تكتسي الدّعوة التي صاغها الدكتور والباحث الجامعي الاستاذ علي المحجوبي ضمن تصريح لاحدى القنوات الفضائية، اهمية بالغة للغاية حيث نادت هذه الدعوة باعادة تأسيس المجلس الوطني لحماية الثورة يكون الاتحاد العام التونسي للشغل احد ميكانيزماته الرئيسية.. وذلك من أجل صيانة دماء شهداء الثورة البواسل وتحصين المسار الثوري الوطني من كل زيغ او التفاف او انتكاسة او اجهاض مهما كان مصدرُهُ والتصدي الميداني الحازم لجميع الصفقات الساسية الداخلية منها والخارجية.. التي قد تكون تخطّط او قد تكون خطّطت بعد لاجهاض ثورة الشعب والشهداء او تقزيمها او حصرها في مربّع ضيّق ثم الانقضاض عليها فقد اصبح الجميع يعرف جيدا الملابسات والظروف التي حصلت فيها انتخابات المجلس التأسيسي ونوعية الجرائم والخروق الانتخابية الصارخة والعلنية الموصوفة التي اقترفها كثيرون دون اي ردع اداري او قضائي كما ان انطباعات الرأي العام وارتساماته حول ظروف تلك الانتخابات ونتائجها المرقّمة تراوحت اجمالا بين التهليل والانبهار والاستغراب والحيرة والذهول والصدمة والخوف والتوجس والواقعية الجدلية والاستيعاب الواعي وضمن هذا السياق تحديدا يكون من المفيد للغاية، بل من الحيوي جدّا استحضار تصريحات الدكتور والمختص في الفكر الاسلامي وتاريخ الاديان الاستاذ محمد الطالبي التي نشرتها جريدة الشروق التونسية ضمن عددها ليوم السبت 5 نوفمبر 2011 (الصفحتين الرابعة والخامسة).. حيث أثلج الدكتور الطالبي صدور الجميع ورفع الطلاسم عن الأذهان والألثمة عن الوجوه حين قال حرفيًّا تعقيبا على نتائج انتخابات المجلس التأسيسي »هناك من سمّاها مفاجعة، فهي لم تكن منتظرة ونحن لا نعرف الشعب التونسي، ولا يمكن ان نتكهّن بمواقفه« ثم يضيف الى ذلك: »فالمواجهة لم تحصل بين اتجاهات وتصورات فكرية ثقافية لما يجب ان يُكتب في الدستور ويحميه الدستور، حيث كان التركيز على المشاغل الاقتصادية ومعرفة ايّ حزب اقرب إلى الفقراء والمساكين... والذي قام بحملة ميدانية يتّصل فيها بالمحرومين ويقدّم لهم اعانات هو حزب النهضة فهو الذي اعطى اكثر أمل للمحرومين« كما ابرز الدكتور الطالبي في موقع آخر من تصريحاته المشار اليها انّ »خطاب النهضة مبنيّ على الغموض والابهام في ما يخصّ السياسة التعليمية والثقافية والحريات الاساسية« ووزارة الثقافة الحالية تساند السلفية وتصبّ في معينها وتقدّم لها الخدمات« ثم اردف الدكتور الطالبي موقظًا العقول والقلوب والنفوس ومحذّرا من مستقبل داكن غامض و مجهول.. قائلا حرفيّا: »فالاحزاب الحداثية بدأت في التسابق الى الانتخابات خاسرةً، أي بضمير الخاسر في مو اجهتها مع النّهضة ولقد أعطتها شهادة ثقة فيها وهذا ما أدى الى التفاف الجمهور العريض حولها، لانها تغالطه ولا تقول له الحقيقة... فالحقيقة توجد في القاعدة السلفية وليس عند الغنّوشي... (...) فالسلفيّون يقولون له انّ لا اجتهاد مع الحديث ولو أراد تطبيق آرائه لانقلبت عليه القاعدة السلفية