منها فتح المعابر الحدودية: اتفاق أمني تونسي ليبي    ديوان الحبوب: هذه أسعار القمح والشعير    تونس تسجل تطورا ب89% في عائدات تصدير زيت الزيتون    عاجل/ معبر رأس جدير: تونس وليبيا توقعان محضر اتفاق وهذه تفاصيله    جندوبة: خلاف عائلي حول قطعة أرض ينتهي بمقتل أحد الأشقاء    المنستير: يوم تكويني حول مراحل انجاز المثال المديري للمؤسسات الصحية    المجمع المهني للصناعة السينمائية ينظم سلسلة من اللقاءات وورشات التفكير    نوردو يغنّي جنيريك الفيلم المصري "ولاد رزق 3"    ألكاراز ونادال يقودان منتخب إسبانيا للتنس في أولمبياد باريس 2024    عيد الاضحى : وزارة النقل تضع برنامجا استئنائيا للتونسيين    بنزرت: اختتام اختبارات الدورة الرئيسية لامتحان البكالوريا دون إشكاليات تذكر    سيدي بوزيد: أشغال تهذيب وتحسين عدد من الأحياء لتحسين ظروف عيش المتساكنين وفك عزلتهم    الدوري الليبي: خماسي تونسي ينافس على لقب البطولة    لاعب التنس البريطاني موراي يثير الشكوك حول مشاركته في أولمبياد باريس    وزير الداخلية يؤدي زيارة إلى ليبيا    زغوان: تركيز نقطة بيع الأضاحي من المنتج إلى المستهلك    عدد من نواب الشعب يعربون عن عدم رضاهم لاقتصار أشغال المجلس على مناقشة مشاريع اتفاقيات القروض    إستولى على أموال: 10 سنوات سجنا لموظّف بالقباضة    الحماية المدنية 8 وفيات و350 مصابا في يوم واحد    كأس أوروبا 2024 : موعد المباراة الافتتاحية والقنوات الناقلة    سجائر فاسدة و'' بالدود ''معدّة للتونسيين ... وكالة التبغ و الوقيد توضّح    وزارة الدفاع: الحالات التي يُستثنى منها الشاب من الخدمة العسكرية    الرابطة الأولى: تفاصيل بيع تذاكر مواجهة الدربي    يتعمّدون دهسه بشاحنة لافتكاك أغراضه.. ثم يلوذون بالفرار!!    عميد المهندسين : أكثر من 90 ألف مهندس غادروا البلاد    قابس: اجماع على ضرورة تطوير نشاط الميناء التجاري    صابر الرباعي يُعلّق على حادثة صفع عمرو دياب لمعجب    الترجي الرياضي: إستئناف التحضيرات .. وعودة جماعية للدوليين    أسعار الخضر والغلال بسوق الجملة بئر القصعة    عاجل/ تعزيزات أمنية في سوسة.. وهذا سببها    سوسة: الاحتفاظ ب 5 أشخاص من أجل تدليس العملة الورقية الرائجة قانونا    تونس عاصمة التكامل الاقتصادي الأفريقي    للقضاء على الناموس: وزيرة البيئة تحذّر من استعمال المبيدات وتقدّم بدائل طبيعية    اشتعال النيران في الكويت : أكثر من 41 وفاة وعشرات الإصابات    شيرين تصدم متابعيها بقصة حبّ جديدة    تونس: ''أمير'' الطفل المعجزة...خُلق ليتكلّم الإنقليزية    بداية من اليوم : فيلم الاثارة والتشويق''موش في ثنيتي'' في القاعات التونسية    تبدأ غداً : تغييرات مناخية غير مألوفة...ما القصة ؟    83% من التونسيين لديهم ''خمول بدني'' وهو رابع سبب للوفاة في العالم    بالفيديو: ذاكر لهذيب وسليم طمبورة يُقدّمان الحلول لمكافحة التدخين    عاجل/ إطلاق اكثر من 100 صاروخ من لبنان باتجاه الأراضي المحتلة    وصول أكبر حاجة إلى السعودية لأداء مناسك الحج عن عمر 130 عاما    طقس الاربعاء: خلايا رعدية محلية مصحوبة ببعض الأمطار    شيرين عبد الوهاب تعلن خطوبتها… و حسام حبيب على الخطّ    رئيس الجامعة التونسية للمطاعم السياحية...