وزيرة الاقتصاد تعلن عن انطلاق الأشغال الميدانية للتّعداد العامّ للسّكان والسّكنى الاثنين 20 ماي 2024    ارتفاع وتيرة الاعتداءات على الصحفيين في شهر أفريل..    الإعلامي زياد الهاني يمثل أمام القضاء..    البنك الأوروبي لاعادة الأعمار وشركة خاصة يوقعان إتفاقية تمويل مشروع للطاقات المتجددة بفريانة    وزارة الفلاحة تدعو الفلاحيين الى القيام بالمداواة الوقائية ضد مرض "الميلديو" باستعمال أحد المبيدات الفطرية المرخص بها    عاجل/ الاحتلال ينفذ سلسلة من المداهمات والاعتقالات في مناطق متفرقة من قطاع غزة..    القيروان :الاحتفاظ ب 8 أفارقة دون وثائق ثبوتية يعملون بشركة فلاحية    نابل: تفكيك شبكة مختصة في ترويج الأقراص المخدرة وحجز 900 قرص    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    أمريكا تستثني هذه المناطق بتونس والمسافات من تحذير رعاياها    لاجؤون سودانيون يطالبون بإجلائهم نحو رواندا    آخر كلمات الإعلامي الرياضي أحمد نوير قبل رحيله...رحمه الله    570 مليون دينار لدعم الميزانيّة..البنوك تعوّض الخروج على السوق الماليّة للاقتراض    سيف الله اللطيف ينتقل الى الدوري الهولندي الممتاز    سليانة: توقّعات بتراجع صابة حب الملوك في مكثر    كوناكت: الانتقال الطاقي رافعة للنمو وخلق الثروة.. العراقيل والحلول والتوصيات (فيديو)    اليوم.. حفل زياد غرسة بالمسرح البلدي    اغتيال قائد في سلاح جو حزب الله بضربة للكيان الصهيوني    إتحاد الفلاحة : كتلة أجور موظفي إتحاد الفلاحة 6 مليارات و700 ألف دينار    القصرين: وفاة شاب في حادث مرور    سيدي بوزيد: وفاة كهل وزوجته في حادث مرور    البرازيل تستضيف نهائيات كأس العالم لكرة القدم    قابس: عدد الأضاحي تراجعت هذه السنة    بعد تسجيل الحالة الرابعة من نوعها.. مرض جديد يثير القلق    اتحاد الفلاحة: أسعار أضاحي العيد ستكون باهضة .. التفاصيل    مباراة الكرة الطائرة بين الترجي و الافريقي : متى و أين و بكم أسعار التذاكر؟    هام/ مناظرة لانتداب 34 متصرفا بالبريد التونسي..    يصنعون ''مواد المسكرة محلية الصنع القرابا'' و يقومون ببيعها بمدينة أم العرائس    إسبانيا تمنع السفن المحملة بأسلحة للكيان الصهيوني من الرسو في موانئها    حريق بمستودع بين المروج 6 ونعسان    عاجل : الكشف عن مصنع عشوائي لتعليب المنتوجات الغذائية و الأمن يتدخل    ذهاب نهائي رابطة ابطال افريقيا : الترجي يستضيف الاهلي برغبة تعبيد الطريق نحو الظفر باللقب    كأس أوروبا 2024: كانتي يعود لتشكيلة المنتخب الفرنسي    انتخاب تونس عضوا بالمجلس الوزاري الإفريقي المعني بالأرصاد الجوية    الجزائر تواجه الحرائق مجدّدا.. والسلطات تكافح لاحتوائها    اعزل الأذى عن طريق المسلمين    النائب طارق مهدي يكشف: الأفارقة جنوب الصحراء احتلوا الشريط الساحلي بين العامرة وجبنيانة    روعة التليلي تحصد الذهبية في بطولة العالم لألعاب القوى لذوي الاحتياجات الخاصة    نجاح الأسرة في الإسلام ..حب الأم عبادة... وحب الزوجة سعادة !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    خطبة الجمعة...