بعد أن رأيتُ الهبوط الحادّ لحماس النّاس من أجل ثورتهم، انتبهتُ إلى أنّ ضبابًا كثيفًا يلفّ سماء هذه الأرض فقد صارت الأحداثُ اليوميّة بلا معنى تدور حول نفسها لتتآكل من الدّاخل دون أن تتقدّم. فبعد نجاح اعتصام القصبة الثاني سارت الأمور إلى انحدار، وصارت الاتجاهات بعدد شعر الرّأس حتّى ضاعت في التّفاصيل والجزئيات. كلُّ حزب هم في شأنهم غارقون. في كلّ واد يهيمون. ما معنى أن يصلّي النّاسُ الجمعةَ في الشارع الكبير، في شارع متّسخ بالأرجل والسيارات والمازوط والبنزين وعلب التبغ الفارغة وبقايا السّجائر وبقايا العصافير تحت الاشجار. ما معنى صلاةٌ في مكان مليءٍ بالأتربة والغبار بينما أماكن العبادة الطاهرة النظيفة يجري فيها الماء الصّالح؟ ولماذا يذهبُ البعض إلى نقيض الطهارة والتطهّر والنّظافة وهدوء السجادات المنقوشة؟ ألم يجعل اللّه أماكن للعبادة وبيوتًا يؤمّها الناس ليمارس من يريد منهم ذلك شعائره خالصة لوجه ربّّه في مكان طاهر هادئ قريب من الماء الذي خلقه طهورًا؟ ما معنى أن تكون ثمّة مظاهرات في الشارع يُرفع فيها كتابُ القرآن؟ شيء مّا ذكّرني بمعركة عليّ ومعاوية المشهورة التي ظلّت فتنةً قاتلةً في النّاس... ففي الصحراء القاحلة لا ترى إلاّ أناسًا دُهاةً يرفعون كتبا وينادون سنحكّم القرآن فينا وهم في معركة سياسية وعسكرية قاتلة بغيضة كريهة. فالهدفُ من رفع الكتب على أسنّة الرّماح هدفٌ سياسيّ للدّهاة والمحترفين.. أمّا رفع الكتب القرآنية في شارع الحرية شارع 14 جانفي 2011، فمردّهُ الإثارة والفتنة حسب الأصوات التي تتعالى »هذا دستورنا«! فكيف لم يتفطّن أولئك إلى أنّ رفع كتاب القرآن يثير الفُرقة بين المسلمين من شعب واحد ويثيرُ الشّبهة فلا مجال اليوم أن يزايد أحدٌ على الشعب التونسيّ الأبيّ الذي دفع شهداء ارتفعوا إلى مرتبة الانبياء. لا مجال أن يزايد أحدٌ على نضالات الشعب التونسي بمختلف شرائحه ورؤاه الفكرية والسياسية والثقافية والحضارية. لا مجال أن يزايد أحدٌ على شعبٍ دفع دماءَه وأيامه ولياليه من أجل الكرامة البشريّة والإنسانية التي تقول »لا إكراه في الدّين قدْ تبيّن الرّشْد من الغيّ«. ولا مجال اليوم للتطرّف في أيّ حزب من الاحزاب. أرى كاتبًا تونسيّا أنّ التطرّف مرفوضٌ في كلّ الأحزاب مهما كان نوعها ومهما كانت ايديولوجيّتها. فالدّستور الحقيقيّ هو الذي يتّفق عليه الشعب بالانتخاب ولا سلطة تعلو فوق سلطة هذا الشعب. ولا دستور يعلو على دستور يضعه الشعب. إنّ الدساتير تُبنى من عرق ودماء الشّعوب، من معيشهم اليوميّ ومن هواجسهم وأحلامهم وحقوقهم السياسية والإنسانية والشخصيّة بما فيها حرّية المعتقد وحريّة المأكل والملبس. وما علينا اليوم إلاّ أن نتفطّن إلى هذه المهازل التي يمرّرها الإعلام المرئيّ والمكتوب المسموع من جهة كونه يهمّش الأهداف الرئيسيّة للثورة ولطموحات الشعب التونسي، وذلك بتمرير برامج تافهة وحقيرة تحصرُ الصّراع بين الناس في اللّباس والحجاب بينما الدّساتير تجعلُ اللّباس حُرًّا في المطلق. إنّ الاعلام التونسيّ المجرم اليوم يتفّهُ الاهدافَ ويخذل الشعب بإغراقه في الحديث عن الحجاب وبإعادته صفحات كرة القدم التافهة التي أخذت آلاف المليارات من الشعب وجعلتها في جيوب مسؤولي الرياضة والجمعيات الرياضيّة... يجبُ إيقافُ الحديث عن الحجاب حالاًّ. يجبُ إيقافُ صفحات كرة القدم والرياضة حالاّ. فلا مجال لتهميش القضايا الأساسية قبل المجلس التأسيسي. ولا مجال لأشيائهم الحقيرة قبل محاسبة المجرمين المسؤولين عن القتل والسرقة والنّّهب والفتنة والفُرقة والبغضاء. فتوقفي يا وسائل الاعلام عن ذبح الشّعب التونسي، ألاَ يكفي أنّك ذبحته ملايين المرّات طيلة نصف قرن!