أوردابن عبد ربه في العقد الفريد أنه (لما أنزل الله تعالى آدم عليه السلام الى الأرض أتاه جبريل عليه السلام فقال له يا آدم، إن الله عز وجل قد حباك بثلاث خصال لتختار واحدة، وتتخلى عن الاثنتين، قال ما من؟ قال : الحياء والدين والعقل، قال آدم : اللهم إني تخيرت العقل، فقال جبريل للحياء والدين: ارتفعا، قالا: لن نرتفع، قال جبريل أعصيتما؟ قالا: لا ولكنا أمرنا ألا نفارق العقل حيث كان. وما من شك في أننا اذا فتشنا عن الحقائق في مثل هذا الخبر، لا نجد سوى ذلك البروز لحقيقة ارتباط الدين بالعقل، تلك الحقيقة التي ضرب لها الاسلام مثالا رائعا، بدت واضحة في ذلك التآخي بين الدين والعقل، ففي القرآن الكريم ألفاطٌ كثيرة تبين قيمة العقل، وتحضُ على استخدامه، وفيه دعوة صريحة الى التأمل والتفكير في مخلوقات الله تعالى، تلك الدعوة الى أن تحققت غدا المسلم عارفا بأوامر ربه متبعا لها. 1) النظرية: أ العقل من وجهة نظر العلماء: يظن د. عبد الحليم محمود أو أولى المحاولات العقلية في الاسلام كانت عندما أراد نفر من المسلمين ان يتحدث في مسألة القدر فنهاهم الرسول (ص) ولما سئل عن الروح، نزلت الآية الكريمة »ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي« ثم ينتهي الباحث الى القول : »غير ان أهم محاولة عقلية كانت على يد واصل من عطاء 131 ه وعمر بن عبيد 144 ه . ويفهم من هذا القول ان الحركة العقلية في الاسلام بدأت بتلك المحاولات والمذكور آنفا، ثم بلغت ذروتها على يد واصل وعمر بن عبيد، أي رد الفصل كله في نشوء وتطور هذه الحركة الى المعتزلة! وما يقع في الوهم أن هذه المحاولات مهمة في بابها لكنها لا تمثل حركة العقل ذي الطابع الاسلامي. فضلا عن كون هذه المحاولات المذكورة تدخل في باب وظيفة العقل أكثر منها في ماهيته وطبيعته بمعنى أنها لا تبحث في العقل نفسه، وهذا أمر يختلف عن مسألة البحث العقلي التي ردها كثير من الباحثين الى المعتزلة، مع ان الدعوة الى البحث العقلي قد تجلت في القرآن الكريم قبل كلّ من بحث وفكّر. إن الأسس النظرية للعقل هي تلك التي حاولت البحث في ماهية العقل نفسه وفي طبيعة تكوينه، فهذه الابحاث تكوّن في الحقيقة الأصول الفكرية لنظرية العقل في الاسلام، وهذه مسألة برزت بوضوح في نتاج المفكرين في وقت متأخر نسبيا، وربما كان ذلك في العصر العباسي حيث تمخضت حركة التصارع بين الفكر المترجم والفكر العربي الاسلامي عن وعي دفع كثيرا من العلماء الى بعث اللغة والتراث حفاظا على شخصية الأمة، وحفظا للغة القرآن الكريم خوفا من اللحن الذي شاعت ظواهره على الألسنة امتدت أطراف دولة الاسلام، ودخلت في دين الله شعوب ذات حضارات عريقة في القدم. وفي ضوء ما استجد في حياة العرب المسلمين من ظواهر جديدة في هذا العصر، خصوصا تلك التي تتصل بالفلسفات والأفكار المترجمة التي ترفع من شأن العقل بوصفه وسيلة لتحصيل المعرفة كَثُرَ التساؤل عن ماهية العقل وطبيعة تكوينه وأين محله من العقيدة، وأين يبلغ بفكره، ولعل ابرز ما يصور لنا ذلك قول أبي حيان التوحيدي الذي يسوق فيه جملة من الأسئلة الدالة على شغف الناس بمعرفة كينونة العقل. يقول التوحيدي »ما تأثير العقل، وما حكمه، وما غايته وما يناله، وما هو أولا وما حدّه وما حقيقته، ومن المججوج به، وهل يستقل بنفسه، وما حكم من عدمه، وما ميزه من منحه وأنعم عليه به، وما عوض من حرمه واقتطع عنه، والى أين يبلغ في البحث والعرفان، وهل له في الأزل استقلال، وهل له في الآخر استقرار، وما سبب تموجه وما يمر به وعاقبته، وما نسبته الى العدد، وما تعلقه بالحق واين يصيب التكليف، وكيف اطراد الثواب والعقاب على صاحبه، والمدح والذم على الموسوم به؟ وعلى هذا الأساس بدأ التساول عن حد العقل من أولى الخطوات التي رمت الى تحديده والمقصود منه، ولا شك بعد هذا العرض الوجيز في ان تلخيص أبعاد نظرية العقل في الاسلام تستلزم ذكر جزء من الآراء التي تصب في هذه المسألة، فالاحاطة بهذه الآراء جميعا تعسر على هذا البحث ولذا نكتفي بالقول إن آراء العلماء المسلمين تتفق على ان العقل إنما هو غريرة وضعها الله في خلقه ولم يطلعهم عليها، لهذا فالعقل عندهم معدوم الماهيه فهو لا يوصف بجسم أو طول ولا يعرف بطعم أو شم ولا حسّ ولا لون ولا يعرف الا بفعاله، يقول المحاسبي: (العقل غريزة جعلها الله عز وجل في الممتحنين من عباده، وأقام به على البالغين للحكم والحجة وأتاهم وخاطب من قبل عقولهم ووعد وتوعد وأمر ونهى وحضَّ، فهو غريزة لا يعرف الا بفعاله) ويمضي الجويني شاملا أبعاد نظرية العقل بقوله: (غريزة يتأتى بها درك العلوم وليست فيه) وهذا يؤكد ما ذهب اليه مفكرو الاسلام الذين أكدوا ان العقل معرفة بحد ذاته، وهذه القضية وقف عندها المحاسبي طويلا حين قال: (زعم قوم ان العقل معرفة نظمها الله ووضعها في عباده، يزيد ويتسع بالعلم المكتسب الدال على المنافع والمضار والذي عندنا انه غريزة، والمعرفة تكون عنه، فالجنون او الحمق لا يسمى نكرة، لأنه لو كان العقل هو المعرفة لَسُمِّيَ الجنون نكرة والحمق نكرة لأن النكرة ضد المعرفة والجمل ضد العقل). وهذا الرأي يختلف عن آراء من جعل الغريزة بجانب المعرفة، أقصد قدامة بن جعفر في قوله: (العقل غريزة مع الخبرة والتجربة) أو بتعبير آخر ايضا: (العقل موهوب ومكتسب، فالموهوب ما جعله الله جِبِلّةً في حلقه، والمكتسب ما أفاده الانسان بالتجربة والعبر، ويميل الماوردي الى هذا الرأي في قوله: (واعلم ان بالعقل تعرف حقائق الأمور، ويفضل بين الحسنات والسيئات، وقد ينقسم الى قسمين: عريزي ومكتسب) ويمكن ان نخلص الى القول: إن الرؤية الخاصة بالعقل تقوم على الأسس الآتية: 1) إن خلاصة رأي العلماء في العقل مع الاشارة الى الاختلافات الجزئية في بعض المسائل تفيد انه معدوم الماهية والوصف، فهو غريزة جعلها الله في العباد ثم أضيفت اليها الخبرة والتجربة. 2) إن العقل ليس بجوهر ولا من الأعراض، لأن الأعراض متماثلة، هذا من جهه ومن جهة ثانية ان الجواهر يصح قيامها بذاتها، فلو كان العقل جوهرا لجاز ان يكون هناك عقل دون عاقل، أو جسم دون عقل، وهذا ممتنع. 3) إن العقل كونه غريزة مرتبط بالشريعة والوحي متعلق بالتكليف، وجهةٌ تعلقه بالوحي واضحة من حيث نطاق عمله المحدود خصوصا في المسائل الغيبية فالعقل في حاجة الى الوحي لأنه في مسائل الغيب لا يأتي الا بظنون غير يقينة. 4) إن العمل قائم على الحدس أكثر من قيامه على الاستدلال، لأنه يميز بين الخير والشر تلقائيا. 5) العقل لا يدرك الاشياء على ما هي عليه من حقائق، لأن الادراك في صفات الحي، لهذا لا يصح ان يكون هو المعرفة، والصوابُ ان العقل هو العلم بالمدركات، والمدركات نوعان: أحدهما ما وقع عن إدراك الحس، والثاني ما كان متبدأ من النفوس. 