هل يمكن أن يتطور اهتمام الفنان بمجال ما حتى يصبح في حالة افتنان به ؟ ذلك ما ألحّ عليّ وأنا أتفحص أعمال الرسام رؤوف قارة في معرضه المستمرّ بورشته بمدينة قليبية. لم يتوقف حبه للبحر عند رسم زرقة الماء وسواد الأعماق وروعة النوارس وهي تراوغ الزبد للانفلات من الأمواج، أو حتى في رسم الفلك والقوارب والأشرعة والغرقى من الصيادين وغيرها، بل وصل به هذا الافتنان إلى حد البحث في مكنونات البحر واستخراج مخبآت الأعماق ليكوّن منها عشرات الحالات والأشكال والتماثيل الصغرى ولعل الأطرف في ذلك أن ذلك أوحى له بإنشاء أعمال يستلهم فيها تلك الحالات والأوضاع والأشكال، بحيث تحولت إلى رسومات تتراوح بين التشخيصي والتعبيري والسريالي أحيانا. هذه الرحلة الطويلة نسبيا في عوالم البحر أفرزت ألوانا من المواد والأفكار جسد فيها رؤوف قارة عديد الحالات التي يعيشها البحارة وساكنو البحر. ولم تزل تتفاعل في ذات الفنان لتولد منها أعمال ذات أحجام مختلفة تنبئ أول ما تنبئ عن ثراء في تجربة الفنان، وعن امتزاج بين المواد لتكوين العمل الواحد، بالإضافة إلى أنها تلفت الانتباه إلى المواد الخام المتعددة التي يحتضنها البحر، والتي يمكن الاستفادة منها في إنجاز الأعمال الفنية، ومنها خاصة المجسدة خصوصيات البحر، ولكنها لا تزال في طور الاكتشاف ومحاولات التوظيف. ففي ورشة رؤوف قارة ، لا يقتصر الأمر على وجود اللوحات والدهون ومختلف أدوات الرسم، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى وجود الأسماك والجرار والطيور المتيبسة وقطع السيراميك وغيرها مما يشكل مواد الانجاز الأفكار الإبداعية. العلب والقوارير والفرشاة والأوعية وقطع اللوح والقماش والورق وحتى مزق القماش وأواني البلاستيك كلها تتحاور على طاولات تخبرك أنك على وشك أن يبدأ العمل، ودليلك على ذلك تلك القماشة البيضاء المشحوطة على المحمل. وبياضها يحمل من الدلالات الكثير، أهمها أنها مسقط لآخر ما يكون الفنان قد فكر في انجازه في تلك اللحظة، ذلك أن اكتمال تلك اللوحة يؤكده انتصاب قماشة أخرى بيضاء لتنفيذ العمل القادم. ولكن في ورشة رؤوف قارة لا يوصل السياق إلى ذات النتيجة حيث تفاجئ أكثر من لوحة هي بصدد الانجاز، سواء على القماشة أو على اللوح أو الورق أو سواها ؛ منها التي تحمل خطوطا بقلم الرصاص وأخرى يجسد عليها عبثا لونيا من إفرازاته أن يصبح عملا فنيا يحمل من الرؤى والدلالات والخلفيات الفكرية الكثير. وفي ركن ما خلف المحمل ينتصب ألبوم الأعمال المنجزة وتلك التي في حال اكتمال وهي لم توضع في أطر بعد. إلى جانب قصاصات من الورق المقوى، منها ما رُسمت عليه أفكار وحالات، ومنها ما لا يزال بياضا، وبعضها عمل فيها المقص ليتحول إلى مؤطرات لبعض الأعمال. في هذا الألبوم فد تعترضك أعمال في تمام الروعة من حيث تقنياتها وتوزيع الألوان فيها أو حتى من حيث كيفية التخطيط بالحبر الأسود. والأكثر من ذلك لفتا للانتباه، مواضيعها التي تتراوح بين حالات إزاء مصير هذا الكون أمام ما يجري فيه. ولكن الطاغي على هذه الفترة، سواء في ما يعرضه من أعمال او ما يحتويه الألبوم، هو ما يستلهمه من مستخرجات أعماق البحر التي كثيرا ما يصادفك بعض شخوصها فاقدة لرؤوسها، ولكنها في حركة وتأهب وربما في حالة صراع مع الطبيعة وأمواج البحر خاصة. وفي الورشة أيضا تعترضك، هنا وهناك، أعمال حجرية وألواح من السيراميك وكثير من نفايات البحر، إضافة إلى بعض رسومات والده المرحوم محمود قارة. لا يمكن الفصل بين الورشة التي تتسع إلى قاعات فسيحة ولكنها ضاقت حد الاكتظاظ بمحتوياتها، والمعرض الذي ضم 80 عملا فنيا وتوزعت على مدارج المبنى منذ ولوجه من الأرض حتى الطابق العلوي، إذ لا تعدم وجود أعمال هنا او هناك ملقاة على الأرض تتقاسم اهتمام الزائر مع ما عُلق على الجدران والمعرض يضم أعمالا من مختلف فترات تجربة رؤوف قارة، وفيه يكتشف الزائر براعة هذا الفنان في تحويل اللطخات إلى أشكال وحالات وتعبيرات إيحائية غالبا. كما لا نعدم أعمالا تشخيصية وأخرى تجريدية، ولكنها جميعا تعكس روح الإبداع وافتنان الفنان بروعة البحر وحالاته المتناقضة، وبالإنسان ضمن حالاته المتغيرة.