«ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف في البرلمان ولكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهم منكم جميعا» أدموند بروك يجمع الفكر القانوني على ان الصحافة تشمل كل وسائل التواصل القصدي بين الأفراد . فمفهوم الصحافة يتجاوز النشريات اليومية والدورية ليضم بين دفتيه كل وسائل الترويج القصدية اي الوسائل النشرية الجماهيرية من صحف و مؤلفات كتابية و سمعية و بصرية وصور شمسية و تسجيلات صوتية بما في ذلك وسائل نشر الأفكار كالمسرح و السينما . وتعد حرية الصحافة المحرار الذي يقاس به مدى التزام اي نظام سياسي باحترام بقية الحريات الفردية و الجماعية . فهي المرآة التي تعكس مدى ما بلغه المجتمع و النخب السياسية و السلط العمومية من نضج و وعي سياسي و فكري و ما يوفره النظام السياسي من اسباب الحوار الديمقراطي . ونظرا للمكانة المميزة التي تحتلها حرية الصحافة في حياة الأفراد و الجماعات ،فقد اولتها المواثيق الدولية مكانة بارزة اذ اكدت المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الحق في حرية التعبير التي تشمل البحث عن استقبال و ارسال المعلومات و الأفكار عبر اي وسيط و بغض النظر عن الحدود .و هو ما اكدته المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية عندما اقرت ان لكل انسان الحق في حرية التعبير و التماس مختلف ضروب المعلومات و الأفكار وتلقيها و نقلها للأخرين دون اعتبار الحدود على شكل مكتوب او مطبوع او في قالب فني او باي وسيلة اخرى يختارها. و هو ما اكدت عليه و كررته المواثيق الدولية الإقليمية من ذلك المادة 10 من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان و المادة 9 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب و المادة 13 من الإتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من اجماع المواثيق الدولية على اقرار حرية الصحافة و ضرورة حمايتها باعتبارها الحارس العام لبقية الحريات و الحجر الأساس الذي يستند اليه بناء النظام الديمقراطي ، فان حرية الصحافة في تونس مازالت تخضع لأحكام مجلة الصحافة الواقع سنها بموجب القانون عدد 32 لسنة 1975 المؤرخ في 28 أكتوبر 1975 وهو القانون الذي تم تنقيحه في عدة مناسبات بموجب القانون الأساسي عدد 89 لسنة 1988 المؤرخ في 2 اوت 1988 و القانون الأساسي عدد 85 لسنة 1993 المؤرخ في 2 اوت 1993 و القانون الاساسي ع43 دد لسنة 2001 المؤرخ في 3 ماي 2001 والقانون الاساسي ع1دد لسنة 2006 المؤرخ في 9 جانفي 2006. بيد أن جملة تلك التنقيحات و التعديلات لم تفلح في رفع الإلتباس حول طبيعة النظام القانوني لحرية الصحافة بتونس القائم من حيث الأصل على نظام الإعلام المسبق لينحرف الى نظام الترخيص المزيف كما لم تنجح في الغاء الطابع الزجري و الردعي الذي استغلته السلطة السياسية لكتم اصوات معارضيها من سياسيين وحقوقيين . وقد تجلت مظاهر الانحراف بالنظام القانوني لحرية الصحافة من نظام الاعلام المسبق الى نظام الترخيص المزيف من خلال تطويع السلطة الادارية للاحكام المتعلقة بالوصل القانوني وهو الاجراء المنصوص عليه بالفصلين 13 و 14 من مجلة الصحافة . فقد اوجب الفصل 13 على كل باعث لنشرية ان يعلم وزارة الداخلية بذلك بصفة مسبقة ، لتسلم له وصلا في الغرض . وهو اجراء يبدو في ظاهره لا يحد من ممارسة الحرية رغم كثرة البيانات المطلوبة، ضرورة ان الاعلام من الناحية القانونية يصبح مكتملا بمجرد القيام به والادلاء بالبيانات والوثائق و لا يخول للسلطة الادارية التدخل الا بصفة محدودة تقتصر على التسجيل و المعاينة . غير ان الزام الفصل 14 من مجلة الصحافة صاحب المطبعة بوجوب مطالبة صاحب الدورية بالاستظهار بالوصل المسلم من قبل وزراة الداخلية قبل نشر اي دورية او