الميراث في الإسلام    محيط قرقنة اللجنة المالية تنشد الدعم ومنحة مُضاعفة لهزم «القناوية»    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    الشرطة الفرنسية تقتل مسلحا حاول إضرام النار في كنيس بشمال غرب البلاد    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    التوقعات الجوية لهذا اليوم…    الصحة العالمية.. استهلاك الملح بكثرة يقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السعي الى ترسيخ الحق وإقامة العدل في ظروف غير مناسبة قد يؤدي الى مزيد من مظاهر الظلم والعدوان
التطبيق العملي للشريعة يقوم في جوهره على الفهم النسبي للدين، وليس على الفهم المطلق الذي يتعذر تحققه في أرض الواقع (الجزء الأول): التوظيف السياسي للإسلام ومظهر
نشر في الشعب يوم 10 - 09 - 2011

تهدف الدراسة إلى توضيح الفروقات البيّنة بين ما يهدف اليه الاسلام من تعزيز القيم وتأكيد وحدة المجتمع وتعزيز أواصره والروابط بين أعضائه، وبين ما يؤدي إليه التوظيف السياسي للدين كتعزيز أوجه التباين ومظاهر الفرقة والانقسام بين عناصر الجسد الواحد وهو الأمر الذي يبرز واضحا عل امتداد مراحل متعددة من تاريخ المجتمع العربي عموما، وفي تاريخ مدينة دمشق خلال فترة الحكم العثماني بشكل خاص ويوضّح ذلك بجلاء أن الخطر الأكبر الذي اخذ يهدد بنيان الاسلام، ومجتمع المسلمين منذ فترة ليست قصيرة انما جاء من المسلمين انفسهم ومن خلال توظيفه للمصالح السياسية، على حساب المبادئ الكبرى التي قام على أساسها، ومن خلال التطبيق غير الواعي لاحكامه.
وسيتضمن البحث ستة محاور أساسية تتناول موضوعاته التوظيف السياسي للدين ويقدم عرضا لأبرز اجتهادات الباحثين في علم الاجتماع المعاصر، وخاصة الاجتهادات المتعلقة بدراسة النسق الاجتماعي بالاضافة إلى تحليل بنية النسق الديني في المجتمع الاسلامي ومكوناته الاساسية، ويقدم المحور الثاني تحليلا لمفهوم الدور وعلاقته بممارسة الفعل الاجتماعي، ومن خلال أبرز علماء الاجتماع في هذا المجال، مثل »روبرت ميرتون«، و»تالكوت بارسونز« وغيرهما، ويعالج المحور الثالث جملة من المسائل المتعلقة بالتطور التاريخي لمدينة دمشق، والوظائف الاساسية للبنى المجتمعية فيها.
كما يتناول المحور الرابع مجموعة من المؤشرات المتعلقة بالادارة العثمانية للبلاد، ودورها في عملية التوظيف السياسي للمشاعر الدينية للحفاظ على السلطة وتعزيز أواصر النظام السياسي، ويشرح المحور الخامس موقف الادارة العثمانية من مسائل الضبط الاجتماعي، والامن الاجتماعي ليدلل على أنّ اهتمام الدولة العثمانية كان ضعيفا في هذا المجال اما المحور السادس والاخير فيحلل بعض مظاهر الوحدة والتنوع في مدينة دمشق مع بدايات عصر النهضة، وينتهي البحث بقائمة المراجع المعتمدة في الدراسة.
❊ أوّلا: مفهوم النسق الديني وعملية التوظيف السياسي للدين
تأخذ التطبيقات العملية للشرائع في المجتمعات الانسانية أشكالا متعددة ترتبط بخصوصيات التجزئة الثقافية والحضارية للشعوب، وتنتظم في ممارسات اجتماعية، وأشكال من السلوك تأخذ شكل »نظم وأنساق« تتوافق مع طبيعة الوظائف المنوطة بها في اطار التنظيم الاجتماعي العام وترمي الى تلبية مجموعة الحاجات المادية والمعنوية للافراد وخاصة التي تنجم عن تحولات الواقع الاقتصادي والاجتماعي، او عن عمليات التطور التي يشهدها الواقع.
