السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بطولة انقلترا: مانشستر سيتي يكتسح ليفربول بثلاثية نظيفة    الصندوق العالمي للطبيعة بشمال إفريقيا يفتح باب التسجيل للمشاركة في النسخة الثانية من برنامج "تبنّى شاطئاً"    مدير "بي بي سي" يقدم استقالته على خلفية فضيحة تزوير خطاب ترامب    هل نقترب من كسر حاجز الزمن؟ العلم يكتشف طريقاً لإبطاء الشيخوخة    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    نبض الصحافة العربية والدولية ... مخطّط خبيث لاستهداف الجزائر    "التكوين في ميكانيك السيارات الكهربائية والهجينة، التحديات والآفاق" موضوع ندوة إقليمية بمركز التكوين والتدريب المهني بالوردانين    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    ساحة العملة بالعاصمة .. بؤرة للإهمال والتلوث ... وملاذ للمهمشين    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): التونسية اريج عقاب تحرز برونزية منافسات الجيدو    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    قابس: حريق بمنزل يودي بحياة امرأة    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    عاجل: النادي الافريقي يصدر هذا البلاغ قبل الدربي بسويعات    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاولة لقراءة ما فجرته الثورة الشعبية التونسية في جدلية الخلفية التاريخية والفلسفية والتحدي والاستعماري الراهن (الجزءالأوّل)
بقلم: النوبي بن فرج
نشر في الشعب يوم 16 - 04 - 2011

❊ مقدّمة: قبل الدخول في الجزء الثاني من موضوعنا رأينا من الضروري الإشارة إلى أن الثورة التونسية كانت خلاصته استيعاب التحولات العميقة والسريعة التي اتّسم بها عالمنا المعاصر طيلة العقدين الماضيين في عديد المجالات، وخاصة الثورة التكنولوجية والمعرفية وكذلك ثورة الاتصالات والمعلومات ، لقد امسك الشعب التونسي العظيم باللحظة التاريخية الحاسمة وطوعها بفضل وعيه وإرادته الثورية إلى لحظة انتقال نوعية بكل المقاييس انصهر في صلبها العامل الذاتي والموضوعي واختزل فيها الزمن والمسافات إلى أبعد الحدود الممكنة وكانت تبشيرًا بميلاد أم الثورات دون منازع ذلك الحدث الإنجاز، إنّ هذا الميلاد سيبقي محطة فارقة في تاريخ الشعوب يشار إليها بما قبل الثورة الام وما بعدها.
وما الزّلزال الذي أحدثته في محيطها الاقليمي (ولسوف يمتد إلى أبعد من ذلك) إلاّ مدعاة لمزيد البحث المعمق في خباياها، وسوف يمتد تأثيرها إلى ضرورة المراجعات الجذرية للفكر السياسي المعاصر، ولقد أردنا صد التحولات العميقة السابقة واللاحقة كي يتسنى لنا إيجاد المفاتيح النظرية للولوج إلى رحاب الثورة من أجل تقديم قراءة متأنية للوصول الى فهم فعلها المستقبلي والتحولات التي قد تصبح ممكنة بفعل هذا التأثير الهائل لا محالة.
❊ سقوط الشمولية (التوتالية) السياسية
قد يعتبر البعض سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية مجرد حدث تاريخي قد يكون مهما ولكنه ليس مفترقا تاريخيا، فالاتحاد السوفياتي كان آخر الامبراطوريات متعددة الاعراق والقوميات في هذا العصر، بعد الانهيار النّهائي لمثل هذا النمط في التنظيم السياس في أعقاب الحرب العالمية الاولى لصالح الدولة القومية كانت الحرب العالية الأولى إعلانا عن سقوط الامبراطورية العثمانية وامبراطورية النمسا والمجر، أي عن النمط الكوزموبوليتي في التنظيم الدولي لصالح التنظيم القومي ولكن الامبراطورية الروسية تجنبت الانهيار حين تحولت إلى الاتحاد السوفياتي بإيديولوجيا جديدة وفكر جديد، ولكن بذات البنى والمقومات التي كانت سائدة سابقا فلم يكن الاتحاد الا صورة جديدة لكيان قديم، قد يتغير الشكل ولكن اللب واحد.