6) العقل ليس فضيلة في ذاته لأن الفضائل هيئات متوسطة بين فضيلتين ناقصتين، كما أن الخير تتوسطه رذيلتان فما جاز التوسط خرج عن حدّ الفضيلة، والتوسط هو فضل كقول الرسول (ص) (خير الأمور أوسطها). ب) العقل من وجهة نظر المتكلمين: صدرت آراء المتكلمين في العقل بعد تأثر هم الواضح بالفلسفة اليونانية على نحو خاص، ونستشف ذلك من تعريف أبي سليمان المنطقي للعقل في قوله: (اسم العقل يدل على معانٍ، وتنقسم تلك المعاني الى أقسام بحسب ما ينقسم كل ذي عقل، وذلك ان له ابتداء ووسطا وانتهاءً، فأحدهم وهو بمعنى الابتداء بالطبع وهو العقل الفعال، وهو في نسبة الفاعل والثاني بحسب الانتهاء، وهو العقل الانساني ويسمى هيولانيا وهو في نسبة المفعول والثالث بحسب الوسط وهو العقل المستفاد وهو في نسبة الفعل والعقل الانساني الذي هو في نسبة المفعول هو في حيز القوة التي تحتاج الى ان تخرج الفعل، وحَدّهُ ان الشيء الذي من شأن الجزء منه ان يصير كُلاّ ومعناه ان في قوة كل واحد من العقول الجزئية ان يدرك جميع المعقولات التي من شأنها ان تدرك، ولما كان الذي بالقوة يحتاج الى شيء موجود بالفعل كان الشيء هو العقل الفعّال. وهذا التعريف يكاد يكون نقلا حرفيا عن أرسطو في كلامه عن مفهوم العقل إذ يقول: (كل جنس من أجناس الموجودات في الطبيعة يوافقه مبدآن: أحدهما هو مادة أشياء هذا الجنس، وهو بالقوة لكل أشيائه، والثاني العلة والمبدأ الفاعل القادر على صنع هذه الاشياء مثلما يفعل الفن في المادة، ولابد اذن ان توجد هذه الفروق ذاتها في النفس، وبالتالي فانه يوجد عقل ما قادر على ان يصبح كل شيء وعقل آخر قادر على إحداث الاشياء وهذا العقل الثاني هو الملكة التي تفعل فعل الضوء، فالالوان توجد بمعنى ما بالقوة والضوء الذي يُصَيّرها ألوانا بالفعل، والعقل الثاني مفارق للمادة غير قابل للانفعال وبَرِئَ من كل مزيج بحكم ماهيته، إنه بالفعل وفعلا. إن الفاعل مُتقدم بالشرف على المنفعل دائما. والمبدأ أشرف من المادة، ان العقل المفارق هو الخالد والقديم وغنيّ عن التذكير ان هذا العقل لا يقبل الانفعال في حين ان العقل القابل للانفعال قابل للفساد، ولا يمكنه ان يعقل اي شيء دون العقل الفعال. ويعلق الاسكندر الافرويسي على قول أرسطو قائلا: إن أرسطو ميز بين عقول ثلاثة في قوله السابق : العقل المادي او الهيولاني، وهذا العقل قادر على إدراك كل المعقولات بالقوة مثلما ان المادة هي بالقوة قادرة على تقبل كل الصور، والعقل المستفاد وهو العقل الذي يعقل العقل الذي يمر من القوة الى الفعل، والعقل الفعال وهو الذي يحيل العقل المادي الى عقل مستفاد. لقد ربط بعض المتكلمين اضافة الى ما سبق بين العقل والنفس، فقولهم ان النفس تكمل بقبولها صور المعقولات لتصير عقلا بالفعل. مأخوذ من قول (إنباذ قليس) »إن من خواص النفس الكلية ان تتحد مع العقل حتى تصير هِيَ هٌوَ«. وهذه من ابرز الافكار التي تناولت حد العقل وطبيعته، وفي وهمي انها في ايجازها تغني عن مزيد من الأمثلة التي تكررت بصورة مطردة عند كثير من علماء الكلام، ويمكن ان تلخص رؤيتهم وهي رؤية مقبوسة بتفصيلاتها من فلسفة اليونان بما يلي: 1) العقل جوهر لطيف، أو هو جوهر في ذاته ففيه المعنى الكلي وتكمل فيه المثل. 