عندما يكون هذا العدد بين يديك يكون الاتحاد العام التونسي للشغل قد دخل المرحلة العملية لانجاز مؤتمره العام وهو الحدث الذي يشد اليه منذ الاستعدادات الاولى اهتمام الرأي العام الوطني عموما والرأي العام النقابي على الوجه الأخص. واعتقادي ان عمق دائرة هذا الاهتمام تتأتى من عوامل تاريخية ونضالية محسوبة للاتحاد وهياكله طالما أنه شكل حزام آمان لتونس وشعبها وتتأتى ايضا من عوامل مستجدة أوجدتها ثورة 14 جانفي 2011. في هذا السياق أجدني في البداية مشدودا الى النبش في الذاكرة الوطنية والنقابية لعلمي بحفظها الجيد لكل اعتمالات الساحة النقابية حديثها وقديمها وما نجده بها يؤكد ان الاتحاد العام التونسي للشغل بحكم مرجعيته التاريخية وتجذره في وجدان الشعب على مختلف أطيافه السياسية والفكرية والاجتماعية لا يمكن ان تكون له محطة او مناسبة تمر دون ان يشغل بها الرأي العام وان يستحوذ على جزء كبير من اهتماماته كيف لا يكون ذلك وهو الذي تحمل ابان الاستعمار الفرنسي لبلادنا عبء ثورة التحرير وقدم التضحيات الجسام واستكن بحب الشعب وهمومه فقدم قوافل الشهداء في عدة معارك منها حوادث 5 أوت 1947 ومنها احداث النفيضة سنة 1951 وتوجها باستشهاد الزعيم الراحل مؤسس اتحادنا فرحات حشاد وكيف لا يكون ذلك ايضا وهو من تحمل عبء بناء دولة الاستقلال وكانت له في سنوات الجمر المساهمات الفاعلة والقدرة الفائقة في رسم سياسات التنمية في الدولة الحديثة وقد تكون خطاه في ذلك الزمن اسرع بكثير من خطى النظام القائم مما أغاظ الحاكم وبدأ يفكر في التخلص منه والكيد لقياداته وهياكله ففرض عليه عديد الازمات من ازمة 1965 الى ازمة 1978 الى 1985 لكن الاتحاد ما بدّل تبديلا وظلت هياكله وقياداته وفية لمبادئ نشأته واهدافه وما خرج مرة واحدة مهزوما او مكسورا بقدر ما خرج موحدا اصلب واقوى وأوثق صلة بالشعب وبالوطن. هذا بعجالة ماراكمته الذاكرة الوطنية استعرضه من باب التذكير فقط ثم ألتفت مرة ثانية لأجد التاريخ يفتح بابه من جديد للاتحاد ويسجل له تمسكه بعقد مؤتمره هذا في ظل نقطتي ضوء لا يمكن المرور عليهما هكذا دون رسم اشارات. النقطة الاولى: وهي التي تعني ان الاتحاد العام التونسي للشغل يعقد مؤتمره في ظرف دقيق من حياة شعبنا وبلادنا يتسم بحراك ما بعد ثورة 14 جانفي التي انهت حكما دكتاتوريا ظل جاثما علينا لأكثر من عقدين بما يلقي على الاتحاد مسؤوليات جساما تؤكد طبيعة ساحته التي تأبى الفراغ وترفض سياسات فتح النوافذ قبل الابواب خاصة عندما يتعلق الحراك بترتيب حياة الشعب واستقرار البلاد وسلامة الوطن وسندي في هذا الكلام الاضرابات والمسيرات والاعتصامات والاحتجاجات التي قام بها النقابيون في كامل انحاء البلاد منذ اندلاع الشرارة الاولى للثورة الى حد ولادة حالة يوم 14 جانفي وما جاء بعد من حراك سياسي واجتماعي كان الفاعل المرفوع فيه هو الاتحاد العام التونسي للشغل الذي سعى الى تجميع الاحزاب السياسية وبناء مشاورات ومفاوضات بشأن نقل السلطة، الدعوة الى حل التجمع الدستوري الديمقراطي والتصدي لقيام حكومة الغنوشي الاولى والثانية ودعم ومساندة اعتصام القصبة الاول والثاني... الى اخره واعتبر ذلك في المشهد السياسي نجاحا اضافيا للاتحاد وهو النجاح الذي أغاظ من أغاظ وأسقط في يدي العديد ممن ركبوا الثورة وهي تسير فأصدروا حكما «بالتخاذل» على قيادة الاتحاد واصفين إياها «بالقيادة الصامتة» طيلة مخاض الثورة وبالقيادة التي لم «تتحرك» الا في الربع ساعة الاخير... واعتقد أن اصحاب هذا الادعاء لم يواكبوا الساحة النقابية ولا يعرفون اسرارها وخباياها واعتقد انهم لم يدخلوا الساحة في ذلك الوقت اطلاقا ولم يعايشوا معاناة النقابيين والمضايقات التي استهدفتهم سواء في الساحة او في مواقع العمل او حتى في المنازل واعتقد انه غاب عنهم ان القيادة النقابية هي التي شرّعت للجهات حرية التحرك والقيام بالاضرابات والمسيرات دون مركزة ذلك في ساحة محمد علي فقط لانه