تزامن صعود حركات الاسلام السياسي الى واجهة الأحداث مع تواتر التظاهرات والشعارات الرافضة للدولة الدينية والمنادية بالعلمانية التي يبدو وللوهلة الأولي ان المقصود بها في عالمنا العربي معاداة الاسلام من ناحية كونه دينا وهو أمر مروج له انتشر الى حد ما في الذهن الجمعي ورُسّخ الى هذا الحد أو ذاك فأصبح محل مساءلة ونظر ونقاش. فالعلمانية مفهوم ظهر في الغرب الأوروبي في حقبة تاريخية تميزت بعلاقة التماسك الوثيقة بين السلطة الدينية الكهنوتية والسلطة الدنيوية الملكية، أما أهم قيم العلمانية على الاطلاق فهي قيمة فصل الدين عن الدولة وسيلةً مثلى للقضاء على احتكار كلتا القوتين لمختلف السلط وهو ما أدى في جانب مهمّ منه الى اندلاع الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات أحدثت تراكمات تاريخية أدّت الى الوضع الحالي أي الى دول علمانية بالكامل تلتقي على مقولة »الدين لله والوطن للجميع«. الحقيقة أن الصراع لم يكن موجها ضد الدين في حد ذاته بل صد احتكار رجال الدين والناطقين باسمه لسلطات ما كان ينبغي ان تكون لهم بدءًا باصدار صكوك الغفران وصولا الى تعيين وخلع الملوك، وهو ما نشهد حاليا شَبَهًا له في عدد من الأقطار العربية حيث يحتل ممثلو الدين الرسميون والمعارضون أو من يعتقد أنهم كذلك من كلا الطرفين مجالات لاحق لهم فيها بأي وجه فالكثير منهم تحولوا الى مصادر للافتاء والتشريع والضغط في سن القوانين بدءا من قيادة السيارة وصولا الى هدر الدم بسبب الكلمة والنية أحيانا، ولعل أسوء جانب لهذا الاحتكار الاطلاقي نفي صفة الاسلام على قطاعات كاملة من المجتمع بل وعلى الفرق السياسية الأخرى التي تتخذ الدين منطلقا حسب ما تعلنه على الأقل. لكن هذه الفرق السياسية الدينية على اختلافها ورغم طابعها المحافظ على مستوى التكيف السلبي مع منطق رأس المال المعولم فإنها على مستوى الخطاب اتخذت من الغرب عدوا مطلقا وانطلقت تهاجم ما تعتبره مبادئ غربية غازية وفي مقدمتها مبدإ العلمانية رابطة بينه وبين الفسق والإلحاد واللاتدين وهو ربط غير منطقي وغير عقلاني، فالعلمانية ليست عداء للدين من طرف الدولة بل حياد من هذه الأخيرة تجاه المعتقدات التي تبقى في دائرة الشأن الشخصي للانسان هذا التضاد بين الحركة الاسلامية والعلمانية يعود بالاساس الى فهم مغلوط، فالعلمانية لا تدعو الى دين بعينه كما لا تدعو الى اللاتدين بل هي تسعى الى تقييد سلطة الدين ووضعها في مكانها الاصلي، في حين يهدف الاسلام السياسي الى تمكين الدين من موقع رئيسي للتحكم في الدولة والمجتمع وصولا في الحالات الأشد تطرفا الى فرض نمط معين من الحياة الدينية على المجتمع، وهو نمط لم تتفق على شكله حتى الحركات الدينية ذاتها. هنا أستحضر مقولة الصحافية السودانية التي حوكمت بالجلد لارتدائها البنطلون هذا الموقف المُوجزَ: »إن دور الحكومة ادخال المرضى الى المستشفيات وليس دورها ادخال النساء الى الجنة«.