2) العقل ثلاثة عقول: هيولاني ومستفاد وفعال. 3) العقل هو النفس لأن النفس تتحد مع العقل لتصير هي هو. 4) العقل عقلان: نظري وعملي، أما النظري هو الذي يدرك الماهيات، وأما العملي فهو القوة المميزة للصواب من الخطأ. ومن الواضح ان هذه النظرية على تضاد ظاهر من النظرة الاسلامية الى العقل كون هذه النظرية تحدد العقل بمعزل تام عن الوحي والشريعة، وتصوره على انه معرفة بذاته أو هو سند يقيني لا حاجة الى اقامة الدليل على أحكامه، وهو بعد ذلك كله مستقل تمام الاستقلال عن الاشياء، ومن ثم فهو حر في البحث، وأما العقل الاسلامي فهو مرتبط بالشريعة، والوحي، والتعاليم، والسنة، ومن هنا نعي جهة الصراع التي نشبت منذ القدم بين علماء الدين وأصحاب الكلام أو الفلاسفة، وقد برز هذا الصراع بوضوح في كتاب الامام الغزالي (تهافت الفلاسفة) الذي قيل فيه: (لقد طُعِنَت الفلسفة على يد الامام الغزالي فلم تقم لها قائمة في الشرق). 2) التطبيق: أ التصورات العقلية للصياغة الشعرية عند النقاد: لقد برزت فئة من النقاد في العصر العباسي، تنظر الى مسألة الصياغة الشعرية على أنها ضرب من التصور الذهني الذي يقوم به الشاعر قبل ان يبدأ نَسجَ أشعاره، وهذا المنحى النظري المجرد عائد في الاساس الى تأثر هؤلاء النقاد بنظرية العقل الاسلامية، فقد رأينا فيما سبق ان العقل في نظر العلماء مرتبط بالوحي وبالتعاليم والاخلاق وبالتدريج أخذت هذه النظرة تشيع في الفكر والثقافة، فتنعكس بصورة كثيرة في انتاج المفكرين والنقاد والشعراء المسلمين على حد سواء، ففي مجال النقد الأدبي بدأت نظرة العقل تؤثّر في منحى عدد من النقاد الذين حاولوا تحديد منطق للشعر يوافق الى حد بعيد التوجه الاسلامي في نظرته الى العقل اذ ان العقل غريزة تحتاج الى خبرة ومعرفة، ومصدر الخبرة والمعرفة انما يتحدد بالعقيدة والتعاليم والاخلاق التي انطوى عليها القرآن الكريم، من هنا بدأ الاهتمام الواسع بالدراسات القرآنية منذ بداية العصر العباسي ينصب على ابراز ما يتضمنه القرآن من تعاليم وأخلاق وقيم لغوية وفنية لتكون زادا كافيا للعقل، وهذه الدراسات كشفت جوانب واسعة يلج منها العقل المتبصّر في أمور كثيرة أهمها بالنسبة الى النقاد ما تضمنه القرآن من أساليب بيانية رفيعة دفعت كثيرا منهم الى اعتبار هذه الاساليب المثال الذي ينبغي على الشعراء احتذائه والنسج على منواله، وليس ذلك فحسب بل قبس بعضهم كثيرا من المعايير لتطبيقها على الشعر حتى لكأن الشعر اصبح يقاس بالعقل ويخضع الى الضبط، فكان معيار الجودة والرداءة في الشعر خاضعا الى العقل، فما قبله العقل كان جيدا وما مجّه كان رديئا ومثل ذلك معيار الصواب والخطأ والجمال والقبح. لقد طرأ تغيير واضح على وظيفة الشعر في ضوء نظرية العقل، فغدا الشعر ألصق بالفضيلة وأقرب الى الأخلاق، وهذا انما يظهر بجلاء عند عدد غير يسير من نقاد الشعر في العصر العباسي، وأولهم: قدامة بن جعفر 337 ه إن المتتبع لحركة النقد يلحظ أن قدامة بن جعفر من أوائل النقاد الذين وجهوا النقد وجهة عقلية توافق مسار نظرية العقل في الاسلام، وهذا التوجه ربما حدا بكثير من الدراسين اليوم الى القول بأن قدامة قد تأثر بالفلسفة اليونانية خصوصا في حديثه عن معاني الشعر التي قسّمها الى أربعة أقسام رئيسية، العقل