لو تم ذلك لاستطاع النظام الذي سقط بقوة بطشه وآلته القمعية ان يخمد نار الثورة ويتعامل معها بنفس اسلوب معاملته لأحداث 26 جانفي 1978. هذه الصورة المشدودة الى حبال التاريخ والتي تسجل بكل الالوان الصفحات المضيئة في تاريخ اتحادنا العظيم هي منطلق نقطة الضوء الثانية والتي لا يمكن ان تغيب على هياكلنا النقابية ونواب العمال في هذا المؤتمر طبيعة الظرف الاستثنائي الذي تمر به البلاد ويعقد فيه المؤتمر حيث تلقى على الاتحاد مسؤوليات كثيرة ليس اقلها المشاركة الفعلية في بناء الدولة الوطنية الحديثة مثلما ساهم في بناء دولة الاستقلال سابقا وليس أقلها ايضا العودة الى دوره الرقابي والتعديلي بما يكرس فعلا دولة القانون والمؤسسات ويدعم المسار الديمقراطي ويحقق العدالة الانتقالية وليس اقل من هذا كله اعادة ترتيب الملفات الاجتماعية وتحيينها بما يحقق طموحات العمال ويؤمن لهم الاستقرار المهني والعيش الكريم. هذا البعض من المسؤوليات التي تنتظر الاتحاد في المرحلة الراهنة وتفاقم من مسؤولياته تدفع اليوم المؤتمرين نواب العمال الى تحكيم العقل وتغليب مبادئ الاتحاد واهدافه على كل الرؤى الايديولوجية او الفئوية الضيقة ذلك انه وإن سبق السيف العذل وتحتكم القاعدة النقابية في هذا المؤتمر الى حيثيات الفصل العاشر من النظام الداخلي للاتحاد مكرسة بذلك ثورة حقيقية على درب الممارسة الديمقراطية والقطع مع سياسات الاستمرارية والسلطوية فاني ارى ان هذا الفصل يتم الاحتكام اليه في ظرف لا تحتمل تبعاته حيث يحرم بعضا من كوادرنا النقابية التي أثبتت كفاءة وجدارة بتحمل المسؤولية ومازال بامكانها العطاء والبذل والساحة النقابية تحتاجها في كل تفاعلاتها واهتماماتها طبعا هذا رأيي الخاص لكن ثمة رسالة اريد ان أوجهها الى الاخوة النقابيين لأقول ان العدد الكبير من الاخوة النقابيين الذين بعثوا بترشحاتهم لعضوية المكتب التنفيذي يدل على ان الوصول الى قيادة المنظمة ليس محكوما بطبيعة التحالفات الفكرية او التوازنات الجهوية والقطاعية بقدر ما هو مسار نضالي يؤسس له المترشح عبر تدرجه في المسؤوليات النقابية وفي القيام بواجبه وفي نكران ذاته وفي حبه للعمل والتضحية من اجل غيره وفي الالتزام بمبادئ الاتحاد واهداف نشأته لذلك ان كل مترشح لا يمكن ان يكو ن الا احد ابناء الاتحاد واحد مناضليه ولن يكون الا سليل الحامي وحشاد والتليلي وعاشور وبن قدور وقاقي وغيرهم ممن قضوا في خدمة هذا الاتحاد العظيم وكل من سيفرزه الصندوق لا يمكن ان يكون الا تعبيرا عن ارادة العمال وحسن اختياراتهم ولا يمكن ان يكون الا تجسيما للممارسة الديمقراطية الحقيقية وتكريس نبل مفاهيمها في كل مراحل استعمالها. على انه ثمة رهانات اليوم يقف عندها المشهد النقابي لا تحتمل برأيي الاحتكام الراديكالي الى صندوق الاقتراع والذي قد لا يلبي الحاجة المطلوبة من مؤتمر الاتحاد على خلفية ما ذكرنا من استحقاقات المرحلة والمسؤوليات الملقاة على عاتقه فضلا عن رمزية الواقع المتسم بالتعددية النقابية المكرسة فعلا وقد تحذو أحزاب سياسية حذوها لبعث نقابات تابعة لها وهو ما يمس من قدرة الاتحاد التعبوية ويخفض من نسبة منخرطيه وربما يخفض من توهجه النضالي التاريخي لذلك لابد من السير في هذا المؤتمر في اتجاه تقاليد الاتحاد المطبوعة بالحكمة والتعقل وان يعمل الجميع على تليين القواعد الانتخابية والتقدم نحو التوافق والوفاق بعيدا عن الحسم الراديكالي عبر صندوق الاقتراع لان بالوفاق الذي يجمع ولا يفرق وبالوفاق الذي يبني ولا يهدم وبالوفاق المقام على قاعدة التوازنات الفكرية والسياسية وعلى قاعدة التوازنات الجهوية والقطاعية وبذلك يمكن ان يخرج الاتحاد في هذه المحطة أقوى وأصلب بقيادة متجانسة متناغمة متوافقة تستطيع تجميع النقابيين حولها وتحقق اهداف المرحلة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا دون الارتهان لتوجه بعينه أوجهة محددة وهذا من ثوابت الاتحاد ونضالية هياكله .