ليس مستبعدا أن نجد أنفسنا عمّا قريب على موعد مع نقاش مستفيض تحت قبّة المجلس الوطني التأسيسي يتناول بالنقاش مشروع قانون جديد يجرّم الشعور بالقلق ويعده خيانة وارتدادا عن الثورة واستحضارا لأزمنة الطاغية وهو ما يصل بصاحبه حدّ الرجم بتهمة الخيانة العظمى. يأتي هذا القانون اتساقا مع حمّى التجريمات الأخلاقيّة والقانونيّة، التي أتي على رأسها تجريم الإضرابات والاعتصامات وتجريم نقد الحكومة وتقييم جلالتها وبعد أن تمّ إرسال ما يكفي من الإشارات التجريميّة للصحافيين شتما وصفعا ولكما و»نقرا بالرأس» واستباحة للشرف وهتكا للأعراض، كل ذلك تحذير لهم من مغبّة الاستمرار في ممارسة رذيلة التعبير عن الرأي. لقد اتسعت خارطة التحريم والتجريم، وبدأ حرّاس النوايا يضيقون ذرعا بالأصوات النشاز التي تعلوا ناشدة الخلاص من أسر الرقابات الذاتيّة والموضوعيّة وامتدت بؤر التخوين على إيقاع التكفير حتّى صار مجرد الشعور بالقلق يندرج تحت طائلة التخوين. فقد صارت خيانة ان تداري ابتسامة عريضة على محياك تستقبل بها ضيوف تونس القادمين من مشارق الارض ومغاربها للاطلاع على معجزات هذا الشعب العظيم الذي ألقى بالبذرة الأولى التي نبت على قبرها هذا «الربيع العربي» المخضب بدماء الشهداء ودموع الأمهات وآهات الفقراء والمحرومين والمهمشين. خيانة أن يصيبك ضغط الدم أوالسكري أو الاكتئاب وأنت ترى الشعب الذي هبّ هبّة الرجل الواحد ليحقق قدره في الكرامة والحريّة يتحوّل إلى طوائف وشيع وينقسم إلى كفّار ومسلمين وإلى خونة وثوريين، وتصبح الشعارات التي هتفت بها الحناجر عاليا من أجل الحق في الشغل والحريّة والعدالة الاجتماعية وحريّة التعبير عن الرأي ماض متقادم لا يستحق الالتفات إليه مع صعود شعارات جديدة أصوليّة الى أبعد الحدود في التعبير عن مطالب الثورة وراديكاليّة الى اقصى مدى في الوفاء لدماء الشهداء على شاكلة « زنقة زنقة دار دار واحنا وراكم يا كفّار..» و» الشعب يريد دولة لائكيّة ..»، واستحداث قضايا استراتيجيّة أكثر تعبيرا عن مشاغل الشعب وتطلعاته كالمفاضلة بين التبعيّة لفرنسا أو لقطر عرّابة أمريكا. خيانة أن تنتقد الحكومة المؤقتة أو المعارضة الدائمة، وان تنتقص من غلبة الأغلبية أو تشير إلى قلّة صبر الأقلية. وأن تهمس ببنت شفة لحروب الوكالة التي تزيّف وعي الجماهير وتحشرها في سياقات ضديّة لا تنتهي بعيدا عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يزداد تأزما وتعفنا. وما عليك سوى أن تلتمس لك مكانا بين قدرين لا ثالث لهما، فإمّا أن تكفر كفرا صريحا بكلّ الحراك السياسي والاجتماعي والمدني الذي أعقب الانتخابات وتشكيل الحكومة وتعتبره مؤامرة وثورة مضادة تستهدف إرادة الشعب الذي قال كلمته وما عليه اليوم الاّ أن يصمت ويبتلع أحلامه أو يؤجلها ليترك لمن اختارهم أن يقرروا مصيره ولو كان على غير ما وعدوا، وإمّا أن تؤمن إيمانا عجائزيا بكل حراك اجتماعي ولو كان تخريبا وحرقا ونهبا وتهديدا لوحدة الدولة والمجتمع، وتسلم لكلّ حراك سياسيّ ولو كان استنساخا للماضي في بدائيته الأولى أو استعادة ساذجة لشخوص صدئة ولرؤى وتصورات أفلست فكانت احدى أسباب الثورة. كلّ هذه الخيانات صار لزاما علينا أن نمارسها يوميا ونحن نستجمع الوعي محاولة لنفهم الوقائع الغريبة التي عصفت بثورة حملناها في قلوبنا نصف قرن، تنتابنا الحيرة فنتذكر أنّ القلق ممارسة غير مشروعة وتقع تحت طائلة التجريم في ظلّ أبجديّة جديدة تعلّمنا تهجّي المأثرة الهيغليّة بأنّ كل ماهو عقلي واقعي وكل ماهو واقعي عقلي على نخب فلسفة جديدة تقول ب «» اتساقا مع صرخة «فوكوياما» المشؤومة التي دشّن بها العصر الامبريالي الجديد « نهاية التاريخ والانسان الأخير».