تبقى الديمقراطية من أسمى معاني الانسانية لما تختزله من نمط وهّاج وسحري غازل الانسان منذ الحضارة اليونانية الى حين الثورة الفرنسية التي قدمت لنا النسخة الحالية للديمقراطية والمتمثلة في العقد الاجتماعي الذي تنبني على أساسه الدولة المدنية حامية الحرية والكرامة. لبناء الدولة المدنية وتأسيس الجمهورية التي تقوم على مبادئ التفريق بين السلط وحرية الانسان وبناء الانسان انتفض الشعب التونسي ليؤسس ثورته. لكن ولئن كانت الديمقراطية مطلبًا انسانيًّا عاما فان التجارب البشرية أفرزت عديد المدارس الفكرية التي لا تؤمن بهذا النمط منهجًا حياتيًّا وغاية اجتماعيَّةً بل هناك من يعتبرها عملا شيطانيا كالاتجاهات الدينية المتطرفة او بضاعة ليبرالية ملغومة لا تخدم مصالح الطبقة الكادحة فوجب التصدي لها مثلما ينادي اليه الفكر اليساري المتطرف، كما ان المدارس الفكرية القومية لا تؤمن في منطلقاتها الايديولوجية بالديمقراطية بقدر ما تؤمن بالبرنامج الوحدوي المقدس والولاء للزعيم والقائد والملهم الذي يحمي هذا البرنامج من كل ما يحول دون ?نجازه. ولأن كل هذه المدارس الفكرية موجودة على الساحة السياسية في تونس لا تفوتني الاشارة الى ان معظم الاحزاب الوسطية التي نشأت بعد تاريخ 14 جانفي انتمى أغلب أعضائها الى التجمع مع ما يكتنفه هذا الانتماء من ايمان بنمط سياسي يقوم على مبدأ الحزب الواحد والانضواء تحت راية القائد والانحناء الى المنقذ وتأليه وليّ النعمة فلا قول الا ما يقوله الرئيس، ولا فعل الا ما يفعله الزعيم، ولا فكر الا ما يفكر فيه الصانع. كل هذه التيارات الفكرية الموجودة على الساحة السياسية التونسية مثلما أسلفت الذكر تجاوزت منطلقاتها الايديولوجية وصارت بين عشية وضحاها تتشدق بالديمقراطية وحقوق الانسان، فان كانت الديمقراطية بالنسبة إلى هؤلاء وسيلة للوصول الى السلطة او بالاحرى وعودًا ماكيفالية فَيَا بئس مصير هذا الشعب المسكين الذي سيعيد تجارب انسانية سابقة تمثلت في وصول عديد القوى المتطرفة الى الحكم عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة على غرار تجربة ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية. أما اذا صارت الديمقراطية بالنسبة إلى التيارات الفكرية المشار اليها آنفا غاية في حد ذاتها فإني أصطف الى جانب فوكوياما وأعلن من تونس عن نهاية التاريخ وانبعاث الانسان الأخير حيث ينعدم الصراع بين الاقطاب الفكرية ويتفق الجميع على بناء جمهورية في شكل دولة مدنية تحفظ جميع مبادئ الديمقراطية كالحرية والمواطنة والكرامة والعدالة الاجتماعية لينتفي الصراع ونعيش في وئام انساني وسلام أبدي...؟