وتقترب بنية النسق الخاص بالتطبيقات العملية للشرائع الدينية من الانساق المتبقية في المجتمع من حيث التركيب والوظائف وتختلف عنها من حيث العناصر المكوّنة لها وطبيعة اشكالها فالممارسات الدينية مبنية على مجموعة من القيم والمعايير الاجتماعية والاخلاقية المستمدة من الشرائع، والتي تتفاعل مع تحولات الواقع وتلبي الحاجات المتجددة الناجمة عن ذلك ويؤدي علما التشريع الديني دورا كبير الاهمية في بلورة وظائف الدين في اطار الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتنوعة، الامر الذي يساعد على تطوير وظيفة الدين ويجعله قادرا على تلبية الحاجات الاساسية والثانوية لافراد المجتمع الواحد.
ورغم القيود التي يصنفها علماءُ التشريع حول المعايير التي يفترض الاعتماد عليها في تطوير الاحكام بغية عدم الخروج عن النص وعن مضمونه الا انّ التجارب العديدة تفيد بأنّ المعايير التي تعتمد لتطوير احكام الشريعة غالبا ما تكون موجهة بفهم العلماء لمقتضيات المصلحة العامة ولوازمها بناء على خصوصيات التجارب التي شهدها كل منهم.
وعلى خصوصيات التنشئة الاجتماعية والثقافية التي يعرفها ويصعب ان نجد معايير واحدة قادرة على ان تكون ثابتة مع تبدل الايام والظروف الامر الذي يفسر تعدد الاجتهادات وتباين آراء المجتهدين في القضية الواحدة والزمن الواحد.
ويترتب عن ذلك أنّ الممارسات غالبا ما ترتبط باجتهادات العلماء، وغالبا ما يصبح للنسق الديني وظيفة اقتصادية واجتماعية تقتضيها ظروف الواقع، ويبلورها علماء الدين استناد الى فهمهم لطبيعة العلاقة بين احكام الشريعة كما هي مفهومة بالنسبة اليهم وبين احكام الواقع في تبدلاته وتغييراته كما هي في حيز ادراكهم ويدعو ذلك الى ضرورة التمييز بين احكام الدين كما هي في ابعادها المطلقة وبين احكام الدّين كما هي في الممارسة العملية ولابد لاي ممارسة من الممارسات ان تأخذ موقعا ما بالنسبة الى الاحكام المطلقة فقد تتوافق معها او تتوافق نسبيا او تتعارض على نحو ما وفي الحالات المختلفة لا يمكن للممارسة العملية ان تكون مطابقة تماما للاحكام المطلقة.
وتصبح امكانية التوظيف الاجتماعي والسياسي للدين، أو للنسق الديني بعد ذلك سهلة المنال، بحكم ان التطبيق العملي للشريعة يقوم في جوهره على الفهم النسبي للدين، وليس على الفهم المطلق الذي يتعذر تحققه في أرض الواقع وعلى هذا قد يصبح للنسق الديني وظيفة أساسية تكمن في التكييف مع الواقع، والعمل على تلبية حاجات الناس وتوفير الظروف المناسبة لعيشهم على أساس الامر الواقع او تصبح له وظيفة أخرى تكمن في العمل على تغيير الواقع والثورة عليه على أساس ما ينبغي ان يكون.
❊ أ التحليل الوظيفي ومفهوم النسق في الدراسات الاجتماعية
يقوم النسق الديني، شأنه في ذلك شأن الانساق الاخرى في الحياة الاجتماعية على مجموعة من العناصر يستطيع من خلالها ان يؤدي الوظائف المنوطة به، ونلاحظ من خلال هذه العناصر ان الانسان يلعب دور الفاعل بوعي تارة ودون وعي تارة اخرى فمكونات النظام كما يجد ذلك »تالكوت بارسونز« وهو من أعلام الفكر الوظيفي في الوقت الراهن، مؤلفة من الادوار والجماعات والمعايير والقيم اما الادوار فيقصد بها عادة مجموعة الاعمال وأنماط السلوك المتوقعة من شخص وهو في موقع محدد فما ان تتصور شخصا ما وهو في موقعه كأستاذ حتّى يترتب عن ذلك مجموعة من التصورات المرتبطة بذلك الموقع، وما ان تتصور ذلك الشخص وهو أب ورب أسرة حتى تتولد في الذهن مجموعة أخرى من التصورات قد تكون مناقضة تماما للأولى، ومخالفة لها فلكل شخص مواقع مختلفة، وبالتالي له أدوار متعددة، ويعد فهم هذه الادوار ضرورة من ضرورات فهم آلية التنظيم وعمله.
