[...] بينما كان الزائرون ينسحبون دفعني الحبيب الابن إلى داخل غرفة أبيه فوجدته يستعد لدخول غرفة الحمام، ولم يكن يرتدي غير تبان بعد ان نزع بدلته وثيابه الداخلية، حييته وأنا اشعر بالحرج، وفي تلك اللحظة رأيت زوجته ماتيلدا، التي تعرّفت عليّ وكان من الواضح انها ارادت ان تزيل ما اشعر به من حرج، فتوجهت إلى زوجها قائلة: »ابن للاّ حبيبة!« توجه إليّ بورقيبة آمرا، دون ان يبدي اهتماما بما قالت: »أنت، أنا بحاجة إليك، فلا تبرح مكانك!«. في لحظة اكتشفت أمرا لا يكاد يصدّق: لقد وقعت عيناي على ملابسه الداخلية التي كانت ملقاة على كرسي وكانت بها عدة خروق ورُقّعت بخيط أحمر، فجأة ادركت اعماق هذا الرجل: انه رجل لا يجري وراء المال، وهو يرقّع ملابسه بنفسه (فامرأة لا يمكن ان ترقّع بخيط أحمر أبدا)، وهو لم يكلف نفسه عناء اخفاء هذا الامر، اذ ان له مقياسه الخاص الذي يقدر بالاستناد إليه، اهمية الاشياء وهذا الحكم العاجل يشكل امتدادا للاثر الذي تركه الحديث الصحفي الذي ادلى به لجاك قاريف ويعمق فعله في نفسي التفت فورا الى الحبيب الابن قائلا: »انت لم تخطئ، فأبوك بالتأكيد ليس كالاخرين«، لقد غير هذا اللقاء مجرى حياتي. ومنذ ذلك اليوم، لم نفترق وحتى شهر أوت 1987. لم أنقطع عن الاتصال بالحبيب بورقيبة. دعاني بورقيبة خلال اقامته بباريس، التي استمرت ثلاثة أسابيع، إلى مرافقته وعلمني الكثير من الاشياء ولئن نسيت فلن أنسى اصطحابه لي أول يوم الى تمثال أوغست كونت (Auguste Comte) كي اقرأ العبارة المنقوشة على قاعدة التمثال النصفي: »عش لغيرك«. كنت أدرك، طبعا، ما يرمز إليه هذا التمثال المنتصب في وسط ساحة السوربون، تخليدا لذكرى الفيلسوف أوغست كونت، أب الفلسفة الوضعية ولكن لم يسبق لي ان انتبهت إلى هذه الكتابة التي كنت أجهل وجودها اصلا لقد كان بورقيبة يتحدث إليّ حديث الاب الحريص على تليين ابنه البكر معنى الحياة وتأهيله لتحمل أعباء المسؤولية. ❊ ثقافة مثيرة وحيثما حللنا، بمعية مجموعة من الطلبة الاخرين، في حلقات النقاش وفي كان يطالع كثيرا: لقد اثبت انه يمتلك ثقافة ادبية وفلسفية تثير الإعجاب وتبدو بجلاء في حديثه لقد كان يلتقي بالصحافيين ورجال السياسة وعلى وجه الخصوص بالاشتراكيين وكانت لقاءاتنا فرصة للتعمّق في المسائل السياسية خاصة ومدخلا إلى فهم العلاقات الدولية لقد كان يمضي وقتا طويلا كي يوضح لنا هذه المسائل أخذت مداركنا تتسع، وغدونا نتابع باهتمام أكبر المستجدات السياسية الدولية لقد كانت تونس تتشكل من جديد امام أعيننا على خارطة دائمة التحول ولم يكن لاتصالنا ببورقيبة دوره الكبير في تكويننا السياسي فحسب بل انه زودنا ايضا بالمعرفة ونّمى طاقاتنا الذهنية وهذا ما خلق علاقة وطيدة، علاقة دائمة لا تمّحي. وذات يوم ابلغ حسان بلخوجة بورقيبة حصيلة نقاش دار بيننا حول المسألة الكورية افضى بنا الى ادانة التدخل الامريكي ولما سمع بورقيبة هذا الموقف انتفض وامسك رأسه بكلتا يديه، وصاح بنا معبرا عن خيبة أمله فينا متهما ايانا بالجهل وكي يشرح لنا خلفيات هذه القضية، ألغى موعدا كان يستعد للذهاب اليه انطلق بتوجيه الاتهام لي قائلا: »هذه فكرتك أنت، أنا أعرفك!