لقد كانت الحرب العالمية الاولى انتصارا نهائيا لمبدأ القوميات الذي كان في طور النضج خلال القرنين السابقين، ولكن الايديولوجيا اللينينية الجديدة في الامبراطورية الروسية المتفسخة حاولت أ تقفز على هذا المبدأ وفق نظرية حرق المراحل اللّينينية عندما شكلت امبراطورية روسية جديدة بدأت الاطر القديمة انتصارا لمبدأ اي مبدأ يعني فيما يعني بداية تجاوز هذا المبدأ.
انتصار مبدأ القوميات في أوروبا وبداية عهد القوميات في العالم الثالث او المستعمرات القديمة وكانت التجربتان الفاشية والنازية في إيطاليا وألمانيا إعلانا تاريخيها عن ان مبدأ القومية قد يصل إلى اقصى ما يمكن ان يصل اليه في القارة العجوز وليس بعد ذلك الا النهاية فالقومية ظاهرة سياسية واجتماعية تظهر وتختفي وفقا لمتغيرات تاريخية معينة وليست جزءًا من الطبيعة البشرية.
مشكلة الاتحاد السوفياتي بصفته الابن الشرعي للامبراطورية الروسية. انه حاول ان يتجاوز المسألة القومية في الاسس التي كانت سائدة في الامبراطورية السابقة في الوقت الي كانت فيه القومية هي »روح العصر« وبالتالي لم تستطع شعوب الاتحاد السوفياتي ان تمارس حقها التاريخي في هذا المضمار في ذات الوقت الذي كانت فيه شعوب القارة الاوروبية تكاد أن تصل إلى نهاية المطاف في التجربة القومية، وشعوب العالم الثالث تمارس هذه التجربة من خلال حركات التحرر الوطني والانظمة القومية في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية، وعندما جاءت »بريسترويكا« و»غورباتشوف« و»الغلاسنوست« كانت فرصة تاريخية لشعوب اوروبا الشرقية لممارسة ما كانت أوروبا الغربية قد تجاوزته، أو على وشك تجاوزه، ونقصد بذلك القومية والديمقراطية والعنف المرافق لاي تحول وذاك يعبر جزئيا عن حالات الصراع العرقي والقومي التي شاهدناها في يوغسلافيا السابقة وروسيا الاتحادية التي واجهت نفس مصير الاتحاد السوفياتي، وروسيا الاتحاديّة قد تواجه نفس المصير إذا أصرت القيادة على تجاهل مبدأ القوميات بالنسبة إلى شعوب الاتحاد.
بالاضافة إلى كون سقوط الاتحاد السوفياتي انهيارا لكل أنماط التنظيم السياسي السابقة على الحرب الاولى او البقايا العالقة لذلك التنظيم فإنه ايضا إعلان عن سقوط تلك الانماط في الفكر والسلوك السّياسي التي أفرزتها الحربان، وخاصة ما بعد الحرب الثانية حين كانت الحرب الباردة، فالصراع الايديولوجي العالمي هو سيد الموقف والمتحكم الى حدّ كبير في سياسات الدول.
فهو إعلان عن نهاية لايديولوجيا الشمولية بصفتها نظاما مغلق من الافكار القطعية والمطلقة، على مستوى العالم كله بعد ان أعلن »دانيال بيل« نهاية الحقبة الايديولوجية في الغرب عام 1960، وهو إعلان عن نهاية الدولة الشمولية ومفهومها، الدولة التي تجسد كل شيء وترعى كل شيء بدءًا من الفكرة وانتهاءً بالسلوك الفردي البسيط.