هذه مقترحاتنا لتطوير السياحة    عاجل/ الكشف عن سبب اندلاع حريق منتزه النحلي    83 بالمائة من التونسيين لديهم خمول بدني    زلزال قوي يهز كوريا الجنوبية    اليوم انعقاد منتدى تونس للاستثمار: التفاصيل    علي مرابط يشرف على إطلاق البوابة الوطنية الجديدة للتلقيح    أنس جابر تتأهّل الى ثمن نهائي دورة نوتنغهام    وفاة الطفل ''يحيى'' أصغر حاجّ بالأراضي المقدّسة    وزارة الصحة: جلسة عمل لختم وتقييم البرنامج التكويني لتنفيذ السياسة الوطنية للصحة في أفق 2035    ديوان الإفتاء: مواطنة أوروبية تُعلن إسلامها    دار الافتاء المصرية : رأس الأضحية لا تقسم ولا تباع    العاصمة: عرض للموسيقى الكلاسيكية بشارع الحبيب بورقيبة في هذا الموعد    موعد عيد الاضحى: 9 دول تخالف السعودية..!!    مُفتي الجمهورية : عيد الإضحى يوم الأحد 16 جوان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ظواهر مستقبلية محتملة (الجزء الثاني)
محاولة لقراءة ما فجرته الثورة الشعبية التونسية في جدلية الخلفية التاريخية والفلسفية والتحدي الاستعماري الراهن: ❊ بقلم: النوبي بن فرج
نشر في الشعب يوم 23 - 04 - 2011

يمكن القول إن هناك ثلاث ظواهر سياسية واجتماعية رئيسية محتملة، ذات أثر على تشكل الفكر السياسي في المستقبل للتحولات الجارية منذ تسعينات القرن الماضي (ثورة الاتصالات، سقوط المعكسر الشرقي، وحرب الخليج) منظورًا إليها في اطار واحد وفي نسق واحد من التفاعل والتداخل هذه الظواهر هي: النستولوجيا والعنف المرافق، حوار الثقافات وتشكل ثقافة عالمية واحدة، حرب المعلومات وتحولات الاقتصاد، وهي ظواهر ملاحظة وموجودة وتزداد حدّة في المستقبل.
❊ النستولوجيا والعنف
النستولوجيا هي عبارة عن توق غير سويّ للماضي، أو إلى استعادة وضع يتعذر استرداده، وهو وضع ناتج إلى حد كبير عن عدم قدرة الذات على التكييف مع المستجدات والمتغيرات خاصة اذا كانت متسارعة وعظيمة الاثر وعدم القدرة على الاندماج الاجتماع بالتالي ومن ثم خيبة الامل من تحقق التوقعات. انها نوع من انواع اغتراب الذات الى حدّ كبير.
يقول الشاعر نزار قباني في مقالة له بعنوان »القصيدة السياسية وزيرة الدفاع« »في هذا الزمن العربي الذي وصلنا فيه إلى حافة الاغماء القومي، في هذا الزمن المتجمد الذي تتراوح حرارته بين خمسين درجة تحت الصفر وخمسمائة درجة تحت الصفر... بتوقيت أوسلو وتحولت وزارات دفاعه إلى أندية ديسكو...وبياناته الثورية إلى مونولوجات واستعراضاته العسكرية إلى عروض للأزياء...
تحاول القصيدة السياسية العربية أن تنقذ غشاء العذرية العربية من الاختراق، وأن تملأ الفراغ القومي الرهيب الذي يحاضرنا، وتكون بديلا لمراكز القوى السياسية والعسكرية التي استقالت من المعركة وانسحبت من جبهة المواجهة.
في هذا الزمن الذي خلع فيه الثوار بذلاتهم الكاكيّة ولحسوا امضاءاتهم الاولى ومواثيقهم الاولى... وغيروا جلودهم الاولى..
القصيدة السياسية في هذه المرحلة، هي جيش شعبي مهمته قرع الطبول واشعال الفوانيس في حارات الوطن العربي من طنجة إلى حضر موت وظيفتها ان تلغي كل نشرات الاخبار التلفزيونية المنقولة عن الواشنطن بوست، وجيروزاليم بوست، ومعاريف... واستبدالها بقصيدة لعمر وبن كلثوم. أو طرفة ابن العبد، أو عنترة بن شداد.. فهي رُغْمَ قدمها واختلاف خطابها اللغوي والثقافي تظل مسكونة بالهاجس القومي والقبلي، وتساوى كل هذه النفايات الشعرية الحديثة التي تتكوم على أبوابنا منذ سنوات، دون ان تفكر دائرة التنظيفات في البلدية باسرال سياراتها لجمعها ورميها في مكان آخر.
