كما لم يكن أحد يتصور أنّ بلدة صغيرة منسية شبه جزائرية وشبه تونسيّة تشعل نارا لا تنخمد. وتغير تاريخ الأقطار العربية اذ لم يكن متوقعا أن يكون أبناء تلك الأرض ثوريين حد الدم.لن يتوقع أحد أن أولاد تالة درويشيّين حتى النخاع .فرغم كل ما يحدث من فوضى وتدمير ودم. هاهم يصرخون عاليا »على الأرض ما يستحق الحياة«. كما اجتمعوا أيام الثورة ووضعوا اليد في اليد، والكلمة مع الكلمة....حبا في تراب المدينة وشوقا لرائحة الخبز مع الحرية صباحا يمتزجان ليكون الصباح أجمل.هاهم يجتمعون، على اختلاف صناعتهم ومهاراتهم وفنونهم ورغم كل محاولات مدير دار الثقافة أكبر أحد أذناب التجمّع اللاديمقراطي (لا اعرف إلى الآن لم ظلّ هناك يتحكم بدار الثقافة التي حوّلها إلى اسطبل للتفاهات والترهات التي أرهقت مثقفي المنطقة؟لماذا تسكت عنه الجهات المختصة رغم أن رواد دار الثقافة النوعيين طالبوا برحيلهم؟الرجل من فرط وقاحته يتعامل مع هذه الدار كإرث تركه له الأجداد). اجتمعوا في »صوت الكرامة« هكذا سُميّ عملهم الذي أرادوه برائحة الأرض بعد المطر وبنكهة التين الشوكي وبلذة ماء ينابيع البلدة.ولا أخفيكم سرا أني تساءلت ماذا يمكن أن يفعل هؤلاء معا :أستاذ الرقص التعبيري الذي أبهر العالم بلوحاته والمسكوت عنه في تونس طبعا بحجة أنه »يرقص« ونحن ما أحوجنا إلى أجساد تعبر عن قضية حقيقة وعن فكرة مجردة في حركة فنيّة, ورجل المسرح الذي يزرع الضحكة في أكثر لحظاتنا حاجة إلى البكاء.والمغني والمغنية من الشعبي الى الراب، والرسام والنحات والروائي والشاعر وطبعا هنا لا أتحدث عن أفراد بقدر ما أتحدث عن مجموعات من الفراغ حاولت البقاء واقفة كالأشجار. يجتمعون في عمل سأسميه ان سمحت لي الجماعة فسيفساء...تلتقي فيها الفنون وتتعانق لتحكي لنا تاريخ البلدة، قبيل الثورة وأثناءها وأحلامهم بعدها. يصنعون من الحياة اليومية بداية يلتقون بها مع الجمهور في تأكيد على دور الحكواتي في البلدة من جهة وعلى إطلاعهم على أهمية دور الراوي في أغلب الحضارات وخاصة في المسرح الإغريقي تصاحب الراوي موسيقى اختارها التقني المسؤول عن الموسيقى بعناية تامة وعيا منه بأهمية هذه الأخيرة في شد المشاهد على امتداد الركح تخرج مجموعة الرقص ليرسم بأجسادها الطيعة بداية الوجع في لوحات متناسقة ,يكتظ الركح بمظاهر الحياة اليومية والاجتماعية وفكاهة الأهالي وسماحة أرواحهم مع دمائهم الساخنة وثوريتهم التي تصل بهم الى التضحية بفلذات أكبادهم ..يحكون للذي لا يعرف ما حدث يوم تسعة وعشرة جانفي ما حدث في تالة .الركح لا يهدأ غناء وتمثيل ولوحات استعراضية للتاريخ..مرارة وشجاعة.بكاء وضحك .يختمون بلوحة تضم الجميع وفاء لشهدائهم الستة وأكثر وفاءا لتونس ويبدو المشهد الأخير رمزيا وقاتلا جماليا وايديولوجيا.فالمجموعة رغم اختلاف ايديولوجياتها وتركيبتها النفسية ومواقعها الاجتماعية تكاتفت وتعانقت لتقول أنّ ليس الفن وحده يجمعهم بل حب هذه الأرض :هذا الوطن الذي اسمه تونس والذي سيظل دوما وطننا الحر ببياضه وحمرته وأن لا مجال للون ثالث قد يفسد جماله. وبقدر ما كان العمل يحاول ان يكون متكاملا الا انّه ككل عمل لا يخلو منه بعض النقائص، فبقدر ما كانت الإضاءة خادمة لكل المشاهد كانت الموسيقى متأخرة والصدى يملأ القاعة ويبدو أن الأمر يعود لعدم المعرفة الجيدة بالقاعة خاصة وانّ الجماعة أرادوا ان يكون كل العمل محليّا رغم جهد »وسام« الجبار في السيطرة على آلته .كما كانت المقاطع الشعرية وإحدى الأغنيات غير موظفة في العمل الذي اتبع تسلسلا تاريخيا معينا.لذلك انقسمت أراء المشاهدين إلى منبهرين بالعمل تحت وطأة العاطفة وجمال الفكرة وبين المعجبين بتحفظ على بعض الأخطاء التقنية تحت وطأة النقد طبعا ومنتبهين إلى الإسقاطات المذكورة آنفا. وإجمالا مثل هذا العمل يبقى سابقة في تونس ومن بلدة في حجم إمكانات تالة المادية المتواضعة وجميلا في حجم مبدعيها وأبنائها. هاهي تالة مرة أخرى تقدم درسا للذين يدعّون حب الوطن..للذين يجزمون أن لا أحد يحب البلاد مثلهم..أولاد تالة في ركح ابن رشيق في منتصف نيسان...يقولون »نحن هنا« يرددون إنّنا لا ننسى وإنّ على هذه الأرض، وفوق تراب تونس الذي لا نستطيع ان نشفى من حبها، ما يستحق الحياة ورغم كل النواقص يبقى هذا العمل محاولة في كشف وسر الحياة وشرفها.