والشجاعة والعفّة والعدل، ووجدوا مسوغا لذلك ان أفلاطون قد قسّم الفضائل التقسيم نفسه، وربما كان اهتمام قدامة بالمنطق والأخلاق سببا آخر رسّخ في أذهان الناس تأثره بأفلاطون وغيره، ومن يقرأ كتاب (نقد الشعر) لقدامة بن جعفر كله لا يقع على إشارة واحدة تؤكد نقله عن أفلاطون أو غيره سوى أن تقسيم قدامة لمعاني الشعر وافق تقسيم أفلاطون الفضائل الأربع وما يقع في الوهم أن مجرد التوافق لا يعني أبدا أن قدامة نقل عن أفلاطون خصوصا ان قدامة حين تحدث عن العقل والشجاعة والعفة والعدل التمس ما يؤيدها في شعر العرب، في حين ان أفلاطون لما تحدث عن الفضائل لم يقرنها بالشعر ولا بالشعراء لسبب بسيط، وهو ان أفلاطون في جمهوريته استبعد الشعراء لأنهم يشكلون خطرا على الفضيلة والحقيقة، وهذا الفارق إنما يبيّن المنحى المختلف الذي سلكه كل من قدامة وأفلاطون. لقد قيّد قدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر أبرز المعاني التي يدور حولها الشعر، لا بل قل أفضل المعاني تلك التي ترسّخ مبادئ الأخلاق، فكانت محصورة بالعقل والشجاعة والعفّة والعدل وهذه المعاني الكبيرة تنقسم عنده الى معان فرعية اذ يتفرع من العقل المعرفة والحياء والبيان والسياسة والصدع بالحجة والعلم والحلم ويتفرع من العفّة والقناعة وقلة الشر وطهارة الإزار، ومن الشجاعة الاستبسال والدفاع ومن العدل السماحة والندى. وهذه المعاني ما هي في الحقيقة سوى الاخلاق التي أقرها الاسلام والتركيز عليها في الشعر من شأنه ان يعدل في وظيفته التي تمضي جنبا الى جنب مع العقيدة خاصة ان الاسلام قيد مجالات الشعر وغدا من الحرج بعد نزول سورة الشعراء ان يستمر تيار الشعر في الحياة الاسلامية بمثل تلك القوة التي كان يمضي فيها قبل الاسلام ويندفع في الاتجاه نفسه الذي كان يندفع فيه. إن الاسلام في ضوء تعاليم القرآن وجّه الشعر توجيها ايجابيا، لقد أراد ان يخلف منه وجها من وجوه الفكر البنّاء الذي يقر الفضيلة ويدحض الرذيلة، ونلمح أبعاد هذه الرسالة التي رسمها الاسلام للشعر منذ بدء الدعوة، ففي حياة الرسول (ص) جاء حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك بعد نزول سورة الشعراء فقالوا للرسول (ص) وهم يبكون، قد علم الله حين أنزل قوله: (والشعراء يتبعهم الغاوون) أنّا شعراء فقال النبي (ص) الا الذين آمنوا)، وقد تندرج مواقف الرسول من الشعر تحت هذا الجانب، فكان يشجّع من الشعر ماله صلة بالخير والاخلاق، لذلك أقبل على قول النابغة الجعدي: ولا خير في جهل إذا لم يكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال الرسول (ص) للجعدي: (أجدت لا يفضض الله فاك) وروى عن عائشة أن الرسول (ص) بنى لحسّان بن ثابت في المجسد منبرا ينشد عليه الشعر. ومثلما أقبل الرسول (ص) على الشعر الفاضل الذي لا يجانب الصواب فقد أعرض عن الشعر الفاسد الذي يثير روح الجاهلية ويزكّي نار التناحر والتنازع بين الناس، ومن ذلك اعراضه عن الطفيل بن عمرو السدوسي لما أنشده شعرا حاد فيه عن الصواب والحق فقرأ الرسول (ص) سورة الاخلاص والمعوذتين استنكارا لما سمعه، وهذه المواقف جميعا تكفي لتخلق الوعي في ذهن ناقد حصيف مثل »قدامة« فيما يتصل بوظيفة الشعر الجديدة في الاسلام، وهي الوظيفة التي ترسم طريقا للشعر كي يمضى جنبا الى جنب مع