وتعرف الجماعات انها ذات الأشخاص والافراد المعنيين بأهداف التنظيم والفاعلين فيه فنحن لا نستطيع تصور النسق الديني بمعزل عن اشخاص يمارسون العبادة، وأشخاص يتولون عملية التوجيه والتعليم، والارشاد وممارسة الاجتهادات الفقهيّة التي يتحدد في ضوئها المسموح به والممنوع، أو الحلال والحرام وتأتي هذه الممارسات متوافقة مع الادوار المنوطة بالاشخاص المذكورين تبعا لموافقهم في النسق الديني.
ويعرف »سميث« الجماعة الاجتماعية بأنها وحدة تتكون من عدد من الاشخاص يتوفر لديهم الادراك الحسي الكلي بوحدتهم ولديهم القدرة على التفاعل ويصنع »ماكروجل« الشروط الرئيسية للجماعة من وجهة نظره ويجد ذلك في ضرورة وجود بعض العناصر المستمرة في حياة الجماعة وعي الاعضاء بطبيعة الجماعة الجوهرية واغراضها وتفاعل الجماعة مع غيرها من الجماعات المماثلة وجود قواعد تحدد العلاقات بين الاعضاء بالاضافة الى وجود بناء يدل على تنوع الوظائف وتوزيعها بين اعضاء الجماعة.
ومن مجموعة التعاريف المرتبطة بمفهوم الجماعة يستخلص الدكتور محمد بهجت صالح جملة من العناصر المتعلقة بهذا المفهوم منها:
1) تمثل الجماعة عددا محدودا يتكون من فردين أو اكثر تربطهم علاقات تتسم بتفاعل سيكولوجي وتنشأ بينهم روابط اجتماعية متميزة.
2) تعني الجماعة بمفهومها العلمي ان ارتباط الاعضاء مع بعضهم بعضا في علاقات اجتماعية نتيجة للتفاعل تهدف حتما إلى تحقيق غرض معين من ارتباطهم، وتحقيق هذا الغرض يمثل إشباعا لاعضائها.
3) ان علاقات الاعضاء في الجماعة تتضمن عمليتي الاخذ والعطاء، أو بمعنى آخر الاعتمادية المتبادلة بين اعضاء الجماعة.
4) يؤدي تكوين بناء الجماعة وما يتضمنه من أدوار ومراكز هرمية الى تمييز محدد للجماعة نتيجة للتأثير المتبادل بين هؤلاء الاعضاء، ونتيجة لتلك التأثيرات تتعدل شخصية كل فرد فيها.
5) يؤدي تكوين بناء الجماعة إلى تقنين مجموعة من القيم والمعايير التي تحدد أسلوبها ومسارها وتميزها عن الجماعات.
كما يفهم من المعايير بانها تلك الاحكام التي نقرر في ضوئها صلاحية السلوك أو عدم صلاحية، وتوافقه مع قيمة من القيم الاجتماعية التي تنطوي عليها المنظومة الثقافية والحضارية، وهي ترتبط بخصوصية المجتمعات التي تنتظر فيها، وبخصوصية التجارب التاريخية التي عرفتها، لذلك تكتسب المعايير ضفة اجتماعية تجعلها تختلف بين آن وآخر، وبين مجتمع وغيره.