نشرية ، فتح الباب امام السلطة الادارية للانحراف باجراء الاعلام لتحوله بمحض ارادتها الى ترخيص مسبق مما اتاح لها الحد ومن مصادرة الحرية ، اذ اصبحت السلطة الادارية ممثلة في وزارة الداخلية تمارس سلطة تقديرية واسعة في خصوص تحديد تسليم وصل الايداع من عدمه دون اي ضابط قانوني . ان استقرار الوضع خلال كامل السنوات الفارطة على تكريس العمل بقاعدة الآجال المفتوحة لتسليم وصل الاعلام و وجوب الاستظهار به لدى صاحب المطبعة ، غيرا طبيعة النظام القانوني لحرية الصحافة في تونس من نظام الاعلام المكرس للحرية الى نظام الترخيص المسبق دون سند قانوني سوى رغبة السلطة الادارية و النظام السياسي القائم في مراقبة التوجهات الفكرية و الايديولوجية لباعثي النشريات قبل اصدارها . اضافة الى اشكالية الايداع القانوني ، فان مجلة الصحافة بموجب احكام الفصل 2 و 8 قد اخضعت جميع المصنفات المكتوبة من كتب ونشريات دورية ومجلدات ورسوم و منقوشات مصورة و بطاقات بريدية مزينة بالرسوم و معلقات و خرائط جغرافية و نشريات وتقارير ومجلات فضلا عن التسجيلات الموسيقية والصوتية والمرئية والبرامج المعلوماتية التي توضع في متناول العموم لاجراء الايداع القانوني ، ولم تستثن من ذلك سوى المطبوعات الادارية و المدنية والتجارية و بطاقات الانتخاب و رسوم القيم المالية ، على ان يتم الايداع قبل عرض تلك المصنفات على العموم . ولئن كان اجراء الايداع القانوني من حيث المبدا اجراء مدعم للحرية ، يستهدف الحفاظ على التراث و توثيقه و صيانته من التلف بما يحفظ الذاكرة الجماعية للمجموعة الوطنية ، الا ان اجراء الايداع القانوني المنصوص عليه صلب مجلة الصحافة و الامر ع536دد المؤرخ في 8 جوان 1966 المنقح بالامر ع 828دد لسنة 1983 المؤرخ في 5 سبتمبر 1988 المتعلق بضبط الطرق العامة لتطبيق مجلة الصحافة ، فضلا عن طابعه العام و اتسامه بالشمولية المفرطة ، و تعدد النظائر المودعة و المصالح الادارية التي يتم لديها الايداع (وكالة الجمهورية المختصة ترابيا / وزارة الداخلية / كتابة الدولة للاعلام / وزارة الاعلام)، فانه يكشف في حقيقته عن رغبة في اخضاع جميع المصنفات الفكرية و الفنية الى الرقابة المسبقة . فبموجب الايداع القانوني اضحى بامكان السلطة الادارية ممثلة في وزارة الداخلية مراقبة مضمون المصنف قبل نشره للعموم مما صيّر الايداع القانوني الاجراء المكرس للحرية و الحافظ للذاكرة الجماعية وسيلة مراقبة مسبقة يتحدد بمقتضاها ما يتم الاذن بنشره للعموم من عدمه و اداة فعالة لحجز النشريات الموصوفة بتضمنها لاخبار من شأنها ان تعكر صفو النظام العام بموجب قرار يتخذه وزير الداخلية طبقا لاحكام الفصل 73 من مجلة الصحافة وتتبع اصحابها لاحقا امام المحاكم الجزائية بحجة ارتكابهم لجرائم الصحافة . وقد مثل الطابع الزجري لمجلة الصحافة التي تضمنت العديد من الاحكام الزجرية القاضية بعقوبات سالبة للحرية و بخطايا مالية، تجاوزت اكثر من نصف احكام المجلة، آلية قانونية ناجعة مكنت السلطة السياسية من معاقبة معارضيها والزج بهم في السجون واثقال كاهلهم بالغرامات المالية ، مما افرغ الساحة الاعلامية من طاقاتها المبدعة . واذا كان التنظيم الزجري للصحافة يقصد به جملة التدابير الزجرية و الردعية التي تجرم جملة من الافعال التي ترتكب اثناء ممارسة الحرية بهدف تنظيم عمل المؤسسات الاعلامية و حماية القطاع من كل ما من شأنه ان يحيد به عن اهدافها الاصلية من منع لاحتكار الصحف و اضفاء الشفافية على تسيير المؤسسات الصحفية و المحافظة على اخلاقيات المهنة من الاهداف الاساسية التي يسعى اليها كل تقنين لحرية الصحافة ، فان المتمعن في احكام مجلة الصحافة التونسية يلاحظ فضلا عن انتهاكها لمبدأ الحرية و الحد من ممارستها ، امعانها المفرط في التجريم مما