❊ حرب الخليج
لا نبالغ في القول حين نقول ان (حرب الخليج الثانية وحرب تحرير الكويت وكذلك احتلال العراق) لم تكن مجرد تحالف دولي فقط بقدر ما كانت تغييرا جذريا، أو ومقدمة لتغير جذري في التنظيم الدولي وسلطة الجماعة الدولية بالاضافة إلى ما بينته من تغير في نمط الحرب ذاتها، فمن ناحية التنظيم الدولي ان نقسم القرن العشرين إلى ثلاث مراحل بارزة في هذا المجال فترة ما بين الحربين ما بعد الحرب الثانية وفترة ما بعد حرب الخليج وسقوط الاتحاد السوفياتي.
»تميزت الفترة الاولى بمحاولة الجماعة الدولية لجْم الحرية المطلقة للدولة في ممارسة السياسة الخارجية تحديدا المنبثقة عن مبدإ السيادة التي هي تعريف للحرية المطلقة للدولة في نهج ما تراه مناسبا لها من سياسات مع ما يتضمنه ذلك من مبدأ المساواة القانونية بين الدول و كانت نتيجة هذه المحاولة انشاء هيئته دولية تعبّر عنها الجماعة الدولية التي هي الجماعة الاروبية بصفة خاصة وهي »عصبة الامم« ويكون هدفها العام السلم والاستقرار العالمي وقد كان هذا الهدف يحقق في السابق عن طريق طبيعة النظام الدولي السائد الذي يكتسب توازنه من تفاهم الكبار ومتّخذي القرار فيه، فمنذ هزيمة نابليون، ونهاية المدّ »الثوري« الفرنسي بعودة »آل بوربون« إلى الحكم في فرنسا وانعقاد مؤتمر فيينا عام 1815 للكبار في أوروبا. بزعامة رجل الدولة النمساوي ميترنيخ »lemens von Metternich« كانت الدول الاوربية تحلّ مشاكلها عن طريق ما سمّي في وقته بالكونسرتو الأوروبي »The concert of Europe« المنبثق عن مؤتمر فينا، والذي كان عبارة عن تحالف لذات الدول التي هزمت نابليون (النمسا بروسيا روسيا بريطانيا) وضمّت إليها فرنسا لاحقا، وكان نظام توازن القوى هذا، كما عرف بذلك لاحقا، يقوم على تحالف هذه الدول ضد أي دولة تهدّد الاستقرار والسلم، وتحالف البقية على أحدها اذا كان هو نفسه مهددا لاستقرار النظام الا ان هذا النظام كان هشّا، في ظل الزخم المتصاعد للفكرة القومية وانهار مع قيام الحرب الاولى عندما تحالفت ألمانيا مع إمبراطورية النمسا والمجر، ضد روسيا وفرنسا وبريطانيا بعد أحداث البلقان حين ضمّت النمسا البوسنة والهرسك الى الامبراطورية، وأثار ذلك المشاعر القومية الصربية التي تجسّدت في اغتيال الارشيدوق فرانسيس فردينان ولي عهد امبراطورية النمسا والمجر في سراييفو في الثامن والعشرين من حزيران (يونيو) عام 1914 ولكن عصبة الأمم رغم أنها خطوة متقدّمة مقارنة بالترتيبات الدولية السابقة من حيث مؤسسة الجهود الدولية المشتركة كانت ايضا هشّة في بنيتها فقد استثنت من عضويتها المهزومين في الحرب، وكانت خاضعة إلى إرادة فرنسا وبزريطانيا بصفة خاصة بعد تردد الولايات المتحدة في قبول أي مسؤوليات دولية في ظلّ مبدأ مونرو ونهج العزلة الذي كان لا يزال مسيطرًا على السياسة الخارجية الامريكية إلى حدّ بعيد وكانت تلك الشروط القاسية التي فرضت على ألمانيا، وخاصة المالية البذرة التي أفرزت الحرب الثالثة كانت فترة ما بين الحربين بصورة عامة فترة من الفراغ السياسي الأوروبي فقد انهار نظام توازن القوى، ولم ينبثق نظام جديد فعّال فكان الوضع نوعا من التنافس الدولي (الأوروبي) على احتلال مواقع جديدة في ظلّ الزخم القومي المتطرف الذي أفرزته الحرب ونتائجها، وكان لابد من انتهاء مثل ذلك الوضع المشوّش فكانت الحرب الاوروبية (العالمية) الثانية.
