مازلتُ أرى نفسي صبيّا يافِعًا في صيف هذا العام 1961 مزهوًّا باقتطاع شهادتَيْ انتهاء الدروس الابتدائية والسادسة بماهي بطاقة عبور للثانوي في محيط عائلتي لم يبدُ الفرحُ لنجاح الطفل الاول في حقيقة حجمه فوالداي كانا يتخبّطان في مشاريع تربية الصّغار ومجابهة حاجيات ذلك. ووالدي بالتحديد كان كتُوما لهمومه ولهذه الاجراءات الكبيرة المتعلقة بغلق مداخل قناة بنزرت للسّفن الفرنسية، وكان يشارك في هذه العمليات في صمت وسرّية كاملتين ولم تكشف سرّه الا هذه السهرات الليلية التي لم يكن متعودا عليها مازلت اتمثّل مدينة بنزرت وهي سائرة نحو »حربها« المفروضة عليها في شبه غفلة من أهلها في معظمهم الذين لم يكن ليتصوّروا انّ بورقيبة سيضع مُخططه حيز التنفيذ وان فرنسا ستكون بتلك الوحشية في التعامُل مع المسألة. مُظاهرات وتجمّعات ثمّ صمْتٌ يعقبُه يوم الاربعاء 5 جويلية 1961 توافد جموع المتطوّعين على مدينة بنزرت ومنطقتها. المظاهرات في كامل البلاد على اشدّها ينادي السائرون فيها »الجلاء، السّلاح«. في بنزرت ومنطقتها انصرف المتطوّعون الى وضع الحواجز واقامة السدود في ابرز المواقع بالمدينة للحدّ من تحرّكات الجنود الفرنسيين ومواكبة هذه التحركات. خطوات الحرب قادمة حثيثة تفرض نفسها على كافة متساكيني المدينة ثرائها العين البريئة تتجسّد في جملة اجراءات تحشد الطاقات وتعبّئ الارادات. لم اكن افهم في البداية كيف استبدّ الحذر الشديد بسكان عمارة الغالي المواجهة لمنزل والديّ وهي آهلة بالفرنسيين دون سواهم والحال انّ هذه العمارة كانت نموذجا للحركة والحيويّة. تراكمات ايام النصف الثاني من شهر جويلية 1961 كانت حُبْلى بالانشغالات وحاملة لأبغض ما ابتدعته عصارة الفكرالبشري: الحربُ. وبالفعل فقد كانت الحربُ قدرَ متساكني بنزرت وكان اجلها محتوما. يوم الاربعاء 19 جويلية 1961 نهرني ابي عن مغادرة حمى دارنا العائلية لاني سألته عن المظاهرة الحاشدة التي كان التونسيون يعدّونها بنيّة القوية الى عقر دار الجيش الفرنسي بالمصيدة وألحّ والدي في التهديد كانه اعتزم الاستئثار بالشهادة لوحده فامتثلت لكلامه عندما غمرتني عاطفة خوفه على زوجته وابنائه الصغار وحمّلني مسؤولية شدّ ازرهم بالبقاء مرابطا معهم. وانخرط والدي في المظاهرة التي جابت اكبر شوارع مدينة بنزرت لتبلغ المصيدة وتنتهي في بركة من الدم بعد أن اطلق الجنود الفرنسيون النار على المتظاهرين. وفي حركة جمع الجرحى اكتشف والدي ان ابنه المكّي قد اصيب وهو يترنّح في دمائه مناديا والده لاغاثته ففعل كما فعل ذلك مع غيره من الجرحى. وشاع الخبر في المدينة وتناقلته الالسن وجاءني بعض من اترابي ليعلموني بالحادثة ولم اعرف كيف اتصرّف مع والدتي التي كانت خوفها ان ينال البطشُ زوجَهَا فإذا بابنها يصابُ وخيّرت التريّث املا في ايجاد الصيغة التي لا تصدمها فوْق اللّزوم. وسرحت بافكاري اتصوّر المآل واحاول فكّ شفرة بقيّة ما ينتظرنا. ولم يصمد شقيقي »المكّي بن حمدة فليس« ازاء جراحه وفارق الحياة ولم نعلم بذلك الا بعد اكثر من خميسن يومًا! لقد كانت أخبارهم لنا أنّه نقل الى احد مستشفيات العاصمة للعلاج وانتظرنا نتيجة لهذا العلاج فكان شهادة طبيّة لوفاتة يوم 21 جويلية 1961 بعد ان كنا زرناه صحبة والدي يوم الخميس 20! عندما خرجت مع والدي صبيحة الاحد 23 جويلية 1961 بعد ان اوقف مجلس الامن اطلاق النار رأيت في مخرج زقاق المنوبيّة على نهج الشيخ ادريس عشرات الجثث ملغاة على الارض في اوضاع مختلفة بعضها مُزْرٍ.. تونسيون شبان وكهول قضوا بعد ان سالت دماؤهم لسقي ذرات من تراب تونس في بنزرت! قال الكبار إنّه لا مردّ لحمل هذه الجثث على عربات الى المقبرة، مقبرة العين ببنزرت وقال الكبار لشباب وكهول حيّنا: الى العمل! لم اكن اتصوّر عندما ساعدت على حمل أجساد شهداء لا اعرفهم على عربات الى مقبرة العين انني احمل من خلالهم رمزيا شقيقي الى مثواه الاخير ولم يصلب عوده بعد. هؤلاء الشهداء سوف تبكيهم امهاتهم وعائلاتهم اكثر من مرة على الاقل مرّة لانهم فارقوا الحياة، واخرى لانّهم مجهولو المثوى... فإلى كل هؤلاء الشهداء الذين سقطوا في ربوع مدينة بنزرت ومنطقتها ايام 19، 20، 21 و22 جويلية 1961 من اجل كرامة تونس ومشروع استقلالها آيات العرفان والاجلال ومعاني الاكبار والانحناء. والى رمزيّة بنزرت في حرب تونس ضدّ الاستعمار قبلة نضالية عميقة وعناق ودّي حار بعد ان صمدنا طيلة كل هذا النصف قرن في الدفاع عن على انّ 15 اكتوبر من كل عام هو ذكرى الوفاء للشهداء الابرار ولقيم واجب الذاكرة، وليس فرصة للولاء المستكين والاخلاص الحقير لمستبدٍّ مريض هُنا ولدكتاتور فاسد هُناك. فليتطهّر الولائيون إن استطاعوا...