« فاعترفت بان هذا صحيح عندئذ انطلق يشرح بإسهاب لمجموعتنا الصغيرة المسألة الكورية ولدى استماعنا إليه أدركنا الى اي مدى يمكن لمعرفة الوقائع ان تساعد على سلامة التفكير وتجنب مخاطر الانسياق وراء الاحكام العاطفية والمتهافتة التي تقود الى تبني قناعاته خاطئة [...] وبالنسبة إلى الحبيب بورقيبة، إنّ الازمة الكورية تتجاوز مجرد تدخل لتطرح مشكلة جوهر النظام الدولي، وأن الروس هم الذين كانوا السبب في اندلاع هذه الازمة بسعيهم إلى اختبار مدى تصميم الولاياتالمتحدة وجديتها وكان اي تقصير من جانب الولاياتالمتحدة يعني بداية كارثة لن تتوقف اثارها عند حدود آسيا واذا ما قدّر لكوريا ان تسقط، فلن يوجد نظام دولي ذو مصداقية لقد كان القرار الامريكي يكتسي صبغة مصيرية لان اية قوة أخرى لن تمتلك القدرة في أيامنا هذه على مواجهة القوتين الشيوعيتين المنتصرتين، الاتحد السوفياتي والصين واذا ما مرّت كوريا الشمالية الى الهجوم، فإنّ النتيجة الوحيدة التي يمكن تصورها هي تدخل الولاياتالمتحدة عسكريا إلى جانب كوريا الجنوبية. كنا نستمع إلى بورقيبة دون ان نقاطعه. وكنا مبهورين حقا بسعة اطّلاعه ووضوح رؤيته، ولم ننس الدرس الكوري أبدا فكوريا هي في الحقيقة مسرح أوّل مواجهة عسكرية بين الشرق والغرب وقد أشار ماك آرثر (Mc Arthur) الحاكم العام لليابان، الذي عُيّن قائدا أعلى في كوريا، إلى امكانية استخدام القنبلة الهيدروجينية، لقد أدركنا انها كانت بالفعل اختبارا للنظام الاستراتيجي الجديد الذي كان في طور النشوء. ❊ الشغل الشاغل لم يكن تحليل بورقيبة محايدا تماما، ذلك ان اهتمامه بالوضع الدولي يتمحور في آخر المطاف حول القضية التونسية، وقد أدركتُ بسرعة منذ ان عرفته ان ادراج مسألة تحرير تونس على الاجندا الدولية هو شغله الشاغل وان تحسسه لدور الولاياتالمتحدة قد أملاه عليه قبل كل شيء هذا الهم الذي كان يحمله، ولم يكن العثور على ثغرة في الوضع الدولي تمكن من تمرير القضية التونسية أمرا يسيرا لقد وفّر انزال قوات الحلفاء بشمال افريقيا خلال شهر نوفمبر 1942 نقطة انطلاق جيدة لربط مصير المنطقة باوروبا الحرة وقد ارسى بورقيبة على اساس هذا المعطى مجمل سياساته على مستوى تونس والمنطقة المتوسطية، وهذا ما ميزه عن غيره من زعماء المغرب العبري وقد دافع بورقيبة عن أطروحة مفادها ان اوروبا المحررة من خطر النازية والفاشية وشمال افريقيا المحرر من الاستعمار يشكلان وحدة مستقرة سياسيا ومتماسكة استراتيجيا وقادرة على الوقوف في وجه التهديد الشيوعي. وبما ان الولاياتالمتحدة قادرة على تجاوز النظرة المصلحية الضيقة لفرنسا الاستعمارية، فإن بامكانها ان ترتقي إلى ادراك مثل هذه الرؤية، وان يكون لها دور في بناء صرح هذه الوحدة ان علينا اعتماد هذه الفكرة وكسب المؤيدين لها في امريكا وفي صلب الطبقة السياسية الفرنسية ان ربط مصير شمال افريقيا بمصير أوروبا الحرة، والخروج من وضع الانفراد بفرنسا، والاقرار بان انهاء الاستعمار يخدم المصلحة العليا للغرب، وجلب اهتمام الولاياتالمتحدة إلى هذه المنطقة تشكل عناصر لسياسة واحدة. ولئن كانت هذه القناعات تضفي تماسكا على منهجه فإن هذا لم يكن يعني في الحقيقة، انها كانت تخضع، حينذاك، إلى حساب آنيّ فقط من أجل تحريرتونس لقد أدركت منذ ذلك الحين ان هذه القناعات تعكس بشكل اكثر عمقا تصوره لتونس وشمال افريقيا الغد انها لم تكن مجرد تكتيك، بل تشكل احد ثوابت السياسة البورقيبة وهو لم يكن مناضلا في سبيل القضية التونسية فقط، بل وأيضا مفكرا في مجال النظام الدولي، له دوره الفاعل على مسرح السياسة العالمية وصاحب تصور استراتيجي بالقوة. لقد قال لنا بورقيبة انه بكى لما بلغه نبأ انتصار البريطانيين لانهم في رأيه: »شعب كريم مكافح وصامد«.