فالغنّوشي ليس بضمان لنا ضدّ السلفية... فهو الذي وضعت فيه ثقتها كي يمكّنها من الوصول الى السلطة وتكييف المجتمع كما تريدُ، عن طريق التعليم والثقافة«. كما أنّ اجابة الدكتور محمد الطالبي عن السّؤال المتعلق بالفوارق الشكلية بين حزب التحرير السلفي وجماعة شيوخ النهضة جاءت في ابّانها كالفانوس الساطع الذي يرفع الغشاوة ويكشف مخطّط توزيع الادوار وينير الدروب حيث قال الدكتور بالحرف الواحد: »حزب التحرير هو الوجه الخفيّ للنهضة فلا ننسى أنّ راشد الغنوشي في القاهرة، حين الحّوا عليه بالسؤال حول غاياته، أجاب قائلا: »غايتنا في نهاية المطاف هي إقامة الخلافة«. فالفرق بين حزب التحرير وحزب النهضة هو أنّ حزب التحرير يريد ان يسارع باقامة خلافة تحكم بالشريعة وحزب النهضة يريد ان يصل بنا إلى ذلك على مراحل عن طريق التعليم والثقافة شيئا فشيئا، يكيّفُ المجتمع ويجعل أغلبيته تقبل بذلك: فالهدف واحد، والاختلاف في الاسلوب.. فالغنوشي سجينُ القاعدة السلفية التي أوصلته إلى السلطة، وهو يرقص على سلاسلها«. إنّ اشارتي الواعية تمامًا الى نداء الدكتور علي المحجوبي من ناحية.. وإلى تصريحات الدكتور محمّد الطالبي من ناحية ثانية وبصورة متوازية يبرّرها التقاطع الجيّد والبنّاء بين ذلك النّداء وتلك التصريحات وهو ما يحتّم على الجميع وقفة تأمّل وطنية متماسكة ويقظة شعبيّة حازمة ودائمة.. بعيدة تماما عن كلّ اشكال الذهول الباهت والاستكانة الانهزامية وجميع مظاهر التباكي والنحيب وجلد الذات وبعيدة ايضا عن عقلية التجنّي او التشفي المبتذلة: فالمجلس التأسيسي ليس على الاطلاق نهاية لثورة 14 جانفي المجيدة (كما تسعى الى ذلك الخنادق المناوئة للثورة) بل هو طوْرٌ من أطوار الثورة لكنّه طورٌ أساسي بلا ريب... كما أنّه لا يفوتني بصفتي مواطنا تونسيا محرّرًا ان التقاطع مباشرة مع تصريحات الدكتور الطالبي من باب تدعيمها وتوطيد مصداقيتها لأشير في نفس السياق إلى ما يلي: 1 التصريح الصحافي المنشور (جوان جويلية 2011) الذي أدلى به راشد الغنوشي واعتبرته عديد الاوساط السياسية والاعلامية والحقوقية (إعلان حرب وتحريضا على التباغض العرقي والديني).. والذي ادّعى فيه فتواه القائلة حرفيّا: »الاسلاميون هم السكان الأصليون للبلاد... أمّا العلمانيون فهم دخلاء عليها«! 2 الخطاب العلني عبر القناة التلفزية المصرية الرسمية (والذي اعادت بثّه قناة الجزيرة عديد المرات) الذي صرّح فيه يوم عيد الاضحى بالذات، المدعو محمد بديع احد شيوخ الاخوان في مصر قائلا حرفيّا بأنّ »الثورات العربية تمثّل تمهيدا لإقامة نظام الخلافة«. 