اما القيم فهي الاكثر شمولا، وتشترك فيها المجتمعات الانسانية كافة فالعدل والمساواة والخير والمحبة قيم لا تختلف في مضمونها بين مجتمع وآخر او ضمن المجتمع الواحد بين آن وآخر وهي تتصل بطموحات الانسان ومشاعره التي عملت على تكوينها تجاربه الواسعة ومظاهر الظلم والعدوان التي يمارسها الناس على بعضهم الآخر.
ويميز »البورت وفرتون« بين ستة اشكال اساسية للقيم تنتشر في المنظومات الاجتماعية هي: القيمة الاقتصادية، وتهتم بالنواحي المادية، والقيمة النظرية وتهتم بالحقيقة والمعرفة والقيمة الاجتماعية وتهتم بالنواحي الاجتماعية والقيمة الدينية، وتهتم بالنواحي الدينية والمعتقدات والقيمة الجمالية وتهتم بالشكل والتناسق، والقيمة السياسية تهتم بالمركز الاجتماعي والسلطة.
ويمكن توضيح الفارق بين القيم والمعايير الاجتماعية من خلال المقارنة بينهما فالقيم تتصل على نحو من الانحاء بعالم الاطلاق امّا المعايير فتتعلق بالممارسات الفعلية للافراد لنأخذ على سبيل المثال مفهوم العدل فنجد انّ كل المجتمعات الانسانية تقرّبه كقيمة انسانية مطلقة وتدافع عنه، وهو بمثابة موجه اساسي لعدد كبير من التصرفات، والممارسات اليومية وهو لا يحظى بقيمة تقل أو تزيد في مجتمع من المجتمعات عما هي عليه في المجتمعات الاخرى وما يقال في العدل يقال في الحرية أيضا غير أن التطبيق العملي لكلا المفهومين يختلف تماما بين المجتمعات ويرتبط بسلم المعايير التي تنطوي عليها المنظومات الثقافية والحضارية في كل تنظيم اجتماعي.
وفي ضوء هذا التصور لمفهوم النسق نستطيع توضيح عناصر النسق الديني الاسلامي وكيفية تفاعله في توجيه النسق نحو الغايات التي يسعى إليها الدين أو يعارضها.
ب: مكونات النسق الديني في المجتمع الإسلامي
يتألف النسق الديني الاسلامي من أربع مكونات اساسية يمكن اجمالها على الشكل التالي:
1) القيم
تعد القيم الإنسانية في أبعادها المطلقة بمثابة الأساس الذي قامت عليه الديانات السماوية الثلاث مع أنّ انتشار هذه القيم يعود إلى ما قبل ذلك بزمن طويل لقد عرف الانسان مفاهيم الخير والحق والعدل والحرية والمساواة منذ زمد طويل وتكشف الدراسات التاريخية ان الديانات القديمة والتشريعات التي صبغها في الماضي كانت تنطوي على ذات المبادئ والقيم التي تجسد طموحات الانسان وآماله على مدار تاريخه الطويل، والتي نتجت عن معاناته الكبيرة من جراء اعتداء بعض الناس على بعضهم الاخر.
ومن جراء ممارسته بعضهم للظلم الاجتماعي ازاء غيرهم، لذلك اخذت الديانات القديمة تستقطب الناس لما تنطوي عليه من مبادئ وقيم تتفاعل مع مشاعرهم وعواطفهم وطموحاتهم، حتّى أصبحت هذه القيم بمثابة المبادئ والمعايير التي تحدد مستوى ايمان الفرد ومقدار تمثله لاحكام الدين.
ويقوم الاسلام على هذه القيم، شأنه في ذلك شأن الديانات السماوية الاخرى الى درجة أنّه يجعلها معيارا للايمان وسببا من أسباب المكافأة التي وعد الله بها المتقين والصادقين، ويبين القرآن الكريم ذلك الموقع المتميز الذي تحظى به هذه القيم، وذلك الموقع الذي يحظى به من يتمثل هذه القيم التمثل الصحيح.
