ممّا زهّدني في أرض أندلس ألقاب معتصم و معتضد ألقاب سلطنة في غير مملكة كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد (ابن شرف) انتظم عشيّة الأربعاء 20 أفريل 2011 مجلس علميّ أثّثه »منتدى14 جانفي للمطارحات الفكريّة« الذي بادرت بإحداثه ثلّة من أساتذة كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس، هذا المعلم الجامعيّ الذّي ما فتئ يتقدّم بالمعرفة بفضل ما ينعقد فيه من ندوات وملتقيات وما ينتظم من وحدات بحث في اللّغات والإنسانيّات. وفي بداية هذه الجلسة التّي جمعت الإفادة إلى المتعة والتّواصل في أسمى معانيه بين المدرّسين والطّلبة وسائر الحضور، قدّم الأستاذ منصف القابسي (قسم علم الإجتماعي) بسطة ضافية وإن كانت مختصرة حول المنتدى ومؤسّسيه وبرنامج عمله مشدّدا على أنّه سيسعى إلى الإشعاع على المحيط بحقّ وهو مستعدّ للتّنقل إلى جهات أخرى متى طلب إليه ذلك للمحاضرة وتبادل الرّأي في شتّى القضايا التي تهمّ مجتمعنا في هذه الفترة الانتقاليّة الحسّاسة وما سيتبعها من أحداث لعلّ أوّلها وأكثرها أهميّة وتأثيرا هو المجلس التّأسيسي المزمع انتخابه يوم 24 جويلية القادم و نبّه رئيس الجلسة إلى إيمان المنتدى وأصحابه بالإفادة من التّجارب المتنوّعة، و قال: »سنحاول تدوين الحوارات والأنشطة ونشرها وستكون الجلسات مبدئيّا نصف شهريّة«. وانطوى المجلس على محاضرتين قيّمتين ألقى أولاهما الأستاذ عبد الواحد مكني، أستاذ التّاريخ المعاصر بالكليّة و كان موضوعها المجلس التأسيسي بالأمس أمّا الثّانية فتفضّل بتقديمها الأستاذ جمال الجمني (اختصاص حضارة: قسم الإنجليزيّة) حول »نشأة الفكر الدّستوري في الولايات المتّحدة الأمريكيّة«. ومن رأينا أنّ الغاية الأساسيّة التي هدفت إليها هي اطلاعنا على تجارب رائدة في مجال الدّساتير باعتبار هذه الدّولة الحديثة صاحبة أوّل دستور مكتوب بتاريخ 1781 حسب ما فهمنا وهو أعلى سلطة في البلاد، وهو الحكم بين الأفراد والمجموعات والسّلطات منذ اختلفت وهو الضّامن عدم الرّجوع إلى الوراء أي إلى الحكم الاستبدادي وفق المفهوم الأمريكي، وهو التّبعيّة لإنقلترا وإلى الملك جورج III تحديدا، وسنتوقّف أكثر في هذا المقال الموجز عند المحاضرة الأولى لما حوته من معطيات كمّية و نوعيّة بالغة الأهميّة حول المجلس التأسيسي انطلاقا من استشراف المستقبل على ضوء النّظر في الماضي، و نبّه المحاضر بكامل الوضوح إلى أنّ عدّة أخطاء قد ارتكبت في »المجلس القومي التّأسيسي« بدأت تتكرّر في المرحلة الرّاهنة، وهذا مدعاة من وجهة نظره إلى التّشاؤم. ومن بين هذه الأخطاء ما نصّ عليه »القانون الانتخابي« المقترح من الهيئة العليا لمكاسب الثورة والإصلاح السّياسيّ والانتقال الدّيمقراطي« من أنّ الانتخاب سيكون على القوائم و دون مزج: لا إمساك و لا تشطيب، و هكذا نكون قد عدنا إلى ماكان بالأمس. وتميّزت فترة 1956 ما بعد الاستقلال بأجواء صعبة، فقد دارت الانتخابات في أجواء صعبة من »فتنة اليوسفيّة« والعبارة له والعهدة على الرّاوي مثلما يقال، فكان التّوتّر سيّد الموقف، زد على الانفلات الأمنيّ غير الملائم للانتخابات. و كانت غاية فرنسا واضحة : إفشال الوضع الأمنيّ لتبيان أنّ الثّورة فاشلة. أمّا اليوسفيّون (اتّجاه قومي في المعنى العربيّ لا التّونسيّ المحلّي) فدعوا إلى مقاطعة الانتخابات، لكنّها تمّت مع ذلك بمواصفات معيّنة أهمّها في عجالة: أ) الانتخاب حسب القوائم (1 عن الشّروق 26 أفريل 2011) ص 4) مع التّخلي عن »العروشيّة« أو »التّقسيم العروشي« بعبارة أدقّ. ب) المنتخبون: الذّكور فقط ممّن بلغوا 21 سنة فما فوق وهذا يعني حرمان النّساء من الانتخابات ممّا يعني تناقضا ظاهرا مع تمرير مجلّة الأحوال الشّخصيّة على غير مسلك »المجلس القومي التّأسيسيّ (Assemblée Nationale ) وهو ترجمة حرفيّة للتّسمية الفرنسيّة تعكس الرؤية (Constituante) السّائدة لدى بورقيبة وأنصاره ومن بينهم علي البلهوان (ت 1958) في كتيبة »نحن أمّة«. و تعليل حرمان النّساء من الانتخاب هو فهم بورقيبة لكون الأغلبيّة آنئذ كانت ضدّ حريّة المرأة. ج) حق التّرشّح: أن يكون المترشّح ممّن يحسنون القراءة والكتابة البالغين 30 سنة من العمر وارتأى بعضهم في الشّرط الأوّل غاية محدّدة هي إبعاد المقاومين (الفلاّقة) باعتبار أغلبهم من غير المتعلّمين. د) النتائج (108/108): للمجموعة »القوميّة« المتكوّنة من الحزب الدّستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة والاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل واتّحاد الصّناعة و التّجارة و اتّحاد الفلاّحين و كرّست النتائج 98 ... الدّيمقراطيّة الموزية، ممّا يعكس نظاما انتخابيّا لا يشجّع على الدّيمقراطيّة وهو ما نخشى أن يتكرّر اليوم للاشتراك في جملة من المعطيات الموضوعيّة حسب الأستاذ المحاضر. ه ) المنتخبون 24٪ تعليم عال، 19٪ تعليم ثانوي، حوالي 40٪ تعليم ابتدائي، كشرائح اجتماعيّة 19٪: فلاّحون 18٪، محامون، وهو ما يعكس مغالطة: استبعاد فئات أخرى كالجامعيّين الذين أسهموا في الثّورة إن بشكل مباشر وإن بصورة غير مباشرة فما أشبه اليوم بالبارحة! وقد استبعد بورقيبة 3 شخصيّات هي على التّوالي: محمود الماطري الذّي دعا إلى التّوازن بين السّلطات و أحمد بن صالح الذّي عيّن على رأس وزارة الصحّة (وزارة غير سياديّة) أمّا ثالثهم وهو علي البلهوان المعروف بتاريخه النضالي منذ 1938 فقد رحل وهذا يعني أنّ ما يقع شيء، وبورقيبة يحدّد كل شيء. وهكذا أفضى الدّستور إلى نظام رئاسويّ أهمّ ملامحه: أوّلا: هيمنة السّلطة التّنفيذية على السلطتين الأخريين: التّشريعية والقضائيّة ممّا يجنب اختلافا فاضحا بين السّلطات الثّلاث. ثانيا: كثرة التّنقيحات المكرّسة للحكم الفرديّ و أهمّها ما عرف ب: »الرّئاسة مدى الحياة« في حين أنّ الدّستور الأمريكي عرف 26 تنقيحا فقط منذ صدوره عام 1781 م وأوّل تنقيح هو ميثاق الحدود. ولم يترشّح أي رئيس أمريكي لأكثر من فترتين في تاريخ الولايات المتّحدة باستثناء روزفلت وأحيل رئيسان على القضاء كاد أوّلهما يعزل لولا صوت واحد، أمّا الثّاني فتعرفونه وهو نيكسون صاحب »فضيحة واترغايت« عام 19 م. وهكذا يتقدّم الغرب خطوات إلى الأمام على درب الدّيمقراطيّة، أمّا نحن فنعيد إنتاج الأخطاء السّابقة، وممّا يزيد الطّين بلّة أمران لهما ثالث هما: المحاصصة السّياسيّة (المؤدّية شئنا أم أبينا إلى الطّائفية المتعارضة بطبيعتها مع الرّوح الدّيمقراطيّة) التّدخّلات الخارجيّة