جعلها قانونا زجريا بامتياز . فرغم محاولة النظام البائد تلميع صورته من هذه الناحية بحذف بعض الاحكام الزجرية من مجلة الصحافة و التنصيص عليها بالمجلة الجزائية بموجب القانون الاساسي ع43دد لسنة 2001 المؤرخ في 3 ماي 2001 ، فان العديد من الافعال المجرمة قد جاءت مخالفة لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ، ضرورة انه لم يتم تعريف و بيان الاركان القانونية تلك الجرائم مثل ثلب النظام العام و الاعتداء على الاخلاق الحميدة والحث على التباغض بين الاجناس و خرق قوانين البلاد و نشر افكار قائمة على الميز العنصري و التطرف الديني ... مما فتح الباب واسعا امام السلطة السياسية لتأويل تلك المفاهيم كما تشاء و استعمالها ضد معارضيها و الزج بهم في السجون . واذا كان ذلك هو الاطار القانوني الذي نظم ومازال ينظّم حرية الصحافة بعد ثورة الكرامة و الحرية التي تمثل قطعا مع الماضي الذي يروم الامتداد في المستقبل ، فان اللجنة الفرعية للاعلام و الاتصال السمعي و البصري المنبثقة عن الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة والاصلاح السياسي و الانتقال الديمقراطي قد شرعت منذ مدة في اعداد مشروع جديد لمجلة الصحافة. تمثلت اهم محاوره في الغاء العمل بنظام التصريح لدى وزارة الداخلية و تعويضه بالتصريح لدى السلطة القضائية مع اضفاء صبغة آلية على التصريح حتى لا يبقى النشر رهين تسلم الوصل . و تكريس حق الصحفي في الحصول على المعلومة من مصادرها و نشرها دون ضغوطات و ادراج احكام تتعلق بالشفافية المالية و بالتعددية للصحف الدورية خاصة فيما يتعلق بالسحب، واعادة النظر في طريقة توزيع الصحف الاجنبية و مراجعة اجراءات تتبع جرائم الصحافة بما يخول للمتضرر اثارة الدعوى العمومية و تخويل الجمعيات العاملة في مجال مناهضة جميع اشكال التمييز العرقي و الديني و الجنسي تتبع الجرائم المقترفة ضد فئة من الاشخاص على اساس انتمائهم الى دين او عرق او جنس معين ، فضلا عن ادراج احكام خاصة بالعملية الانتخابية و تجريم استعمال بيوت العبادة للدعاية السياسية . وقد اثار هذا المشروع الذي يعد مشروعا اوليا لا يزال في طور الدرس و البحث حفيظة الهيئة الوطنية المستقلة لاصلاح الاعلام والاتصال المحدثة بموجب المرسوم ع10دد المؤرخ في 2 مارس 2011 وجمعية الصحفيين التونسيين لعدم تشريكهم في رسم ملامح ذلك المشروع فضلا عن تحفظ بعض القضاة و رجال القانون عليه لما شابه من تعلق و استنساخ للتشريع الفرنسي و امعان في تكريس طابع زجري تجاوز ما هو منصوص عليه بالمجلة الحالية واهمال عديد المسائل الاساسية كضمان حق الصحفي في استقاء المعلومة و تنظيم الصحافة الالكترونية و القطاع السمعي و البصري . وبقطع النظر عما اثاره هذا المشروع من تحفظات فان الثابت اليوم ان حرية الصحافة في حاجة لدعم و حماية قانونية بما يسمح لها بلعب الدور المنوط بها كحارس عام للحريات الفردية و الجماعية و يسهم في خلق رأي عام وطني قادر على المشاركة الفعالة في الحياة العامة و البناء الديمقراطي . و هو أمر لا يمكن تحقيقه الا عبر اقرار نظام اجرائي لحرية الصحافة يرتكز على اقرار مبدأ الحرية دون اخضاع اصدار النشريات الدورية و المصنفات الفنية و الفكرية لاي موافقة حكومية مسبقة و رفع القيود عن تصدير و استيراد الصحف والمطبوعات و الاعتراف بحق التدفق الحر للمعلومات بما في ذلك المعلومات التي بحوزة الحكومة و الاقرار للصّحافيين بالحق في حماية مصادر معلوماتهم السرية ، خاصة المتعلقة بالصالح العام و مكافحة الفساد الرسمي و القطع مع الطابع الزجري و حماية اخلاقيات المهنة بتبني »ميثاق شرف الصّحافي« على غرار ما صادقت عليه جمعية الصّحافيين التونسيين بتاريخ 8 ماي 1983 وما أقره »مثياق الشرف« للجامعة الدولية للصّحافيين .