فالاسلام بهذا المعنى ينطوي على مبادئ وقيم أخلاقية واجتماعية هي ذاتها قيم الانسان ومبادئه، وهي المستمدة من طموحاته وآماله التي تكونت لديه عبر آلاف السنين، وقد جعلها الاسلام معيارا للإيمان، تأكيدًا لاهميتها في توثيق العلاقات الاجتماعية ونفي الظلم وإحقاق الحق، وإقامة العدل في الارض، وهي جميعا من القيم التي تؤكد عليها الحضارات الانسانية على اختلاف اشكالها وتعدد تجاربها.
2) المعايير
ترمي المعايير الاجتماعية إلى تحديد الوسائل والادوات التي تساعد على تطبيق المبادئ الاخلاقية والقيم الانسانية وفق ظروف المجتمع وخصائص تطوره فالايمان بالحرية والعدالة شيء، والعمل على تحقيقها شيء آخر، وقد يتفق عشرات بل مئات الاشخاص حول أهمية العدل وضرورته في الحياة الاجتماعية، ولا تتفاوت قيمته بين شخص وآخر غير أنّ التطبيق العملي كثيرا ما يأخذ اشكالا تختلف باختلاف المجتمعات وباختلاف الاشخاص وحتى على مستوى الشخص الواحد بين آن وآخر لأنّ التطبيق يرتبط بالممارسة وبالظروف المحيطة، وبالمعايير التي يستخلصها الانسان من تجاربه.
فالسعي الى ترسيخ الحق، وإقامة العدل في ظروف غير مناسبة قد يؤدي الى مزيد من مظاهر الظلم والعدوان مما يجعل هذا السعي محكوما بظروف الواقع لذلك تنشأ مجموعة من المعايير التي تحكم على سلامة هذا السلوك أو ذاك، وصلاحية هذا او غيره على أساس ما ينتجه الواقع من ظروف وملابسات غير معروفة قد تؤدي بالفعل إلى عكس ماهو مطلوب وتصل بالفاعل إلى نتائج لم تكن في حساباته.
ويؤدي التراكم المعرفي للتجارب المتنوعة التي تشهدها المجتمعات إلى تأكيد مجموعة من المعايير التي تساعد على تحقيق القيم، وتوضيح الوسائل التي من شأنها أن تؤدي الى نتائج غير متوقعة، فالاستئثار بالشيء حقه لا تتوافق ومعايير الاخلاق حتى لو كانت مبنية على الحق خاصة اذا ما ترتب على ذلك ضرر مادي أو معنوي بافراد آخرين ويقتضي ذلك ان ترتبط المطالبة بالحقوق بالظروف المناسبة التي تساعد على تحقيق مفهوم العدالة كما ينبغي من حيث المضمون لا من حيث الشكل وهنا تبرز مشكلة متى يطالب الانسان بحقوقه؟ ومتى يتنازل عنها؟ هل يخضع ذلك إلى القيم المطلقة أو المعايير التي تأخذ بعين الاعتبار ظروف الواقع وملابساته؟.
وعلى ذلك تكمن أهمية التشريع الذي يبين الوسائل والادوات والطرق التي يستطيع كل فرد من خلالها ان يبلغ حقوقه دون ان يلجأ بمفرده إلى القيم المطلقة فإذا كان العدل يقتضي ان يأخذ الانسان ما سلب منه فإنّ المعايير الاجتماعية تمنعه من أن يأخذ هذه الحقوق بطرق فردية قد تسهم في تعزيز مظاهر الظلم في المجتمع وتحول دون تحقيق العدالة.
وتشمل أحكام التشريع الاسلامي قوانين ومعايير وتنظم من شأنها ان تحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الناس، وفي ضوء القيم العامة التي نبني الاسلام على اساسها وهي قيم الخير والعدل والمساواة وغيرها..
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تبين طبيعة الحقوق والواجبات المفروضة على الانسان وهو في كل موقع من المواقع التي يشغلها في التنظيم الاجتماعي وفي كل دور يؤديه في ذلك النظام ومثال ذلك قوله عز وجل (إنّ الله يأمركم ان تؤدوا الامانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل).
