والحقيقة أن تلك الأحزاب برغبة جامحة منها في الوصول إلى السلطة باتت عاجزة عن إدراك هذه الحقائق التي ستؤدي حتما إلى تعقيدات أخر: 1) التعقيد الأول: التحالف الانتخابي غير ممكن سيكون التحالف الانتخابي بين الأحزاب في ظل هذا النمط من الاقتراع غير ممكن البتة. إذ ليكون ممكنا لا بد من إقرار القوائم المطلقة التي تفوز بالأغلبية وبكامل مرشحيها. أما في نظام الاقتراع النسبي المناصفي والترتيبي والتحاصصي والإقصائي الذي قيد الفوز فيه واقعيا بالمرتبة الأولى فكل حزب سيشترط أن يوضع مرشحه على رأس القائمة. أما إذا افترضنا أنها ستتنازل لبعضها البعض فتقبل مثلا بتقاسم المراتب الأولى دائرة بدائرة فذلك ما سيقلل من حظوظها في الفوز بما تتطلع إليه من عدد أكبر من المقاعد في المجلس التأسيسي القادم. وهو ما يتنافى مع الداعي الكافي الذي دعاها لتتبنى هذه الطريقة الشاذة. وفي الواقع لا النسور تغير من طبيعتها ولا الأرانب أو الثعالب أو أبناء آوى تفعل ذلك. وهذه الأحزاب المتعطشة للسلطة أي تعطش لا يمكنها أن تقبل بالتضحية بمطمحها للسلطة الذ قادها إلى وضع لم تعد تبصر فبه غير نفسها. بناء آو يتغيرأبناء آو يتغير منها كذلك. ولنووو 2) التعقيد الثاني: مجلس تأسيسي ضعيف إن هذه الطريقة ستقود حتما إلى فسيفساء سياسية داخل المجلس الوطني التأسيسي ليس لها مثيل في التاريخ السياسي العام. وذلك ما سيجعله ضعيفا ومشلولا وفاقدا للمصداقية تتقاسمه النزاعات والأطماع والأنانية والحزبية الضيقة لا سيما أن الاختيارات الكبرى مثل شكل الحكم لم يتم الحسم فيها كما تقضي العادة من قبل الشعب بطريق الاستفتاء. فهم يتهربون من الاستفتاء ظنا منهم أنهم سيكونون بهذه الطريقة وحدهم داخل المجلس. فيتمكنوا من خياطة الدستور كما يحلو لهم. والحقيقة أن المجلس التأسيسي القادم سيكون متنوعا جدا إلى حد أننا لن نلفي فيه ولو أغلبية ائتلافية. وهكذا ستكون مكوناته متنازعة بخصوص بعض الاختيارات الكبرى وبخصوص تعيين السلطة الانتقالية للمرحلة التأسيسية . ممّا سيجعلنا إزاء احتمالات ثلاثة: أ أن يكتب دستور غير متناسق. مما سيضطرنا لاحقا إلى إعادة كتابته خاصة إذا ما لم يعرض على الشعب ليُسْتَفْتَى فيه كما تقضي العادة بذلك. وهذا ليس تخريجا من قبلنا .بل هو ما جرى مع جميع الدساتير إلا مع الدستور التونسي المعلق حاليا. وهم بذلك سيكونون قد أسسوا بطريق غير مشروع علما أن ما بني على باطل سيظل باطلا مهما طال الزمن. أما هذه المرة فالزمن لن يطول. إذ العصر عصر الشعوب ولم يعد بمقدور أي سلطة أن تحكم بالراديو وجهاز التلفزيون ولا بالحديد والنار كما حصل من قبل. ب أنه في حال نجاحه في تشكيل سلطة تنفيذية انتقالية فستكون تلكم السلطة ضعيفة وستتعرض إلى هزات وتعطيل وسحب ثقة من هذا الوزير أو ذاك أو من السلطة برمتها. وذلك ما سيزيد من الاختلافات التي ستشق المجلس حتما في الوقت الذي فيه اقتصاد البلاد على حافة انهيار إن لم يكن منهارا بعد. ولن يغرنّنا أمر اتفاقهم أو سكوتهم عن بعضهم البعض في الوقت الحاضر. فالقسمة لم تبدأ بعد. وحين تبدأ ستبدأ معها الخلافات. وإن غدا لناظره لقريب. ج وأما في حال عدم نجاحه في تشكيل حكومة فسيعني ذلك بقاء سلطة تصريف الأعمال الحالية لأجل آخر. وذلك ما سيكرس من عجزه ويسحب منه كل مصداقية ويجعله تابعا لسلطة غير شرعية. وهي كارثة بحق ستقود البلاد إلى هزات جدية قد تعصف بجهاز الدولة نفسه أو قد تضعنا في تبعية دائمة للقوى الغربية