بانتهاء الحرب الثابتة، كانت القارة العجوز قد انهارت فعلا وبرز الى الساحة لاعبان رئيسيان: الولايات المتحدة الامريكية بكل فتوّتها واقتصادها المزدهر، واتحاد جمهوريات السوفيات الاشتراكيّة، بكلّ الحماس الذي صنعته الايديولوجيا الشيوعية المنتصرة والمتوسّعة لم يكن الوضع في حالة مدّ وجزرفي أعقاب تلك الحرب، فقد كان هناك اعتراف بالواقع الذي أفرزته الحرب، واقع تراجع القارة العجوز ودولها وهيمنة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مما اوجد فعليا نظاما دوليا جديدا هو الثنائية القطبية والذي تجسّد مؤسسيا وقانونيا في هيئة دولية هي الامم المتحدة وبذلك تبدأ المرحلة الثانية.
ورغم مثالب وسلبيات هذه الهيئة الجديدة من حيث عدم القدرة الكاملة على تجسيد سلطة ملزمة للجماعة الدولية فانها كانت خطوة اكثر تقدّما مقارنة بعصبة الامم فمن ناحية كانت هذه المنظمة الجديدة أكثر »عالمية« من عصبة الامم التي كانت قاصرة إلى حدّ بعيد على أوروبا وبالتالي اصبح مفهوم »الدولية« أكثر تعبيرا عن الواقع مما كان عليه في السابق.
ومن ناحية أخرى كان للهيئة دور مؤثر في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدول الاعضاء من خلال منظماتها المتخصصة المنبثقة عنها، ولكن رغم ذلك يبقى عدم قدرة المنظمة على فرض القانون الدولي العام، الذي هو التعبير المجرد عن الارادة الدولية، بمعنى ان المنظمة تفتقد القدرة على الالزام التي هي لبّ السلطة الساسية، وذلك نتيجة تصارع القوى داخلها وعدم امتلاك قوّات فعالة، وموارد ماليّة منتظمة، وبالتالي انعدام استقلالية القرار ومن ثم إلزاميته.
عندما غزا صدّام حسين الكويت في الثاني من أوت عام 1990 كان يبدو ان حساباته السياسية قائمة جزئيا على قواعد النظام الدولي الذي كان في طور الاحتضار. فمتّخذ القرار العراقي انذاك كان يعلم عجز الامم المتحدة عن القيام بأي دور إيجابي ضده في هذا المجال، في ظلّ الصراع بين القوتين العظيمتين والمراهنة على الموقف السوفياتي، والخبرات السابقة مع قرارات الأمم المتحدة التي لا تتجاوز الشجب والادانة دون الفعل بالضافة بالطبع إلى المراهنة على عقدة فيتنام بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية وتلك القراءة الذاتية لصدام في مقابلته مع السفيرة غلاسبي من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخل في الصراعات بين العرب.
بطبيعة الحال ليس موضوعنا هنا هو حرب الخليج بذاتها بقدر ماهو الحديث عنها بصفتها نقطة تحوّل في النظام الدولي. لم يكن متخذ القرار العراقي قد أخذ في اعتباره بجديّة الاحداث في اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي بعد اصلاحات غورباتشوف التي فرضتها عليه الاوضاع الاقتصادية المنهارة من جرّاء سباق التسلّح، وبرنامج »حرب النجوم« الأمريكي الذي كان المسمار الاخير في نعش الاتحاد السوفياتي كان من الواضح ان الحرب البادرة قد انتهت لصالح المعسكر الغربي، وأنّ الولايات المتحدة قد خرجت من هذه الحرب سيدة العالم وأنّ نظاما دوليا جديدًا (هو الثالث في القرن العشرين) في طور التكوين وكان لزاما على الولايات المتحدة أن تعلن قيام هذا النظام من خلال عمل فعلي، فكانت حرب الخليج.