فإذا تمثل الناس القيم الانسانية أحسن تمثل، وأخذوا يمارسون احكام الشريعة في ضوء تلك القيم كانوا مسلمين بالضرورة، وكانوا قادرين على ان يحققوا المبادئ الاخلاقية والقيمية في أرض الواقع احسن تحقيق، مما يساعدهم كثيرا في نشر الاسلام وتطوير المجتمع الاسلامي.
3) الجماعات
يختلف ابناء المجتمع الواحد بالنسبة الى النسق الديني تبعا لمواقعهم الاجتماعية وينقسمون في ذلك الى جماعات تتمايز بمستوى معرفتها وعلومها وثقافاتها لذلك تتباين الادوار المنوطة بكل فئة وتختلف الوظائف التي مكن ان تؤديها للحفاظ على بنية النسق وتحقيق اهدافه ويتطلب قيام الجماعة وضعا معينا يساعد على وجود صلات اجتماعية بين الافراد، وتأثيرات متبادلة يؤثر كل منهم في الاخر تبعا لموقعه في النسق الديني وتبعا لجملة من الخصائص التي تصف كلا منهما ويقتضي ذلك في أغلب الاحيان وجود مصالح مشتركة بين الافراد وطموحات وأهداف وحوافز تدفعُهم الى عمليات التواصل وفي اطار النسق الديني في المجتمع الاسلامي يمكن ان نميز بين الجماعات على اساس مواقعها في التنظيمات الاجتماعية، وعلى أساس اشكال ارتباطها بالنسق الديني وما تؤديه من أعمال وذلك على الاسس التالية.
1) مجموعة العلماء والمشرعين
وهي المجموعة التي تأخذ على عاتقها توضيح أمور التشريع وبيان الحلال والحرام في أمور الدين وغالبا ما تتصف هذه المجموعة باكتسابها للمعارف الدينية بطرق ووسائل متعارف عليها ومتفق على أهميتها وتعمل هذه المجموعة على استخلاص الاحكام المناسبة للقضايا المتنوعة من مصادر التشريع الاسلامي المتمثلة بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف والاجماع والقياس وحجة العقل وخلافه... وتحضر هذه المجموعة بموقع اجتماعي متميز يجعلها قادرة على استقطاب الناس والتفافهم حولها بحكم تفوقها المعازق الدينية وطرق استنباط الاحكام بالاضافة إلى إحساس عامة الناس بالحاجة إليها، وعدم قدرتهم على الاستغناء عنها.
2) جماعات الضغط السياسي
وهي المجموعة من الاشخاص التي تتولى مقاليد السلطة السياسية في المجتمع وتكمن اهميتها بالنسبة إلى النسق الديني في الاهداف التي تتوخاها لهذا النسق والمتمثلة بتوجيهه نحو المسار الذي يضمن لها حفظ النظام، وتحقيق الاستقرار وتعود اليها المصلحة الاولى في توظيف الدين وتوجيه المشاعر فهي لا تقف موقف الحياد إزاء التشريعات والاحكام التي يستخلصها علماء الشريعة، انما تعمل جاهدة على المشاركة والتأثير والتوجيه بطرق متعددة، مباشرة احيانا وغير مباشرة تبعا للخصائص التي تصف كلاّ من العلماء والحكام وتميزهم في ظروف معطاة.
3) جماعات الضغط الاقتصادي
والمقصود بذلك تلك الجماعات من الناس التي تهيمن على النشاطات الاقتصادية والفعاليات الانتاجية في المجتمع كفئات التجار وملاك الاراضي، والعقارات وغيرهم وتكمن اهمية هذه الجماعات بالنسبة إلى النسق الديني في كونها تعمل جاهدة أيضا لتوجيه النسق تبعا لمصالحها المادية والاقتصادية وتستخدم في سبيل ذلك مجموعة الوسائل المتاحة لها كممارسة الضغوط المعنوية والادبية والمادية على مجموعة العلماء والمشرعين من خلال بذل الهدايا والعطاءات والولائم وغيرها.
