كل المداخلات المبرمجة ضمن فعاليات الندوة الوطنية حول التنمية المتعقدة كامل يوم الخميس الماضي بأحد نزل العاصمة، تحت اشراف رئيس الحكومة المؤقتة حمادي الجبالي لم تتطرق تقريبا إلى أوجه فشل السياسات التنموية الممتدة على اكثر من خمسة عقود ولا سيما الوقوف عند آثار هذا الفشل على سيرورة البنية الاقتصادية والاجتماعية وطنيا وجهويا، كما لم تقرن هذه المقاربات المقدّمة في اشغال الندوة سواء من قبل الخبراء التونسيين أو من قبل الخبراء الاجانب، العلاقة الرفيعة بين الاقتصادي والاجتماعي من ناحية وبين الديمقراطي وحقوق الانسان من ناحية ثانية، فإن بيّن السيد جمال الدين الغربي وزير التنمية الجهوية والتخطيط اغراض الندوة المرتبطة بمحاور أربعة هي التوازن بين الجهات، وتنمية المنافسة بين المؤسسات، والحدّ من نسب العطالة والفقر، فإن رئيس الحكومة لم يتجاوز بدوره الابعاد السياسية ذات العلاقة بالتهدئة الشعبية وبالتشخيص المبسط للسائد الاقتصادي ما بعد الثورة من اعتصامات واحتجاجات.. وسار كلّ من السيد هشام اللّومي ممثل اتحاد الصناعة والتجارة وعلي شحاتة ممثل المستثمرين الشبان باتجاه زاوية مغلقة وحادة لا تحتوي سوى على مصالح الاعراف والمؤسسة الاقتصادية في اطار ضبط احتياجاتها ان كان ذلك اجتماعيا او بنكيّا او تشريعيا. وكان المحور الجامع بين هؤلاء المتدخلين تدخل الاعتصام وقطع الطريق امام النمو الاقتصادي فضلا عن الدعوة السياسية غير المؤمنة بطرحها إلى ابرام عقد اجتماعي بين اطراف الانتاج في مقدّمتها الاتحاد العام التونسي للشغل... وبطريقة البحث الميداني المباشر وباعتماد الارقام والاحصائيات لاستنطاق الواقع داخل الجهات (قصرين، قفصة، سيدي بوزيد) بيّن ممثلا البنك العالمي وantonio Nucifora Elileu Murray حدود هشاشة الاقتصاد الوطني وحدود مقوّمات قوته المرتبطة بالقيمة المضافة للكفاءة التونسية. وعلى نفس قواعد البحث والتحليل تطرّق ممثلو البنك الاوروبي للتنمية السادة وثامر شوكير وعبد اللطيف محمود إلى شراكة البنك مع تونس على مستوى المشاريع الصغرى والمتوسطة والرغبة في الاستثمار داخل المناطق المحرومة، منوهين بأسلوب الشفافية الذي بات يعتمده رجال السياسة والاقتصاد في تشخيص الرّاهن التونسي بكل حقوله التنموية كما في الخطاب السياسي الرسمي. ولئن بلغت نسب بطالة في صفوف اصحاب الشهادات في المناطق المذكورة سنة 2010 نحو 48 ٪ فإن هذين العاملين الاجتماعي والاقتصادي كفيلان بتفسير المنطلقات الجغرافية والجهوية لثورة 14 جانفي. ومن الناحية العملية التطبيعية، مثلت مداخلة محمد فريخة (tetnet) حلولا عملية قطاية تبدأ من استعمالات التكنولوجيات الحديثة لتصل إلى تقديم ارقام حول سوق الشغل داخل عديد الجهات تصل إلى 5 آلاف خلال فترة لا تتجاوز ستة اشهر تستغل القاعدة المورفولوجية لابنة التجمع المنحل كفضاء مؤسساتيا يغطي كامل جهات البلاد. ويبدو ان الدكتور سامي العوّادي ممثل الاتحاد العام التونسي للشغل لم يساير المقاربات المباشرة للرّاهن الاقتصادي والاجتماعي في ترديه وتعقده، بل انطلقت مقاربته من توطئة جاءت على تحليل رؤية مهيمنة على جل سياسات التنمية والتي وضعتها صناديق الاقتراض الدولية في بداية الثمانيات في اطار ما أسماه المحاضر «بوفاق واشنطن». وهي سياسة حسب رأيه تعمل على تقليص الدور التنموي للدولة عبر خوصصة القطاع العام وتحرير الاسعار واسواق النقد والمال وفتح الحدود والغاء الحماية الداخلية والخارجية للنسيج الصناعي وللمنتوجات الوطنية والاحتكام الى قوانين سوق تسوده عديد التشوهات، وتعرّض الدكتور سامي العوادي إلى