بتاريخ 5 مارس 2011 وفي ركن يوميات مهاجر بالصفحة 29 من جريدة الشعب نُشر لي مقال تحت عنوان: باريس الصغيرة وهي مدينة المتلوي التي كان يطلق عليها هذا الاسم في الماضي لجمالها وطيبة العيش فيها، وقد كتبت في هذا المقال عن »الجريدية« وغيرهم والذين استقبلتهم هذه المدينة منذ اكثر من قرن، وعن شركة فسفاط قفصة اC.P.Gب التي تأسست سنة 1897 والتي مات الالاف من عمالها تحت دواميسها وعن الامتيازات التي كان يتمتع بها المنجميون حسبما كانت تؤكده أجيال ما قبل الاستقلال، والذين لم يجنوا بعد ذلك سوى البؤس والحرمان والبطالة لأبنائهم وأشقائهم وأقاربهم من اصحاب الشهائد وغيرهم... حتى جاءت ثورة 14 جانفي المجيدة التي زرع بذورها وأشعل نيران فتيلها انتفاضة ابناء الحوض المنجمي سنة 2008... ثم القيام بالاعتصامات... ووعود ادارة اC.P.Gب بالانتدابات، اما بقية الاحداث فقد عشناها جميعا الى ان حدث ما كان متوقّعا وهي الاحداث الأليمة والمحزنة التي وقعت ايام 3 و 4 و 5 من شهر جوان الجاري. أذكر ان والدي رحمه الله حدثني كيف غادر مسقط رأسه نفطة في ثلاثينات القرن الماضي بعد ان ملّ العمل كخمّاس بغابات النخيل ليستقر به المقام كغيره من النازحين بأقرب وهي مدينة المتلوي التي قضى بها بضعة اشهر، ثم أم العرايس، فالمظيلة فقفصة، ولأنهم حدثوه عن صفاقس وتوفر الشغل بها فقد ترك مدن الحوض المنجمي لينتقل الى عاصة الجنوب ويستقر بها ويتزوج، وينجب أطفالا ومنهم العبد لله كاتب هذه السطور (مع المعذرة للقراء، فليست هذه نبذة من حياتي الخاصة) ولكن هكذا كان يفعل الآخرون في تلك الفترة وما بعدها حيث كانوا يتخلون تدريجيا عن أنشطتهم التقليدية ليلتحقوا بالعمل المنجمي، فكان من الطبيعي ان يلجأ الرأسمال الاجنبي الى استجلاب العمالة من مدن الجريد وغيرها، وحتى من المغرب والجزائر وليبيا... لتتجاوز الاحياء بحسب العروش من »أولاد بويحيى« الى »أولاد بوسلامة« الى »أولاد معمّر« الى »أولاد سيدي عبيد« وها هو حي »الطرابلسية« كل سكانه أو جلهم »جريدية« الى يوم الناس هذا. كان من بين هموم الزعيم الحبيب بورقيبة في جهاده الأكبر. نزع نعرة العروشية من العقول حيث كان في خطبه وعندما يذكر اسم عرش او عروش معينة، الا ويضيف نعت »السخط« تعبيرا عن الامتعاض والتبرم وقد جاء في خطابه بتاريخ 8 جانفي 1956 بالرقاب ما يلي: »أجتمع للمرة الثانية بفريق الهمامة وعروشها في يومين متتاليين، فقد التقيت بهم أمس في سيدي بوزيد وها أنا اليوم معكم في الرقاب وستتواصل لقاءاتي بهذه العروش في أماكن أخرى...«. وكان بورقيبة يجاهد ضد التخلف والجهل والمرض وكانت غايته وهدفه جعل الأمة التونسية أمة واحدة ذلك انه كان قد وظّف اثناء معركة التحرير المعطى القبلي ضد الاحتلال الفرنسي وصار بعد الاستقلال يتحدث عن النعرات العروشية باعتبارها »نزوة نوميدية« ملمّحًا الى ما تجره الصراعات الداخلية والعروشية من عواقب وخيمة. رحمك الله أيها المجاهد الأكبر وطيب الله ثراك فما حدث في المتلوي ليس بسبب العروشية، بل ان هناك أيادٍ أخرى خبيثة وراءها وستثبت الايام ذلك السبب هو الظلم والتهميش، فالجريدية وأولاد بويحيي والقفاصة وأولاد سلامة... وكذلك الفراشيش والهمامة و »أولاد... وأولاد بو...«كلهم تجمع بينهم الافراح والمسرات والاحزان والمآسي، فهم جيران واخوة واصهار... وهو ما لا يروق للأعداء الذين سيكلفهم ذلك غاليا... فنم هانئا يا حبيب.