4) جماعات المتدينين
وهي الجماعات التي تتفاعل مع أحكام الشريعة كغاية بذاتها، للعمل على تطبيقها وتنفيذ أحكام وتلعب العواطف والمشاعر بالنسبة إلى هذه الفئة دورا أساسيا وخاصة في مناقشتها لاحكام التشريع وقليلا ما تصنع أيا من الاحكام موضع نقد ونقاش يغلب على أفرادها طابع التسليم بما تقره جماعة العلماء والمشرعين ولا تجد أية ضرورة لاعادة النظر في مضمون أي حكم أو معيار ديني أقره هذا المجتهد أو ذاك.
4) الأدوار
يستخدم مفهوم الدور للدلالة على أنماط السلوك المتوقعة من هذه المجموعة أو تلك، وهي تنقسم في اطار النسق الديني الاسلامي تبعا لانواع الجماعات فهناك الدور الذي تؤديه مجموعة العلماء والمشرعين، وهناك الدور الذي تؤديه جماعات الضغط السياسي وكذلك الضغط الذي تؤديه جماعات الضغط الاقتصادي وأخيرا هناك الدور الذي تؤديه جماعات المتدينين فالدور المتوقع من جماعات العلماء والمشرعين ان يتبعوا تطور الاحداث وطبيعة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ورصد أبعادها ومن ثم التعرف على حاجات الناس ولوازم تطورهم وتحسين أحوالهم واستخلاص الاحكام الشرعية التي تناسب الظرف والمراحل المختلفة وكل ذلك في ضوء تصوراتهم لوحدة المجتمع الاسلامي وتماسك عناصره وتحقيق اهدافه وبالتالي فالوظيفة الاقتصادية والاجتماعية المنوطة بهم تكمن في منح النسق الديني قدرته على الاستمرارية والتواصل والتفاعل مع الواقع المتبدل، والبحث عن الوسائل التي تضمن تفاعل النّاس مع تحولات الواقع على أساس القواعد الشرعية التي تتوافق مع أحكام الدين والى جانب ذلك تعمل جماعات الضغط السياسي على ممارسة الاعمال والتصرفات التي من شأنها توظيف الدين لاهداف التنظيم السياسي، وتحقيق الاستقرار والتوازن السياسيين دون اضطرابات ومشكلات تهدد أمن الدولة وامن المجتمع، ولا يتاح ذلك على نحو فعال ما لم يتم التنسيق مع مجموعات العلماء والمشرعين الذين يلعبون القادة بالنسبة إلى جماعات المتدينين، بحكم ما يتميزون به من نفوذ ومكانة معنوية في نفوسهم.
أما جماعات الضغط الاقتصادي، فلها شأن قريب من جماعات الضغط السياسي من حيث المصالح والاهداف، فهي تسعى جاهدة إلى توظيف النسق الديني أيضا لمصالحها الاقتصادية والمادية من خلال التنسيق مع علماء التشريع، والتأثير عليهم وابداء الاجتهادات الفقهية المناسبة إلى مصالحها، وكثيرا ما يجتهد عدد كبير من الاقتصاديين في دراسة التشريع الاسلامي بغية توضيح الاحكام التي من شأنها ان تعزز الواقع الاقتصادي على نحو من الانحاء يتحقق من خلاله ضمان المصالح والمنافع والعوائد التجارية لجماعات اقتصادية دون أخرى.
وأخيرا تبرز مجموعة من الادوار المتوقعة للجماعات المتدينة التي تنظر الى الدين غايةً بذاته والتي تجعل من أحكام الشريعة كما يوضحها العلماء المعنيين بذلك اساسا لتصرفاتها وممارساتها اليومية ولأشكال الفعل الذي تمارسه على الدوام وهي تهدف من وراء ذلك الى التقرب من الله عزّ وجلّ، والابتعاد عما حرمه الله، ونهى عنه لذلك غالبا ما تقوم ممارساتها وأشكال فعلها على مبدأ التسليم بما يقره علماء التشريع، دون ان تكون هناك مشاركة عقلية فعلية بانتاج هذه الاحكام وتكوينها وغالبا ما تكون العواطف والمشاعر هي الاساس الذي تبني عليه أنماط السلوك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.