لم يكن إيراد النص السابق بغرض تذوّق جماليات اللغة، بقدر ماهو تمثيل لمفهوم النستولوجيا الوارد آنفا، من خلال نص نستولوجي مباشر فنزار قباني هنا يرفض كل المتغيرات السياسية والاجتماعية، ويحن إلى زمن مضى لم يعد موجودا، وليس بالامكان عودته، وقدْ لا يكون موجودًا بشكله المثالي الاّ في ذهن الشاعر، أو النستولوجي عموما، وهذا هو الاهم بغض النظر عن تقويمنا لذاك الزمن ومشاعر الحب او البغض نحوه ولذلك يلجأ الشاعر هنا إلى الاحتماء بشرنقة يحوكها حول نفسه عازلا هذه النفس عن محيطها ناقدا كلّ ما لا يروق له في هذا المحيط باسم الماضي السعيد أو الجليل، الذي ليس بالضرورة كذلك حين يحلل موضوعيا، وهذا هو الاغتراب بعينه، فالمتغيرات لن تتوقف عن الحدوث لمجرد رفتها واعتزالها والماضي المعشوق برومانسيته لن يعود، ويكون الخاسر في كل ذلك هو النستولوجي ولا أحد سواه.
والقضية تهون لو كان النستولوجي شاعرًا هنا أو هناك فردًا في الشرق وآخر في الغرب ومثل هؤلاء يوجدون في كل وقت وحين، ولكنّ هذه القضيّة تتحول إلى إشكالية عندما يكون هذا النستولوجي جماعة بأكملها، وتصبح إشكالية عندما يكون هذا النستولوجي جماعة بأكملها، وتصبح اشكالية أكبر كلما اتسع نطاق هذه الجماعة، في نص لأوليفيهروا Olivier Roy حول الاسلام السياسي المعاصر أو الاسلاموية Islamism يقول:
»لقد تمّ التحديث، ولكن خارج أي إطارمفاهيمي: تمّ التحديث عبرالهجرة من الارياف وعبر الهجرة إلى الخارج وعبر الاستهلاك وتغير السلوكيات العائلية وكذلك عبر السينما والملبس واقنية التلفزة اللاقطة، أي عبر عالمية الثقافة والاحتجاج ضد الغربنة، الذي يتسع ليشمل الاحتجاج ضد الدول القائمة هو من طبيعة الخطاب البيئي أو الخطاب المعادي للمهاجرين في الغرب، أي أنه الخطاب الذي يصاغ بعد فوات الأوان إذ كما لن تستيعد فرنسا مجتمعها ما قبل الصناعي، وكما ان المهاجرين إليها باقون فيها، كذلك فإن المدن المسلمة لن تستعيد انسجام البازار وطوائف الحرف فهذا العالم هو عالم الهجين وعالم الحنين النوستولوجي لكن حلم الماضي لا يطرأ إلاّ بعد الفوات وحلمنا يشتمل بالذات على كل ما نريدإنكاره فالتقليد الذي يحلم به من يحنّون إلى الماضي، هو شأن التقليد الذي تدينه الحداثة، تقليد لم يوجد قط بصفة عامة فإنّ النزاعات النستولوجية تجدها في أي خطاب وكل خطاب يستند الى مفهوم الرجوع، العودة، الانبعاث، النهوض بشيء مكتمل أو شبه مكتمل ولو كان منتكسا، والالتفاف إلى مكان واعادته الى المقدمة حيث يجب ان يكون«.
والحقيقة ان النزعة النستولوجية لا تهمنا كثيرًا في هذا المجال بقدر ما أن المهم هو علاقتها بوتيرة المتغيرات المعاصرة واحتمال تحولها إلى خطاب عنف وسلوك عنف. النستولوجيا، منظورًا اليها سياسيا، عبارة عن عدم القدرة على التكيف مع المتغيرات واستيعابها من ناحية ورفض لهذه المتغيرات من ناحية أخرى مع القناعة أن مثل هذا الرفض لن يؤدي إلى نتيجة ايجابية من حيث تحقق التوقعات، وهنا قد يدخل العنف في الموضوع: ذلك لا يعني اطلاقا ان العنف نتيجة ضرورية لحلم الماضي الجميل، ولكنه نمط من أنماط السلوك الممكنة او المحتملة، اعتمادا على المتغيرات المحيطة ففي بدايات الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر عبّر العمال الذين شرّدتهم الآلة من أعمالهم وقضت على حرَفِهِمْ عن غضبهم بالتوجه الى تلك الآلات ومحاولة تدميرها. مثل أولئك العمال تعبير تاريخي عن حالة نستولوجيا تحوّلت إلى سلوك عنيف: فهم يحنون إلى الماضي »الجميل« خائفون من الحاضر والمستقبل، غير قادرين على التكيف مع المتغيرات الجديدة، ولا يملكون حلا في ظلّ الهيمنة المتفاقمة للآلة، وبالتالي ليس هناك إلاّ سلوك يائس أخير هو محاولة تحطيم الآلة ذاتها.