3 أنّ أوّل البرقيات بالتهنئة التي وصلت إلى مقرّ حزب النهضة، كانت على التوالي صادرة عن عبّاس مدني بالجزائر، وهيلاري كلينتون، وأمير قطر، وأوباما، وعلي بلحاج، ورجب أردوغان ثم مصطفى عبد الجليل من ليبيا في انتظار برقيات مماثلة من أيمن الظواهري والملاّ عمر وحسن الترابي وجمال البنّا من مصر!! كما انّه في سياق متّصل بالمجلس التأسيسي في تركيبته الحالية.. عبّرت عديد الاطراف السياسية والاعلامية والحقوقية بل وحتى عديد اوساط الرأي العام المدني عن خشيتها الحقيقية من تحويل فضاء المجلس التأسيسي إلى موقع تطاحن ومبارزة وصراع على السلطة بين قطر والسعودية بالوكالة اي بين جماعة الغنوشي وفريق الهاشمي الحامدي في نطاق نبْش نزاع قديم جديد ومتجدّد!! ❊ الثورة والوطن... أكبر من المقاعد والحقائب انّه من المفارقات التي من اليسير تفكيك شفرتها، ان تظلّ المنظمات والاحزاب الوطنية العريقة التي خاضت طيلة نصف قرن غمار المقاومة الاجتماعية والسياسية والحقوقية في مواجهة غير متكافئة مع نظام 56 وعصابة 87 على حدّ السّواء... أن تظلّ خارج المجلس التأسيسي وهي التي كانت اول المنادين به وناضلت طويلا من أجل الوصول اليه في ظروف حالكة مظلمة (مطاردة حصار اعتقالات تعذيب محاكمات سياسية سجون وتجنيد ومعتقلا) فضلا عن مشاركتها الفعّالة المباشرة في مسار 17 ديسمبر 14 جانفي وتجذير ذلك المسار الثوريي الوطني واحتضان الثورة والانصهار فيها والدفاع عنها وحمايتها وتحصينها من الخنادق المناوئة في الداخل والخارج فالرّصد الدقيق لحيثيات نتائج الانتخابات افرز غرائب قابلة للاستيعاب والتفكيك من بينها حزب العمل التونسي المنحدر مباشرة من أروقة منظمة نقابية عمالية ذات ما يقارب نصف مليون منخرط واحزاب وطنية عريقة اخرى على غرار حزب العمّال الشيوعي التونسي وحركة الوطنيين الديموقراطيين، وحزب العمل الوطني الديموقراطي وتيار القوميين العرب وحركة البعث ومئات من المستقلين.. لم يفوزوا بعدد المقاعد التي تتناسب مع سجلاّتهم الثرية بالمقاومة والنضال الدؤوب والتضحيات الجسيمة نحو نظام سياسي مدني متحرّر، ديمقراطي شعبي ووطني حتى النخاع، رغم ان جانبا وافرا من مناضليهم، نقابيّون طيلة عقود! فالاحزاب السياسية المدنية والمنظمات الجماهيرية الوطنية والقائمات المستقلة الصادقة والمناضلة لم تفزّْ بالعدد المنشود من المقاعد ليس فقط للتشويه الاعلامي المتعمّد والمنظّم الذي تعرّضت له قبل الانتخابات واثناءها وبعدها وليس فقط بسبب المحاصرة الدعائية المضادة ذات الطابع التحريضي الصارخ، وليس فقط بسبب التخريب المنهجي الذي تعرّض له الوعي الفردي والجماعي السائد بل ايضا لانّ تلك الاحزاب والمنظمات والقوى الوطنية العريقة التي انصهرت تماما في ثورة 14 جانفي المجيدة ودافعت عنها وحصّنتها لم تفكّر مجرّد التفكيرفي الالتجاء الى مستنقع المال الانتخابي والتمعّش السياسي عبر استغلال الدين والنعرات الجهوية الشوفينية والقبلية والعشائريّة المقرفة والتمويل الخليجي الموبوء: العلنيُّ منه والخفيُّ.. واموال اصحاب الشركات والمنشآت السياحية و»الشرفاء« من بقايا التجمّع المنهار ومجموعات ترويج البضاعات المهرّبة عبر الحدود وغيرها... ومهما يكن من امر فإنّ التاريخ سيبرهن مرّة اخرى على انّ الحصول على مقعد واحد نظيف وطاهر افضل بكثير من ثمانين معقد أوراقها مركّبة...