ولفرنسا بالتحديد التي تعمل الآن جاهدة لتضعنا تحت كلكلها من جديد. وما القروض المقدمة حاليا لحكومة تصريف أعمال إلا دليلا قاطعا على ذلك. ولا شك في أنّهم يعلمون علم اليقين أنها هذه الحكومة هي حكومة غير شرعية وليس من حقها إطلاقا ما أقدمت علية من خطوات. وهم إنما يسابقون الزمن حتى يتم لهم ما يريدون. وإن أي مكروه يحصل للبلاد سيضع هذه الأحزاب موضع مساءلة سياسية وقانونية. فإلحاق الضرر بوطن لن يمر بالسهولة التي يتصورون. والأحزاب التي تواطأت على شعب فرحات حشاد لن يمر بها الزمن دون أن تعاقب. وهكذا نخلص إلى أن هذه الطريقة لا تعدو أن تكون في حقيقتها طريقة تسعى إلى تزكية أعيان الحاضرة وأعيان الأحزاب أكثر منها طريقة انتخابية صحيحة. وحقيقتها أنها ترقى إلى مستوى التزوير المسبق. ولقد صوت العراقيون قبل سنة بطرق مثل هذه التي اختارتها الجماعة ولكن ذلك لم يمنع من أن الشعب العراقي ثار على الحكام المنتخبين. ولنعلم أن الأغلبية الساحقة لم تدرك بعد ما في هذه الطريقة من عيوب جوهرية هي في أساسها إلغاء للديمقراطية. وجملة القول أن التوافق ليس سوى ديمقراطية خاصة بالأعيان. ولقد بدأ الكثير من المواطنين ينتبهون إلى حقيقة أن هؤلاء أعادونا إلى العهد الحسيني وإلى »المجلس الأكبر« الذي عينه الصادق باي. ولكن هل من الحتمي أن تجري الأمور ضرورة هذا المجرى؟ طبعا لا . فذلك لا يشكل إلا ما بنت عليه الأحزاب المشاركة في الهيئة تصوراتها حتى تضمن لها حصة تجزيها في المجلس التأسيسي القادم. أما إمكانية أن الأمور قد تجري غير هذا المجرى فواردة جدا. ولقد أردنا فحسب تأجيل الخوض في ذلك لأسباب منهجية فحسب. فما هو المجرى الثاني؟ إنه ماثل في المستقلين والنقابيين خصوصا بعد أن رفض اقتراح الاتحاد العام التونسي للشغل بتخصص نسبة له من المقاعد في المجلس التأسيسي. بل وغمط حقه قبل ذلك في أن مثل في »الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة«... بعدد من الأعضاء لا يتجاوز العدد الذي مثلت به حركة نسوية نخبوية صغيرة محصورة في نساء الطبقة الوسطى. وليس غريبا أن الكثير من مسؤولي هذه الأحزاب قد باتوا على قلق من جهته. ولذلك بات بعضهم يطالب بأن يقوم بثورته كأنهم قد حققوا بعد ثورتهم وهم الذين لم يشاركوا بأي نوع من المشاركة في الثورة. بل لقد باتوا خائفين منه لأنه فعلا إذا دخل اللعبة سيكون دخوله حاسما. وبدخوله سيدعم المستقلين سواء كانوا نقابيين أو نقابيين قدماء أو مستقلين خلصا. وهذا سيؤدي إلى أحد احتمالين إذا لم تنشأ حركة تطالب بنمط انتخابي عادل يتيح للشعب ممارسة حقه الانتخابي بكل حرية ويتيح له أن يختار بإرادته لا بإرادة من اختار له نمط اقتراع محسوب جعل على قياسه. وليس خافيا أنهم يحلمون بإعادة إنتاج »الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة«.. وقد صرح بذلك العديد من أعضائها حين أخذتهم النشوة بأنفسهم وتصوروا أنهم برلمان وسيكون دخولهم بشكلين اثنين: 1) إمّا أن يترشح هؤلاء في قائمة واحدة. مما سيتيح لقوائمهم أن تحقق فوزا حاسما لأنها وحدها القادرة على إنجاح أكثر من فائز واحد. إذ قد تفوز القوائم المستقلة بثلاثة مقاعد أو أكثر أو قد تفوز فوزا مطلقا في بعض الدوائر. وليعلم الجميع أن أي سبر للآراء لا يدخل في حسبانه المستقلين هو سبر يقع في المغالطة العامة عن وعي أو عن غير وعي. أما الأحزاب فهي تسلك سلوك النعامة حين تغاضت عن الأمر. ولكنها في قرارة نفسها لا تزال غير مصدقة. 