وقياسا على السلوك التاريخي لاولئك العمّال، يمكن أن يفسر، وإلى حدّ بعيد، سلوك الافراد والحركات المعادية للاجانب والمهاجرين في أوروبا وأمريكا، والحركات الدينية السياسية المتطرفة، في الغرب والشرق على سواء. إن ما يجمع كل هؤلاء، رغم اختلاف الايديولوجيا ومضمون الخطاب هو النزعة النستولوجية عندما تتحول الى عنف يائس، أو الإمكانية الكبيرة لذلك وفي ذلك يلاحظ أحد دارسي الظاهرة الاسلاموية.
»وبامكاننا أن نجد تماثلا ما بين الأَلْويَة الحمراء الايطالية وبين الانتلجنسيا المسلمة المتطرفة: فعناصرها من المثقفين »ذوي الافق الضيق« لم يحققوا لانفسهم اندماجا اجتماعيا يتناسب وتوقعاتهم فانغمسوا في العنف السياسي علم ماركسي (مقابل العلم للإسلامي لدى الطرف الآخر) ويتواصل التوازن بين الاسلاموية والحركات العالمثالثية إلى حدّ مرحلة التفكك ولجوء قطاعاتها الاكثر تطرفا إلى الارهاب. فالإرهاب، وهو وليد السبعينات من القرن الماضي، ليس ابتكارا اسلاميا، إلا أننا فقدنا المرجعية المشتركة أي الترجمة الماركسية »العالَمْ ثالثيّة« المعتمدة، التي كانت تتيح للبعض أن يتفهم أعمال عصبة »بادر ما ينهوف« أو الألْوية الحمراء، لا بل خاطفي الطائرات من الفلسطينيين، ولكن لا تتيح فهم محتجزي الرهائن من عناصر حزب اللّه«.
وإذا كانت مثل هذه الظواهر قديمة قدم الانسان في المجتمع فانها تزداد وتيرة في ظلّ المتغيرات المتحدث عنها، وخاصة بين الجماعات، وفي تلك الدول الأقل قدرة على التكيف والتأقلم مع نمط تغيرات العصر نتيجة عوامل تاريخية ذاتية اكثر من كونها عوامل اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية معيشة، وذلك مثل العالم الاسلامي عامة والعربي خاصة فمتغيرات القرن الواحد والعشرين (ثورة الاتصالات، وسقوط الشمولية السياسية فكرا ومنهجا وتدويل العالم) سوف تقضي في النهاية على دول، وتعيد ترتيب مجتمعات، وتشكل عقلا جديدًا، بشكل يفوق بمراحل ما فعلته الثورة الصناعية في أوروبا، ومع كل هذا التحول السريع في عالم اليوم، لابد أن تكون ظواهر مثل الاغتراب، والنستولوجيا، والعنف من الامور المرافقة حتّى تستطيع كل المجتمعات استيعاب ما يجري والتأقلم معه، وفق عقل جديد، وإلى ان يتم ذلك فإنه محكوم علينا ان نتعايش مع هذه الظواهر جزءًا من عملية التأقلم والتكيف ذاتها.
