاف من الدواخل صوب العاصمة واعتصمت أمام الوزارة الاولى لتحمي ثورتها من ردّة المتربصين وانتهازية السياسيين الذين اغرتهم المناصب ومكيفات المكاتب الوزارية فانتصبوا يدافعون عن حكومة انتقالية مقدّر عمرها بستة أشهر ويكيلون التهديد والوعيد لرفاق الأمس القريب في تقمّص مرضي غريب لشخصية الطاغية. حينها لم يكن من بد لكتابة مقال ثان بعنوان »أبناء الثورة، أحفاد المنسيين« حاولت من خلاله أن أنبّه إلى التجاهل الرسمي من قبل الحكومة المؤقتة برموزها القدامى والجدد للمعتصمين، وإلى حالة التوظيف الانتهازي التي عمدت إليها القوى والاحزاب السياسية في تعاملها مع مطالبهم. ما حاولت التنبيه إليه ثلاثة مسائل: الأولى ان المعتصمين يمثلون فئة مخصوصة لا يمكن أن يفيد معها التسويف ولا التوظيف فهم ذاتهم أصحاب الشهادات العليا الذين فجّروا وقادوا الثورة ودفعوا ثمنها غاليا. والمسألة الثانية: انهم من ابناء الدواخل الاكثر حرمانا وتضررا من النظام السابق (سيدي بوزيد، القصرين، قابس، قبلي...) أمّا المسألة الثالثة: ان ما بدا لأصحاب النظرة السطحية من اعتصام القصبة الساذجة على أنّه اصطفاف قبلي وجهوي، يمثل في العمق حضورًا مكثّفًا ورمزيّا للتاريخ فهم من أحفاء المنسيين من »الفلاّقة« الذين لم ينصف التاريخ آباءهم واجدادهم الذي قضوا في معركة الاستقلال ولم تنصفهم دولة الاستقلال البورقيبية فبقوا على الهامش يصنعون الثورات ويحصدون الاقصاء واللامبالاة. كل هذه العوامل مجتمعة ساهمت في تعميق القطيعة وحالة سوء الفهم المتعمدة في جزء كبير منها، لتلك النخبة الاصيلة من شباب تونس رجال الدواخل، وصنّاع الثورات، وهو ما سمح للعين الكبرى، ذات العين الكبرى التي لم يخن حدسي في استشعارها تحوم حول شعلة الثورة تحاول اطفاءها، وبمجرّد أن سنحت لها الفرصة سددت طعنتها الغادرة في ظهر المعتصمين من ابناء الدواخل مفجّري الثورة انتقاما منهم بتواطؤ غير خفي من وسائل إعلاميّة أدمنت الوصاية والرقيب، وحنّت إلى الأخ الأكبر يملي عليها ما تقوله وما تصرّح به. ما حدث يوم 28 جانفي 2011 لا يعد خيانة لابناء الدواخل وطعنة في ظهورهم وتنكرا لدماء الشهداء فحسب وإنّما يعتبر محاولة ارتدادية خطيرة تستهدف إجهاض الثورة وبث الفوضى واشعال نار فتنة بين أفراد الشعب التونسي. اليوم تتراكم المؤشرات والدلائل على أن الثورة الشعبية التي كانت في جزء كبير منها عفويّة في أمسّ الحاجة إلى برنامج ثوري يسندها ووعي سياسي يرفدها حتى تستكمل مهماتها. ان الفعل الثوري يمثل عملية تراكم تاريخية تنتج وضعا ثوريا ترسخه سيرورة لا متناهية في الزمن ولكنه في كل الحالات لا يمثل مجرد طفرة في تاريخ المجتمعات كما يصرّ بعض سياسينا واعلاميينا بما فيهم السياسيون والاعلاميون الذين طالما طبّلوا لانجازات »العهد الجديد« ولكرامات »الرئيس المعصوم، خيارالمستقبل« وحرمه المصون، في محاولة انتهازية وماكرة منهم لتمييع الفعل الثوري وتفريغ مفعولاته التي تستهدف نقض النظام السابق برمته وتفكيك مؤسسات الفساد والاستبداد التي كان يعتمدها لاستعباد واذلال الشعب ونهب مقدراته بقصد الانتقام والتشفي. ان الفعل الثوري لا يستهدف العناصر (الرئيس، المسؤول الاداري والحزبي في ذواتهم المادية). وانّما يعمل على تقويض البنى وتدمير علاقات الهيمنة السائدة، ما يؤدي في المحصلة الأخيرة الى تحجيم مكانة هذه العناصر الرمزية. إن الفعل الثوري كما أكّدته التجارب الثورية السابقة التي اجترحتها البشرية في طريقها الطويل من المكابدة والمعاناة ينبني على المراكمة المستمرّة، التي تبدأ بالموقف السلبي تجاه النظام السائد ثم الرفض المستتروالمعلن له ثم التمرّد والهبّات الثورية عليه. جملة هذه التراكمات السلبيّة سرعان ما تتحوّل إلى ما يشبه الوضعيّة الثورية، حينها لا يستدعي الأمر لتفجّر الثورة سوى شرارة يكون الشهيد محمد البوعزيزي بفعله التاريخي حين أشعل النار في جسده احتجاجا على وضعه الخاص هو من انتدبه التاريخ لقدحها في لحظة تمفصل حادة بين زمنين ومرحلتين. غير أن الحدث الثوري وعلى خلاف ما يحاول بعض الانطباعيين من السياسيين والمثقفين والإعلاميين تعيينه وضبطه في مفردات وتوصيفات وسياقات جاهزة ومنمطة وما قبليّة، لا يمثّل فعلا آنيا مكتمل المعالم يمكن اختزاله في كلمات أو عبارات أو جمل تقريريّة أو صور مفبركةوفيديوهات سيئة الإخراج. لأنّ الحدث الثوري سيرورة مستمرّة في المستقبل، وفعل زماني له مداه الذي قد يطول أو يقصر في الآتي فهو مفتوح لكل الاحتمالات، إمّا الارتداد إلى الوراء أو الانحباس وفقدان البوصلة، وإمّا بلورة الشعارات في برنامج سياسي وطني يصل المقدمات بالنتائج ويصيّر الحلم حقيقة متجسّدة في الواقع. ان الثورة التونسيّة لا تزال في مصهر التاريخ، تكابد لتبدع شكلها ولونها ورائحتها التي لن تكون في كل الحالات برائحة الياسمين، لان الدماء والدموع التي سالت خلالها تستصرخنا أن نكف عن هذا التوصيف المائع الذي قفز الى الواجهة مثلما قفز أصحابه يوم فاض دم أبناء الدواخل الماسكين بجمر الرصاص والسائرين على شوك الصبّار جداول في بوزيد والقصرين وقفصة. هناك صورة معبرة، بإمكان كل من يعشق الترميز والمجاز أن يعاينها في شارع محمد الخامس بدار التجمّع الدستوري فإسم التجمّع الذي أسقطه من استطاع الوصول الى سطح البناية التي تضمّ 17 طابقا دون بقيّة المتظاهرين، لم تسقط أرضا بل انّها تشبثت بسقف الطابق الأرضي تصارع السقوط النهائي وتقاوم جاذبيّة الأرض التونسيّة التي تصرّ على قبرها نهائيا، ليرتاح الشعب ويفتح صفحة جديدة. صورة علقت بذاكرتي في معمع معركة الترميز والمجاز التي صارت عنوان الثورة، وهي قد لا تعكس الحقيقة الميدانية ولكنها تهمس إلى جزء من الحقيقة التاريخية التي تؤكد أنّ الثورات فعل متواصل وسيرورة لا تنتهي فهي أولا وأخيرا صراع بين إرادات وصدام بين موازين قوى سياسية واجتماعية متأرجحة ومخاتلة بين فاعلين يعبرون عن مصالح مختلف الطبقات والفئات في المجتمع. بقي أن نقول أخيرا ان العين الكبرى التي ترصد كل شيء، والتي غمزت لأعوانها مساء يوم 28 جانفي 2011، بأن يذلّوا أبناء الثورة أحفاد المنسيين ويطاردوهم في شوارع العاصمة قد آن الأوان كي يُدَقَّ فيها مخرز، لتتفتح آلاف العيون البصيرة الجديرة بإعادة الكحل إلى مآقي الأمهات الثكالى والبسمة الآسرة لثغر تونسنا قاهرة الجبابرة والفاسدين.