لا شك في ان عموم الفلاحين ومربّي الماشية، يشتكون من ارتفاع كلفة الانتاج سواء تعلقت بالخضر او الغلال او تعلقت بتربية الماشية والابقار مثلما يشتكي الملاحون من سوء الاحوال الجوية من اهتراء وسائل الصيد البحري وغلاء اسعار المحروقات، لكن الحقيقة ان الوسطاء بين الفلاحين والملاحين وخاصة غياب المراقبة الاقتصادية خارج الفضاءات التجارية المغلقة هما العنصران المحددان في السلسلة التي تبدأ من الانتاج وتنتهي عند التوزيع. فأغلب الفلاحين يبيعون منتوجاتهم قبل حنيها الى الوسطاء الذين لا يعترفون بالفضاءات المنظمة بالقوانين ويتوجهون الى مسالك التوزيع الموازية، حيث ترتفع درجة الاحتكار والمضاربة بالاسعار. وفي هاته المسالك نسجل غيابا كليا للمراقبة الاقتصادية التي كانت تشتغل على الطرقات وداخل مفاصل المدن وتضع ايديها على المخازن ونقاط الاحتكار. وبالتالي فإن الفلاحين الذين يلتزمون بتزويد الاسواق والفضاءات المنظمة يجدون أنفسهم امام سلطان «الوسيط» «الهباط» اذي يعرف كمية المعروضات حجم الطلبات ليتحكم في الاسعار وفي عملية البيع والشراء. عملية البيع والشراء محررة بالكامل والمشرع او سلطة الاشراف لا يمكن ان تدخل الا عند الحاجة وفي سياق زمني محدد لتضبط سعر المنتوج. في هاته الحالة، يصل اقبال بائعي التفصيل على شراء المنتوجات مرتفعة اسعار ومن ثمة تقل المعروضات داخل الاحياء السكنية. فالمراقبون الاقتصاديون وان كانوا ي واجهون ضروبا من التهديد والعنف داخل الفضاءات المفتوحة، الا ان غالبيتهم تشتكي من تراجع الرواتب ومن محدودية الدخل بما يؤثر سلبا على أداء واجبهم في ظل غياب لسلطان القانون ولمؤسسات الدولة. وبالمحصلة، فان أغلى فاتورة يتولى دفعها المواطن. المواطن الذي يستغيب لم يعد من تلك الشريحة الاجتماعية ذات الدخل المحدود فقط، بل من تلك التي كنا نطلق عليها تسمية «الطبقة الوسطى العريضة». لقد مس ارتفاع الاسعار الغالبية من ابناء الشعب التونسي في ظل انغماس الطبقة الحاكمة في الصراعات الفكرية والسياسية والسعي المحموم الى الكراسي الوقتية. وبالمحصلة، فان الاسباب الموضوعية لاندلاع الثورة في تونس قد تعمقت وتوسعت دائرتها جغرافيا وطبقيا، اجتماعيا واقتصاديا، نفسيا ومعنويا. وما زاد الوضع تأزما عدم قدرة الوزارات الحالية على تفعيل الهياكل التابعة لها بالنظر، فضلا عن غياب التنسيق واستنباط الحلول والبدائل. ولئن كانت قضية تزويد الاسواق بالمنتوجات والحدّ من المسالك الموازية والقضاء على الاحتكار والتلاعب بالاسعار، تعود كلها بالنظر الى وزارة التجارة، فان وزارة الفلاحة تغط في نوم عميق، غير مكترثة بما يجري داخل الاسواق وخارجها وبما يضرّ بالحاجيات الضرورية من قوت المواطن وحقوقه الاساسية.