الظّاهرة والخفيّة ولا سيّما من فرنساوالولايات المتّحدة. فما أحوجنا إذن إلى مفكّرين (penseurs) يحمون الدّيمقراطيّة جنبا إلى جنب مع الحقوقيّين. ❊ ملاحظات ختاميّة: »الخواتم ألصق بالأسماع« ابن قيبة. لئن كان الدّستور التّونسي الصّادر في جوان 1959 والذّي صاغه المجلس »القوميّ« التّأسيسي من أفضل الدّساتير في العالم، فإنّ ممّا أساء إليه وجعله أقل درجة من بعض القوانين والحال أنّه القانون الأعلى نظريّا ما ورد في آخر فصله الثّامن الخاص بالحرّيات الفرديّة و العامّة ، نعني عبارة »في إطار ما يحدّده القانون« حتّى أصبحت وزارة الدّاخليّة سيّدة الموقف في هذا المجال على إمتداد عقود لا سيّما في تقديم تأشيرات الأحزاب والمنظّمات والجمعيّات. أضف إلى ما سبق ذكره التّنقيح الخاص بالرّئاسة مدى الحياة في عهد بورقيبة، وهو ما مهّد الطريق لتنقيحات أخرى سيّئة السّمعة أهمّها فسح مجال التّرشّح لبن علي مرّة ثالثة، وهي شروخ ذات بال في نظرنا لكونها ضيّقت على الحرّيات الفرديّة والجماعيّة ووقفت حاجزا دون الدّيمقراطيّة والانتقال الحقيقيّ للسّلطة الذي لا يكون إلاّ بتكريس التّداول عليها لكنّ الهاجس الذي يؤرقنا و غيرنا هذه الأيّام هو التّالي: هل إنّ الدّستور الجديد الذّي سيصوغه المجلس التّأسيسي المزمع انتخابه في 24 جويلية القادم سيكون حسب التّوازنات السّياسيّة الحاليّة وما يعتريها من تحالفات أفضل من دستور 1959 هذا من جانب، و من جانب آخر يجدر بنا أن نطرح تساؤلا آخر ذا بال في هذه الإطار: هل يرجع استبعاد بعض الفئات كالجامعيّين مثلا إلى مسألة التحزّب لكون كثيرين منهم من المستقلّين أم إلى أسباب أخرى كالتّفاوت في مستويات تمثّل الواقع السّياسي في علاقته بلا علائقه بالجوانب القانونيّة ذات الإهتمام والأهميّة في مثل هذه المراحل التّاريخية الانتقاليّة بالغة الحساسيّة. وثمّة نقطة أخرى استرعت انتباهي في مداخلة الأستاذ عبد الواحد المكني هي استخدامه عبارة »الفتنة اليوسفيّة« ذات الخلفيّة المناصرة للشقّ الآخر: البورقيبيّة في حين أنّ الأسلم - من وجهة نظري و هذا لا يلزم أحدا غيري هو استعمال عبارة »الأزمة اليوسفيّة« في سياق البحث عن الموضوعيّة التّاريخيّة و السّعي إليها ما وسعنا ذلك. ومن المعلومات ذات الفائدة الجمّة ما أشار إليه الباحث من سجال في خصوص الفصل الأوّل من الدّستور آنذاك بين قائل ب »دولة ذات سيادة لغتها العربيّة ودينها الإسلام« ومائل نحو التّنصيص على »دولة إسلاميّة« بما تعنيه من توجّه ديني، أو »دولة عربيّة« بما تحمله من دلالة قوميّة والحال أنّ هذا المجلس جمع إلى الإفادة في كلتا المحاضرتين المتعة والنّقاش بشكل يبعث على التّفاؤل بالمستقبل. ❊ باحث في اللّسانيّات ومدرس سابق بالكليّة طريقة الاقتراع هذه نظام معقّد و سيعطي من جهة ثانية دورا للأحزاب التي لا تعكس حجمها في الواقع ، فضلا عن أنّه لا يتناسب مع أهميّة هذا الرّهان: لأنّ للمجلس التأسيسي المزمع انتخابه في 24 جويلية المقبل مهمّة واحدة و محدّدة، فمن المعروف أنّه ليس مجلسا تشريعيّا و إن كان سيقوم بهذه المهمّة مؤقّتا (بصفة مؤقّتة، وقتيّة) وبناءا عليه يقع إعطاء الأولويّة للكفاءات مبدئيّا ونظام القوائم لا يخدم هذه الغاية النّبيلة.