2) وإمّا أن يترشحوا في عدة قوائم متآزرة متضامنة يترشح فيها المناضلون النقابيون والمستقلون نضاليا لمساندة رأس القائمة منددين في ذات الوقت بالطريقة الغريبة والشاذة المعتمدة. وذلك ما سيتيح لها فوزا أكبر بفوز رؤوس قائمائها جميعا معولة في ذلك على تاريخ الاتحاد وعلى دوره كحاضنة للثورة. وفي الحالين معا يجب أن يشرع حالا في تكوين جبهة انتخابية مستقلة ذات بعد وطني خالص هدفها إنقاذ البلاد مما يتهددها من فوضى ومن وقوع في ديكتاتورية جديدة بدأ التأسيس لها فعلا وليس قولا ومن تبعية سياسية واقتصادية ومن ضعف ووهن مزمنين. وفي الحالين معا سيحقق المستقلون والنقابيون فوزا ضروريا يتيح توازنا مطلوبا للمجلس التأسيسي ويهبه القوة والقدرة على تعيين حكومة انتقالية قوية تكون قادرة على إدارة شؤون الدولة إدارة ناجحة. وسيكون في ذلك حفظ لمصالح العمال والفلاحين وعموم الشعب والوطن بمختلف مكوناته. وليت عمري ليس ثمة في الوقت الحاضر من هو قادر على حفظها أكثر منه. وبدون دخول الاتحاد والمستقلين في الانتخابات سيكون قطعا المجلس الوطني التأسيسي ضعيفا وغير ممثل للشعب التونسي لا سيما إذا تم اعتماد هذه النظام الانتخابي الذي ليس بنظام بالمرة. وإن في قولة المناضل النقابي والوطني الكبير فرحات حشاد لحقيقة ثابتة تزول الراسيات ولا تزول: »إن السياسة إذا لم تذهب إليها جاءتك«. وحالنا جميعا هذا الحال بما أن السياسة جاءت إلينا فقد بات علينا تحمل وزرها بكل مسؤولية. والحقيقة أنه ما كان أجدر بهذا الشعب إلا أن ينتخب بطريقة بسيطة طبيعية حرة تشجعه على المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي القادمة حتى يتخلى عن مقاطعته للانتخابات كما كان يفعل من قبل. وهذا ما سيقودنا لإثارة نسبة المشاركة. فهل سيقرون دستورا دون نسبة مشاركة محددة لا تقل عن خمسين في المائة؟ وهل أنهم سيقرونه دون مصادقة الشعب عليه بما أن فكرة العودة إلى الشعب بالاستفتاء باتت غير واردة في حساباتهم؟ علما أن سائر العالم يحرص على مشاركة الشعب الواسعة إلا أن أحزابنا المشاركة لا ترى ذلك البتة بسبب أنها ورثت عن نظام الاستبداد القدرة على الاستحواذ على أصوات الشعب لتشريع نفسها دون حاجة إليها به وبسبب أنها تخاف من الشعب. ولكن من المفيد أن نذكر بألاّ مجال لأن يسكت الشعب طويلا على ذلك في قابل الأيام. ولقد أكثروا جميعا الحديث عن ثورة الشباب تقليدا للشرق جاهلين أن الشباب لا يعني عند المشارقة غير الفتيان بالمعنى الجاهلي القديم. ولكن الشباب فعلا آخذ في الدخول إلى ساحة السياسة من بابها الكبير. وهو لن يسكت عن سرقة مستقبله وطموحه في الحرية والكرامة والعدل وفي القضاء على الاستبداد وإرساء دولة الحق القائمة على تراتبية تنهض على فصل السلطات واستقلالية القضاء بما يؤهله لمساءلة الجميع أفرادا ماديين وأشخاصا معنويين لإشاعة العدل الذي هو أساس العمران. ولكن كيفما قلبنا الأمر فإن أي تأسيس بدون استفتاء الشعب سيكون تأسيسا باطلا. إذ لم يشهد في تاريخ الدنيا قاطبة أن حكومة تصريف أعمال تصدر القوانين بمفردها دون رجوع للبرلمان أو للشعب. وإذا كان البرلمان منحلاًّ فلا يعني ذلك أن حكومة غير شرعية تتولى إصدار القوانين بمجرد مراسيم ليست من حقها إطلاقا. والرأي عندي أن تلتف القوى الوطنية لترفض هذه النزعة الاستبدادية التي لا تليق ببلدنا ولا بشعب كان أسس أول جمهورية في الدنيا على مر التاريخ ألا وهي جمهورية قرطاج.