الخير والاخلاق والفضائل من هنا ندرك سبب حصر قدامة معاني الشعر بهذه الفضائل الأربع: العقل والشجاعة والعدل والعفة. ابن طباطبا العلوي إذا ما انتقلنا الى ابن طباطبا تأكدت لنا حقيقة اتصال النقد بالجانب العقلي، فقد ذهب ابن طباطبا أَبْعَدَ ممّا ذهب إليه قدامة، لقد ألح ابن طباطبا على ان يبدأ الشاعر عمله بإيجاد نوع من التصور لماهية المعاني التي يود التعرض لها قبل ان تخرج هذه المعاني الى الوجود بصورة شعرية، والمقصود من ذلك ان التصور المسبق هو محاولة ضبط ما تأتي به القريحة وما قد تلهمه النفس للشاعر من معاني قد لا تتفق والمرمى الشعري الذي يريده العقل، انه يدعو الى شيء من الوعي الذي يجب ان يتوفّر عند الشاعر فيدفعه ذلك الى شيء من الانتقاء والاصطفاء ليخرج الشعر وفيه من الصفاء والنقاء ما يدعو الى حفظه وشيوعه بين الناس. ومُؤَدَْى دعوة ابن طباطبا هي ان يحكّم الشاعر عقله فيما تنتجه القريحة من معانٍ ثم يعاود الشاعر النظر الى شعره حتى يصل الى درجة من الانسجام بين المعاني والمباني فيكون ذلك من الاسباب التي تجعل العقل يرضى بهذا النوع من الشعر وتستسيغه النفس، فيتحقق بذلك شرط الجودة والجمال، يقول ابن طباطبا (إذا أراد الشاعر بناء قصيدة محض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه، والوزن الذي سلس له القول عليه، فاذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثْبَتَهُ وأَعْملَ فِكْرهُ في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر، وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه على تفاوت ما بينه وبين ما قبله، فاذا اكتملت له المعاني وكثرت الأبيات وفّق بينها بأبيات تكون نظاما، وسلكا جامعا لما تشتت منها، ثم يتأمل ما قد وهى منه، ويبدل كل لفظة مستكرهة بلفظة سهلة نقية. وهذا الكلام الذي جاء به ابن طباطبا أدخل في باب الصياغة الشعرية التي ينبغي للشاعر ان يقوم بتمهير أدواته فيها على الدوام، ليدل بذلك على شوط قطعه في تمثله في عملية الابداع في ضوء نظرية العقل التي انعكست عند ابن طباطبا على صورة بدا فيها الشعر وكأنه يسعى الى تحقيق مبدأ الاعتدال، فالاعتدال لا يأتي الا بعد جهد عقلي يبذله الشاعر في سبيل تحقيقه، ويكون الشعر متدرجا في معانيه ملتحما في أجزائه محققا شرطي الجودة والجمال وهذان من المعايير التي يقرها العقل ذاته، فما قبله العقل كان تاما وما مَجّهُ كان ناقصا قبيحا. يقول دكتور إحسان عباس: (ولما كان نظم الشعر في رأي ابن طباطبا عملا عقليا خالصا كان تأثير الشعر عقليا كذلك، لانه مقصود بمخاطبة الفهم ووسيلته الى هذه المخاطبة هي الجمال او الحسن والسر في كل جمال الاعتدال. ومبدأ الاعتدال الذي ألحّ ابن طباطبا على ان يتحقق في الشعر ما هو في الحقيقة سوى محاولة لتطبيق بعض جوانب نظرية العقل على النقد الأدبي فالاعتدال في الشعر يعني الانسجام القائم بين صحة الوزن وصحة المعنى وعذوبة اللفظ بمعنى أن يحقّق الشاعر لشعره حدًّا من الجودة يبلغ درجة متوسطة بين الجمال والنقص، هذا المبدأ ذاته يحدّده النظر الاسلامي بالنسبة لحدّ العقل، يقول الماوردي: (العقل اذا تناهى وزاد لا يكون فضيلة بأنّ الفضيلة هيئة متوسطة بين فضيلتين ناقصتين، كما أنّ الخير وسط بين رذيلتين، فما جاوز التوسط خرج عن حدّ الفضيلة).