في مثل هذا النظام الدولي الجديد الآخذ في التشكل، بدأت هيئة الامم تأخذ دورا أكثر ايجابية في فرض النظام والاستقرار عن طريق التدخل المباشر أكثر من ذي قبل نعم قد تكون الهيئة الآن معبرة اكثر من ذي قبل عن مصالح دولة عظمى واحدة وليست ارادة ومصالح الجماعة الدولية ولكن أليست هذه هي السياسة ألم يكن الكبار دائما هم من يشكل الارادة الدولية ويضعون الاطر العامة للنظام الدولي نحن لا نناقش كل ذلك هناك فتلك مسألة اخرى ولكن المهم في الموضوع هو الدور المتعاظم للهيئة الدولية وقضية السيادات القومية الخاصة بغض النظر عمن هو السيد الفعلي في تلك الهيئة فتلك مسألة قد تكون ذات اهمية سياسية قصيرة المدى، ولكن الحديث هنا عن المدى الطويل فالمفكرون الأوروبيون الأوائل، عندما كانوا يكتبون عن الانسان وقضاياه وحقوقه مثلا كان الانسان الأوروبي، فقط هو الذي يحتل أذهانهم، أما الاخرون فقد يكونون همجا أو برابرة غير ذلك ولكن المفهوم الذي كان خاصا بجماعة معينة اتسع مع الوقت وتدخل في متغيرات تاريخية عديدة، ليشمل الجميع وأصبح مفهوم الانسان اكثر تجريدًا رغم ان بدايته كانت في غاية الخصوصية وهذا بالضبط المراد قوله حين الحديث عن الامم المتحدة حاليا، لا بصفتها مجرد هيئة ولكن بصفتها مؤسسة سياسية تجسّد إرادة الجماعة الدولية وتتجاوز السيادات القومية بالنظر اليها من خلال المفهوم وإمكانياته لا من خلال الممارسة الآنية.
ومن ناحية أخرى كانت حرب الخليج اعلانا عن النمط الجديد من الحروب العسكرية فإذا كانت الدبابة البريطانية هي مفاجأة الحرب العالمي الاولى وبطلها، فإن الكمبيوتر وتكنولوجيا »حرب النجوم« الامريكية كانت مفاجأة حرب الخليج وبطلها ان العرض المدهش كما يقول أحد المؤرخين: »للطائرات والصواريخ والدقة العلمية لحرب لم تعد في حاجة إلى بطل بل إلى عامل ميكانيكي (أوبراتور) فقط، ويمكنها من خلال استخدام الاسلحة والصور تحقيق كبير في عدد الضحايا، كل ذلك أبرز تفرق التكنولوجيات الامريكية التي تحدّت وهزمت الأسلحة المنافسة وغطت على أسلحة الحلفاء التي بدت فجأة بالية وقديمة العهد، بالمقارنة مع الطائرات الخفية واللايزر.
وترافق هذا النمط التكنولوجي الجديد في الحرب مع ثورة الاتصالات المتسارعة، التي سمحت لاول مرّة في تاريخ البشرية، للفرد العادي ان »يتفرج« على المعارك والاهداف المصابة، وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا من الخيال العلمي مثل هذا التطور في وسائل الاتصالات لا يقتصر على مجرد نقل الصورة والخبر إلى غرفة نوم الفرد العادي، ولكنه يجعل هذا الفرد مشاركا مباشرة في القضية او الخبر المطروح من حيث تشكل وجهة النظر ومن ثم السلوك مثل هذا التطور سوف يؤدي الى انقلاب جذري في مفاهيم سياسية عديدة، لعلّ من أبرزها مفهوم الرأي العام وكيفية تشكله سواء على النطاق المحلي او الوطني او على النطاق العالمي ومن ثم بداية تلاشي الفروق في الرأي العام بين المستوى المحلي والعالمي، وبداية تكون رأي عام شامل على مستوى العالم، لا يعترف بالحدود أو السيادات ولذلك يمكن القول بكل ثقة ان من يمتلك المعلومة وتقنينها وكيفية تشكيلها، سوف يكون سيد هذا القرن وهذا أبرز عامل من عوامل القوّة الوطنية والسياسة العالمية الذي لم يكن يمثل هذه المحورية قبل عقدين من الزمان ليس أكثر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.