الوضع الجديد ما بعد 14 جانفي 2011 والذي اقترن بمسار الوضع الثوري لاستبعاد ركائز النظام البائد والذي تميزت فيه شرائح الشباب كالعادة في تبوئها للاعتصامات والمظاهرات كردة فعل طبيعية في مواجهة محاولات الالتفاف على أهداف الثورة وغذّتها الحالة النفسية الثورية لدى هذه الشرائح التي جرت وراءها الاحزاب والمنظمات والجمعيات وكافة مكونات المجتمع المدني التي أفضت فيما أفضت اليه الى اقرار قانون انتخابي صادقت عليه الهيئة العليا بأغلبية مريحة والذي تضمن علامتين بارزتين ذات دلالتين عميقيتين أولهما ما يتعلق بالحاق كوادر الحزب الحاكم المنحل بشريحة المممنوعين من الترشح الى اي مسؤولية سياسية، هذا الاعدام السياسي الذي رفعه شباب القصبة شعارا وتبنته هيئة عليا مغضوب عليها من بعض الاطراف الراديكالية والتي اعتبرتها هيئة للالتفاف عن أهداف الثورة، والذي صنع في نفس الخانة مجرمي الحق العام والفساد الاخلاقي والسياسي ومناشدي الرئيس الفار والعاملين في حكوماته على امتدا 23 سنة رفع هذه الهيئة الى مرتبة المزايدة على الاحزاب الراديكالية نفسها التي كانت تنادي بسقف 15 وعلى اقصى تقدير 10 سنوات وكان ذلك سقفها الأعلى القابل للنقاش. أما العلامة الثانية، فهي مسألة المناصفة وهو ما لم تطرحه علنا حتى الاطراف الشيوعية في أقصاها. هاتان المسألتان رفعتا تركيبة هذه الهيئة في غالبيتها الى مرتبة الرادكاليين فلم يعد مبرزا للمزايدة بعده. لكن هل ان هذه الاحزاب الردايكالية ومكونات هذه الهيئة وقراراتها التي تفتقر الى أهم الأمس في ادارة الشأن العام وهي وجوب وجود سلطة تنفيذية ذات هيبة وصلوحيات شرعية تمكنها من تحويل اي قرار من مجرد قرار سياسي الى قرار فعلي على الأرض الواقع، فهيبة الدولة أريد لها ان تكون ضعيفة ان لم نقل معدمة باسم الحرية التي باتت رديفا للفوضي وشكلا من اشكال المشاعية البدائية مبدؤها »حوت يأكل حوت وقليل الجهد يموت«. إن المجتمع التونسي والمجتمع السياسي التونسي يدرك تمام الادراك ان ثورية اي قرار تكمن في توفر الظروف الموضوعية لتحويل هذا القرار من الورق الى الواقع. ولئن نجحت مكونات المجتمع التونسي في فرض بعض المبادئ العامة في شكل التزام أخلاقي مدني وسياسي تمظهر في تجريم من استعبدوا الشعب ومن ناصَروا الرئيس الفار في مشروع المرسوم الخاص بتنظيم الانتخابات فان هذا المجتمع السياسي يدرك تمام الادراك ن حزب التجمع الذي تمكن من فترة محترمة لاتلاف واخفاء وثائقه التي لم يقع حجزها، لم يترك اثرا مدنيا واضحا على هيكلته وبالتالي يطرح السؤال كيف يمكن اثبات انتماء شرائح عريضة من مسؤولي التجمع الى هذا الحزب؟ وهي معضلة حقيقية فتتفرع هذا القرار من محتواه. أما المسألة الثانية، فهي المناصفة في القائمات المترشحة وهي انتصار للمرأة التونسية التي ناضلت وضحّت وردّت على كل الاصوات المشككة فيها والتي هبطت الى مرتبة النقص والدونية لكن هذه المناصفة التي جاءت من فوق هل سيقع ترجمتها في قوائم الاحزاب في مستوى رئاسة القائمات الانتخابية. فهل سينعكس هذا القرار على الزام الاحزاب والتجمعات السياسية الجهوية على اقرار مبدأ المناصفة في رئاسة قوائمها باعتبارات رؤساء القوائم الانتخابية هم الأوفر حظوظا في الفوز بالمقاعد في اي انتخابات؟! أما المسألة الأخطر والأهم والتي تعد مربط الفرس حسب رأيي في كل ما يهم هذه العملية وهي اختلال موازين القوى الحالية لوجستيا فالعملية الانتخابية ليست وضع ورقة في صندوق بل بالعكس فإن الاقتراع كمرحلة من مراحل الانتخاب هو عملية ميكانيكية تتويجا لمسار مكثف من الدعاية والتحريض والصراع السياسي والبرامجي والاخلاقي على امتداد فترة يطلق عليها ديمقراطيا اسم الحملة الانتخابية اننا اليوم ومنذ 14 جانفي 2001 واعون انه ثمة اطراف ذبحت اهم ركائز اللعبة الديمقراطية بتحويلها لدور للعبادة الى منابر الدعاية السياسية دون رقيب وانتجت بذلك دولة داخل الدولة وسلطة داخل السلطة فأصبحت تتحدث بالضبط كما يتحدث حزب الله في لبنان »لقد أبقينا على بعض الائمّة التجمعيين...« (انظر الشروق بتاريخ 11 افريل 2011) فمن هم الذين أبقوا؟! ومن هم الذين أزاحو ا؟! أو الحديث عن جلب الاستثمارات الاسلامية في اشارة لا غبار عليها عن الولاء الى المال الخليجلي والبترودولار الذي يعرف الداني والقاصي من المسلمين في مشارف الارض ومغاربها انه تعبيرة معاصرة لمصالح الامبريالية الامريكية فلماذا يقع استثناء من يصرح بولائه للاجنبي ويحرق بماء الفرق المواطنين العُزّل؟! ولم يكلف نفسه مجرد الاعتذار لهؤلاء الضحايا ولعائلاتهم. إن الحديث عن الاجرام السياسي والاجتماعي وخيانة الوطن لا يجب ان يقع تجزئتها تحت اي مسمى، وان المجتمع التونسي اليوم يجد نفسه في موعد حاسم مع التاريخ بين خيارين لا ثالث لهما. خيار مدني يضم المسلم، المصلي، المؤمن والقومي والمسيحي والملحد واليهودي على قاعدة مجتمع مدني يستند الى القوانين المدنية وما بلغته الانسانية جمعاء من مبادئ كونية ليست محل تشكيك يحترم الرأي والفكر والمعتقد في أماكن السياسة والثقافة في أماكنها والرياضة في ملاعبها. وبين مشروع يقارن ولا يمسّخ مكة نفسه بالرسول ويريد ان يدير الشأن العام من المسجد يطمئن المرأة بخطاب »المعرض« المزوق ان القيادات لا تفكر في الزواج بثانية ويرفض الامضاء على منع تعدد الزوجات ويسوّق لقراءة انطباعية لنص مقدس أجمع غالبية الفقهاء على انه يصب في تجريم تعدد الزوجات. يريد جمع الزكاة الى جانب الدولة وبقطع النظر عن قوانين الجباية فيحدث دولة داخل الدولة اننا نتساءل اليوم ما الفرق بين من ناشد بن علي خوفا او تملقا وبين من ناشده سنة 1989 طمعا في جزء من الكعكة؟!