انخراط تونس في هذا التصوّر عبر برنامج التقويم الهيكلي لسنة 1986 ودعمته عبر الانخراط في منطقة التبادل الحرّ الاورومتوسطية سنة 1996 . ونتيجة لهذه الخيارات بين المحاضر، تقلّص الانتدابات العمومية وتجاهل عشرات الآلاف من الخرجين الذين ظلّوا يجوبون الشوارع، وانكماش الاستثمار تحت المنافسة العالمية في اطار نظام التبادل الحر ومخافة جشع العائلات الماكلة وابتزاز الادارة التي استشرس فيها الفساد.. في المقابل، تلقى القطاع الخاص ضربات موجعة في السنوات الاخيرة، سواء بسبب المنافسة الآسيوية أو بسبب الازمات المالية العالمية، حيث أغْلقتْ عديد المؤسسات وفقدتْ مواطن الشغل وعجز المنوال التنموي عجزًا تامًا. ومن الاقتصاد «المرتهن» لمنوال تنمية قائم على المرجعية النظرية والايديولوجية «لرفاق واشنطن» انفصل النمو عن التنمية وتفاقم التداين الخارجي وارتفعت وتيرة التفويت في بقايا قطاع عام وعجزت القدرة التنافسية على التطوّر وعناية بالواجهات الامامية للمدن الكبرى مقابل وتجاهل تام لهموم الجهات الداخلية وبؤسها وتنامي ظرفية البطش ومصادرة الرأي المخالف والتكتم عن المعلومات. في هذه الظرفية حاول الاتحاد العام التونسي للشغل حسب الدكتور سامي العوادي نقد السياسات المتبعة واقتراح بدائل تشهد عليها عديد الدراسات. وبطريقة «التوليد» السقراطي توصل المحاضر إلى ما لعبته الجهات الدّاخلية من دور رئيس في تفجير ثورة 14 جانفي 2011 من منطلقات مدنية واجتماعية صرف، كان محورها الاساسي الاحتجاج العارم على الاقصاء الذي تجاوز الحدود القصوى لسقف «الاحتمال الاجتماعي» وبعد أن قدّم أهمّ استنتاجاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مترابطة العناصر متماسكة البنية، متسلسلة الفكرة بيّن الدكتور سامي العوادي عدم اقتناع الحكومة الحالية بادخال تعديلات هامة على السياسات المتبعة، مقتصرة على الاعتماد على نفس الميزان الاقتصادي الذي ورثته عن الحكومة السابقة بتعلة ضيق الوقت مؤكدة ميراثها لنفس التمشي الليبرالي المجحف وفي نفس الاطار المعنوي للعوملة الاقتصادية المتوحشة مقدّمة للجهات الداخلية نصيبا من الاستثمارات العمومية، لم يسمح بتوجيه رسالة مطمئنة ولو جزئيا للانتظارات الملحة لابنائها. وأكد المحاضر ان العلاقة بين غياب هذه الرسالة وتأجج الحركات الاحتجاجية، لن تجدي نظرية المؤامرة نفعا إزاءها ولا محاولة تحميل مسؤولياتها لأيادٍ خفية ونوايا مغرضة ومبيتة. ولئن احتاجت مداخلة الدكتور سامي العوادي إلى عملية نشر كاملة وواسعة حتى في دوريات علمية مختصة، فإن عمقها سيدفع إلى خلخلة رؤى اقتصادية منغلقة وموغلة في الراهنة كما ستساهم في حث المختصين إلى التوجه باكثر جدية للواقع قصد استنطاقه بمناهج تقطع مع التبريرية والتوظيف الايديولوجي( انظر نص المحاضرة في الصفحة الموالية). وفي رأيي الشخصي، فإن وزارة التنمية المحلية والتخطيط، وان كان لها شرف المبادرة لطرح اخطر ملف على النقاش الا ان طابع الارتجالية واعتماد الانتقائية في العينة الممثلة، يدعونا مرّة اخرى إلى طرح السؤال الحارق: هل يمكن ان تحقق الحكومة الحالية بحالتها «الباتولوجية» «ديمقراطية فقر» لا أسس اقتصادية واجتماعية وثقافية وحقوقية لها ام ان هذه الدميقراطية التي تنتشي بها الحكومة وتتفاخر يمكنها الصمود امام تواصل الاقصاء والتهميش وعدم اشباع الحاجيات الوطنية المتعدّدة والمترابطة؟ ثم الا يمكن ان يؤدي هذا النهج السياسي الاقتصادي الاعرج إلى اوضاع اكثر خطورة وتعقيدا وقتها يكون الجواب ليس المهم ان تسرع الخطى نحو البحر فالمياه تجري من حولك أبدًا.. «الطوفان».