❊ حوار الثقافات وتشكل ثقافة عالمية
دون الدخول في لجة التعريفات الاكاديمية، يمكن القول ان الثقافة culture هي مجمل العقائد التي تؤمن بها جماعة ما، وتمنح المعنى للاشياء في محيطها، وما ينبثق عن ذلك من سلوك وعلاقات. فالثقافة هي فلسفة الجماعة ونظرتها إلى الوجود من حولها والعلاقات القائمة على مثل هذه الفلسفة وبهذا المعنى، فإنها أي الثقافة تجعل من الحضارات او المدنيات (civilisation) أشكالا مختلفة، رغم ان جوهرها واحد فإذا كانت »المؤسسة« واحدة في بنية كل حضارة فإنّ اسلوب عملها وغايتها يتحددان وفقا للثقافة السائدة. فمؤسسة الزواج وارتباط الذكر بالانثى، أو المدرسة أو المعبد مثلا موجود في كل حضارة قديمة وحديثة، ولكن كيف يتم الزواج وماهي طقوسه وماذا يدرس في المدرسة وماهي الغاية؟ ومن يعبد في المعبد وكف يتم ذلك؟ انما يتجدد وفقا لثقافة الجماعة. ورغم ان الثقافة عنصر من عناصر الحضارة أو المدينة إلاّ أنّ هذا العنصر بالذات هو الذي يمنح شكلا حضاريا معينا هذا الشكل وذاك الاسلوب الذي يفرقه عن بقية الاشكال.
وفي كل شكل للحضارة ابتكره الانسان، هناك دائما فكرة محورية يدور حولها ذلك الشكل، وتحدد الناتج الرئيس لتلك الحضارة، أو الشكل الحضاري. هذه الفكرة هي لب الثقافة أو نواتها المحددة لفلسفة الجماعة حول نفسها والاخرين والطبيعة من حولها ومن ثم نمط حركتها وعلاقتها، فالفكرة المحورية في الحضارة المصرية الفرعونية هي »الخلود« وفي بلاد ما بين النهرين هي »الاسطورة الكونية« وعند الاغريق هي »العقل المتأمل« ولدى الرومان »القانون وعند المسلمين هي »النص« وفي الصين والهند هي »الانسجام مع الطبيعة« وفي الغرب الحديث هي »الفعل« ذلك يعني احتكار حضارة معينة لفكرة جوهرية معينة بقدر ما يعنى محورية تلك الفكرة في الثقافة المؤسسة فالاساطير شكلت جزءًا مهمّا من الثقافة الاغريقية والرومانية وحتى الاسلامية والغربية الحديثة مثلا ولكنها لا ترقى إلى المستوى والمحورية التي كانت عليها في حضارات ما بين النهرين وعلى ذلك يمكن القياس.
معنى ذلك، أن اشكال الحضارة الانسانية في حالة تداخل وتفاعل دائم، أو حوار تاريخي فحضارة الاغريق والرومان مثلا، لم تكن نسيجا وحدها بل هي وريثة اشكال حضارية سابقة في مصر وما بين النهرين وهي ارهاص في ذات الوقت للاشكال الحضارية اللاحقة وكل شكل من هذه الاشكال الحضارية كان يمثل في قمته اقصى ما يمكن ان يصل إليه الانسان في »عمارة الارض« بعبارات ابن خلدون وفي تلك المرحلة من الزمان بمعنى ان كل حضارية جزئية (شكل حضاري) لشعب أو جماعة بشرية معينة، وهي تمثيل لحضارة الانسان بصفة عامة في وقت من الاوقات وعلى ذلك فإنّ حضارة الغرب المعاصر، أو حضارة الانسان في الغرب بأسلوب أصح هي تمثيل لحضارة الانسان بشموله في هذه المرحلة من التاريخ، وفق اطار تحليلي يحاول الابتعاد عن مسلمات الايديولوجية، ومنطلقات الاعتقاد الذاتي، واذا كانت الاشكال الحضارية الانسانية متداخلة تاريخيا فكذلك الثقافات المؤسسة لهذه الاشكال تتداخل الثقافات وستتحاور وفق اسلوبيين رئيسيين غالبا: الغلبة العسكرية، والسريان الحضاري، فبالنّسبة إلى الطريقة الاولى تنتقل ثقافة الغالب او اجزاء منها الى المغلوب، وفي ذلك يقول ابن خلدون:
»إنّ المغلوب مولعٌ أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده والسبب في ذلك ان النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه او لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنّما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقاد فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه والله أعلم، من أن غلب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحله من العوائد والمذاهب تغالط أيضا بذلك عن الغلب وهذا راجع للأول« الغلبة العسكرية غالبا ما تنقل مكونات معينة من ثقافة الغالب إلى ثقافة المغلوب الاّ فيما ندر وذلك مثل حالة التتار مع الثقافة الاسلامية، أؤ قبائل الهون مع الثقافة الاتنية المنتصرة، اذ استوعبتهم مثل تلك الثقافات استيعابا كاملا، رغم أنهم، التتار والهون هم الغالبون.
