لم يعد العمل السياسي في تونس بعد ثورة 14 جانفي المجيدة مدخلا الى تثمير الأموال أو كسب »فيلا« ضخمة أو سيارة فخمة. »الفيلا« سيحرقها المواطنون في أول مناسبة نضالية قادمة، والسيارة الفخمة ستتقادم بسرعة، أو تقرر الدولة التخلي عنها بسبب إضرارها بالبيئة وبسبب نموّ الفعل الديمقراطي البيئي وغلاء برميل النفط وتبدّل »الموضة« وسيفسح المجال الى اقتصاديات جديدة تعتمد الطاقة الشمسية والكهربائية ولن يعود ثمة قيمة للمقاعد البرلمانية بتكاليفها الباهضة التي لا تمثل عامة الشعب. لذلك فإنه من المستحسن ان تراجع الأحزاب السياسية مشاركتها في الكوميديا السياسية القادمة. إنني أعامل مسألة تكوين أحزاب سياسية بعد الثورة (أحزاب ما بعد الثورة لا من حيث شرط الايداع القانوني ولكن من حيث شرط التأسيس) معاملة حالة الانفلات النضالي السياسي. ألم يكن لدينا أحزاب قبل الثورة!؟ أم أن الزعماء الجدد أو لنقل الديمقراطيون الجدد لا يعترفون بها؟ ان هؤلاء الزعماء يشككون في الجهد السياسي الكلاسيكي الذي أدّى الى إسقاط الطاغية، إن هذه الاحزاب ليست أحزاب ثورة وستكون مسؤولة عن اي مأزق سياسي قادم متجسّد في صراعات التمثيلية السياسية ولائحة المطالب المادية والادبية ولا معنى لتعدد الاحزاب في المرحلة الراهنة. انه يضرب الوحدة النضالية السياسية، ومن التنازل بمكان منح الاحزاب الجديدة تأشيرة نضال وعمل وأنا أشك في نية احداث هذا الكم الهائل من الاحزاب. ربما كان احداث الاحزاب ترجمة لبعض نضالات الاطراف السياسية والنقابية في الجامعة التونسية ولكنها لا تتجاوز مشروع الترجمة. ان الأطروحات السياسية والبرامج الاقتصادية موجودة في احزاب ما قبل 14 جانفي المناضلة. وكان من واجب الاحزاب الجديدة ان تمد اليد لأحزاب 13 جانفي المناضلة ولكن يبدو ان ثمة قطيعة سياسية وتنظيمية غير مبررة وثمة تحالفات سياسية لم يعلن عنها بعد. لقد صرح السيد العياشي الهمامي لاعلامنا المرئي ان نشأة أحزاب جديدة هي »حالة صحية« وأنا لا أتفق معه وأعتبر الأمر حالة مرضية. لا لأن الاحزاب السياسية الجديدة ستضرب التحالفات السياسية فحسب ولكنها لن تدعم المشهد السياسي في شيء ولن تشكل وحدة سياسية مفيدة لأنها أحزاب لا تمتلك مؤسسات، وهي ليست أحزاب معركة يمكن التعويل عليها في انتاج الديمقراطية وتنظيم المجتمع، ولأن برامجها الاقتصادية معتمة وغير واضحة. وهي نتاج للخلايا النائمة التي تجد اليوم فرصة لإبراز وجودها الديكوري وتشتيت الاصوات. إنها ترجمة لحالجة الانفراج السياسي بعد 14 جانفي وهي لن تصافح أبدا الاحزاب الكلاسية المناضلة مما يعني أنها تراهن على حجم الاحزاب المناضلة نضال الأمس بأنه سيظل على ما هو عليه ان لم يتقلص. وهذا سيعطل جماهيريتها. ان لم تكن الاحزاب الجديدة مخرج طوارئ لفلول التجمع وبقايا فهي أحزاب إطفاء سياسي واحتواء لغضب الجماهير التي حرمت من العمل السياسي بالأمس وحاصل المسألة ان زحام الاحزاب فارغ وغير مؤثر. وقريبا ستتحول عضوية مجلس النواب الى عقاب بعد ثواب. ولم يعد »مجلس نواب« موقعا استراتيجيا لتمرير المواقف المبارِكَةِ، ولم تعد تجتمع في يد الرئيس المنتظر شمولية السلطات بل انه لن يقيم في قصر مرصود شبابيكه عالية، من الصعب ان تتنبأ بكل الأخطار الناجمة عن إغراق المجتمع السياسي بالاحزاب. انها تعبيرة عن الترف السياسي وأغلبها ترفع شعارات متشابة والهدف السياسي في المرحلة القادمة ليس رفع الشعارات وانما الهدف هو الاعداد لانتخابات مجلس تأسيسي دون بقايا التجتمع شكلا ومضمونا، وفي علاقة بالوضع يغطّي كل »زيد سياسي« رأسه بقبعة السياسية جديدة تنمّ عن نوايا التهرب الضريبي السياسي والافلات من المحاسبة السياسية ولكن »الفلقة« قَدَرٌ لا محالة، إن الاحزاب الجديدة تعبيرة عن الرغبة في حماية مصالح الأثرياء الجدد أو الأثرياء الناشئين ولكن حالة الافلاس السياسي جلية فلا برامج اقتصادية واضحة لهذه الاحزاب ولا وجود لبرامج سياسية وطنية، إن الاحزاب الجديدة دون استثناء هي أحزاب بورجوازية متجددة تعيد انتاج وجودها باستمرار. إن الثورة لا تحقق أهدافَها كُلَّ أهدافِهَا الى الآن لأن النسيج الاقتصادي اللاوطني الذي يستثني الشغيلة والمهمشين وأصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل مازال يضرب مصالح الشباب عرض الحائط ومازال محافظا على نفس المقاربة الاقتصادية القديمة ونفس السياسات المتبعة، إن التحول الاقتصادي الحاصل ليس الا تحولا قسّريا سطحيا يحمي مصالح البورجوازية العميلة التي تمتلك المنتج وآليات الانتاج. والظاهر للعيان اليوم ان ثمة رغبة ملحة وخفية لإغلاق ملف المظاهرات والاعتصامات وملف الثورة تحت عنوان »إنقاذ الاقتصاد«. وربما لم تتمكن الثورة وزعماؤها الشباب الى الآن من ضرب النموذج الاقتصادي وتحويل وجهته الى مصبات القمامة لأن المسألة ليست معقودة في عودة السلوك الاقتصادي وإنما في تغييره تدريجيا الى سلوك قائم على التشارك في وسائل الانتاج والمساهمة الجماعية في انتاج الثرورة واستغلالها. ولكن يبدو ان تعميم الثروة الوطنية على عامة الشعب لم يكن من شأن الحكومتين الاولى والثانية اللتين سعتا إلى اعادة المال المنهوب الى اصحاب رؤوس الاموال وساهمت في حماية مصالح البورجوازية وتعطيل التطهير الجذري للنظام السياسي القائم ورفعت شعارا فضفاضا يدعى »التنمية الجهوية و »التشجيع على الاستثمار« و »السوق الحرة« وهي سياقات تحمل في جوهرها نية ضرب الثورة. والسؤال المطروح هاهنا هو : ما الذي تحقق اقتصاديا على أرض الواقع؟ لقد ساهمت الأحزاب البورجوازية القائمة المتعالية على المواطنين في الصمت السياسي ولم يفكر أصحاب رؤوس الأموال في مصالحة الشعب الذي كان ضحية جشعهم المفرط، والمطلوب اليوم هو التطهير الاقتصادي الشامل ومصالحة شباب القصبة قبل عودة مرتقبة.