غير أنّ أهم نقطة في هذا المجال، هي انه حتّى الغالب تتسرب اليه اجزاء من ثقافة المغلوب وذلك بشكل غير محسوس في غالب الاحيان، مهما كان الغالب مهيمنا على المغلوب، خاصة اذا كان المغلوب ينتمي الى حضارة سابقة سادت ثم بادت مثال ذلك: الاغريق المغلوبون والرومان الغالبون، المسلمون الغالبون والبلاد المفتوحة، الصليبيون الغالبون والمسلمون، وبصفة عامة فإن المؤثرات الثقافية المنتقلة من الغالب الى المغلوب، لا تعني المسخ ل »هوية« و»ذاتية« المغلوب في المدن الطويل قد يحدث شيء من المسخ آنيا وعلى المدى القصير، ولكن ثقافة المغلوب تستوعب المؤثرات الثقافية الجديدة، وتمزجها في نسيجها الثقافي والاجتماعي الذاتي وتصبح جزءا من الهوية، وذلك على افتراض ان ثقافة المغلوب تملك عناصر الحياة والقدرة على التحول والتأقلم، وليست ثقافة ميتة يحاول نفخ الروح فيها دون جدوى ولعل أبرز مثال على ذلك وأقربه هو يابان ما بعد الحرب الثانية ومسألة الديمقراطية فقد فرض الديمقراطية الغربية فرضا على اليابان، ولكن الديمقراطية والتعددية السياسية جزء من الثقافة اليابانية المعاصرة، في إطار هوية يابانية واضحة المعالم والوجود أما الاسلوب الثاني، سريان أو انتقال منجزات حضارية من بيئة إلى أخرى، فقد لا يكون بوضوح الاسلوب الاول وأثره المباشر، ولكنه أعظم اثرا بشكل غير مباشر فالمنجز الحضاري المنتقل ليس مجرد كتلة مادية او سلعة محايدة، ولكنه تموضع وتجسد لفلسفة معينة (ثقافة ما) قد لا نراها أو نحسها، ولكنها تفرض نفسها في نهاية المطاف فالتعامل مع منجز حضاري معين: الآلة او الكومبيوتر مثلا انتاجا واستهلاكا يستوجب استيعابا للفلسفة التي تقف وراء ذلك المنجز سواء بشكل واع أو غير واع، إذ كان للمنجز الحضاري سوف يخلف ثقافته الخاصة ولو بعد حين، ومدى هذا »الحين« هو الذي يفرق بين المجتمعات والثقافات القادرة على التجانس مع عصرها من عدمه ولعل ذلك يفسر لنا جزئيا لماذا تنجح بعض الدول في العصرنة والمنافسة فيها، ويفشل البعض الآخر او لا يحقق نجاحا مشهودًا.
فالفلاح الذي يتعامل مع المحراث الآلي تعامله مع ثيران الحرث مثلا، أو السائق الذي يتعامل مع السيارة تعامله مع الحمار أو الناقة، او المجتمع الذي يتعامل مع الكومبيوتر على أنه مجرد آلة لتخزين المعلومات، وليس أسلوبا للتفكير و»عقل« مختلف عما اعتاد عليه او المثقف ذو الذاتية المفرطة والهوية الحساسية الذي يريد نقل منجز حضاري معين دون نقل خلفيته الفلسفية حفاظا على »الاصالة« وما شابهها كل أولئك فاشلون في مسعاهم، وقد تكون النتائج وخيمة لانهم لم يصلوا الى جذورالاشياء فالحداثة ليست مجرّد غشاء مادي بل هي حالة عقلية اما ان تؤخذ كلها أو تترك كلّها، والتحديث عملية متكاملة وغير ذلك هو المسخ.
وإذا كانت الحضارات والثقافات متداخلة ومتحاورة تاريخيا وواقعا، فإنّها ليست كذلك منظورا اليها سياسيا وايديولوجيا ففي مقالته الشهيرة، »صدام الحضارات« يرى »سامويل هنتنغتون« Samuel Huntington أن صراع الحضارات هو خليفة الحرب الباردة، وأن عالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي سوف يكون عالما من المراكز الحضارية (اسلامية كونفوشيوسية، غربي ة.. إلخ) المتصارعة صراع الناب والمخلب، وأن على متخذي القرار في الغرب الانتباه إلى هذه الحقيقة في صنع سياستهم الخارجية المقبلة وفقا لشعار عام هو »الغرب والبقية«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.