بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على حكومة المؤتمر من أجل تكتل النهضة، التي جاءت مباشرة بعد ايام من انتخابات المجلس التأسيسي تزامن تشكيلها وفقا لما أفرزته نتيجة الانتخابات، إذ تشكلت من الثالوث الفائز بأغلبية المقاعد داخل المجلس فكانت إفرازا للمحاصصة السياسية الحزبية لا المصلحة الوطنية التي تقتضي قبل كل شيء تحقيق المطالب الحقيقية للشعب التونسي التي على أساسها قامت الثورة التونسية. فما قدمته جماهير تونس الأبية منذ 17 ديسمبر الى اليوم من نضالات وتضحيات جسام، قدم فيها أبناؤها شهداء للحرية ووفاء للعزة والكرامة الوطنية عندما اقتلعت رأس النظام وواصلت مسيرتها نحو الانعتاق وتحقيق العدالة الاجتماعية حتى ينعم شبابها بالشغل باعتباره حقا وحدا أدنى يوفر لأبناء تونس مستويات العيش الكريم، لذلك، فان حكومة الغنوشي الاولى والثانية وحكومة السبسي من بعدها لم تصمد منها واحدة لأنها لم تنصت الى الفئات المحرومة والمظلومة. وتأتي اليوم حكومة حمادي الجبالي باعتبارها حكومةً رابعة منذ انطلاق المسار الثوري، ليعلن رئيسها ان ما حصل في تونس لا يغدو ان يكون الا لحظة ربانية خالصة ونسي ان الشعارات المركزية من وراء قيام الثورة التونسية، «كالتشغيل استحقاق يا عصابة السراق» و «شغل حرية كرامة وطنية» هي التي شحنت ابناء الشعب التونسي بروح النضال الثوري، فاختار الشوارع والصدام ضد نظام طالما أغرق البلاد والعباد في الاستغلال والفساد. ولأن حكومة الالتفاف الثلاثي، كما ذكر رئيسها انه وفريقه جاؤوا لانقاذ البلاد وتحقيق جملة من المطالب الآنية والعاجلة، فماذا قدمت هذه الحكومة الى حد الآن؟ وهل استجابت لتلك المطالب؟ قدمت الحكومة المؤقتة الرابعة منذ توليها تسيير البلاد جملة من الوعود الواهية مستنجدة في ذلك بخطابات اكثر تأثيرا في نفسية التونسي ووجدانه وعوض ان تجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني وتجريم غلاء المعيشة، أخذت أولا بتجريم الاحتجاجات والاعتصامات والتهديد وسياسة الترهيب على لسان رئيسها المرزوقي ووزيرها الاول الجبالي تحت راية تطبيق القانون والمطالبة بالهدنة. و لأن اعتصاميْ القصبة (الأول والثاني) حقّقا جملة من المكاسب والاهداف تمثلت أساسا في اسقاط حكومة الغنوشي الاولى والثانية وفرض شعار «المجلس التأسيسي» على حكومة السبسي جاء اعتصام «باردو 1» مباشرة بعد تشكيل الحكومة الحالية، اذ عوض ان تنصت الحكومة الى مطالب الشعب التونسي وتسأل عن الاسباب الجوهرية من وراء الاحتجاجات والاعتصامات أخذت بالتهديد والاستدلال بتعلات واهية وتسريب العصابات السلفية والميليشيات الحزبية المأجورة من اجل اختراق الاعتصام وضربه، فما الفرق اذا بين حكومة الجبالي وحكومتيْ الغنوشي؟ ان تشابهت كلتا الحكومتين في كونهما مؤقتتين، فهما تتشابهان في كونهما سائرتين في نفس التمشي والسياسة اذ لا شيء غير المماطلة والتسويف. وعوض ان تسارع الحكومات المؤقتة بطمأنة الشعب، عملت على طمأنة الغرب الاحتكاري والامبرياليّ على مصالحه في تونس. بالتالي، فإن كل الحكومات المتعاقبة على تونس إبان الثورة لم تمثل الا وجوها متعددة لعملة واحدة، ألا وهي الديكتاتورية، فالحكومة التي لم تترجم ولو تولد من رحم الارادة الشعبية، ولم تأت وفقا لتوافق القوى السياسية الحية تبقى غير قادرة على تأمين الطريق للعدالة الانتقالية، بقدر ما تسعى جاهدة الى رسم ملامح تونس في المستقبل على اساس الماضي، اذ عوض ان يتحدث الجبالي عن دولة العدالة الاجتماعية اخذ يبشر بدولة الخلافة الدموية السادسة. ومثلما أشرنا الى الاعتصام وتسمتيه «اعتصام باردو 1» ، فذاك يبشر باعتصام باردو 2 ان لم تتحقق جملة المطالب الظرفية الآتية والراهنة. ولأن شيئا لم يتغير، ولأن مطلبا من هذه المطالب لم يتحقق ، فما هي إذًا مقتضيات المرحلة القادمة؟ ان تحويل وجهة المطالب الحقيقية للشعب التونسي كانت من أولويات عمل الحكومة الحالية في ملفاتها وخطاباتها ومخططاتها، ووسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، فعوض ان تطرح ملفات المحاسبة لرموز الفساد واسترجاع أموال تونس المهربة والتطرق الى ايجاد الحلول لمعضلة البطالة وغلاء المعيشة في ظل تدهور الأوضاع. أخذت تلعب بورقة فزّاعة السلفية والحجاب والنقاب. وها هي اليوم تتحدث عن ختان البنات، لتحول وجهة اهتمامات الشارع والمجتمع المدني بهذه المسائل حتى يتغاضى عن المسائل الاخرى الجوهرية لتلهي الشعب عن همومه وهواجسه. فالمطروح اليوم على الشعب امام خطورة الوضع واستفحال البطالة وغلاء المعيشة وفقدان جملة من المواد الاساسية وهضم حقوق عمال البلديات واستهداف منظمتهم العريقة المدافعة عن حقوق الشغيلة، وما يحدث في جندوبة والقصرين وعين دراهم وغيرها ومدى عجز الحكومة على ايجاد الحلول اللازمة لإنقاذ الجياع والمساكين الذين يفترشون الثلج ويتلحفون السماء، ليست في صالح الشعب ولا من مصلحة الحكومة، لأن الشعب التونسي الذي أنقذ البلاد من وطأة الفاشية وأسقط أعتى ديكتاتور سوف لن يتوانى ولن يتخاذل لحظة واحدة في الدفاع عن مطالبه الاساسية التي لا مجال للتنازل عنها، لانه اصبح يعي جيدا بأن الحقوق تُفتكّ ولا تهدى، وذلك عبر الاحتجاج وقانون التظاهر تحت راية شرعية الشهيد والشرعية الشعبية الثورية، اذ ابتكر الاعتصامات وأججّ الاحتجاجات، فما على جل الشرائح الاجتماعية اليوم والقوى الحداثية التقدمية السياسية والنقابية، الا مواصلة النضال جنبا الى جنب حتى لا يتم تحويل وجهة الثورة، وحتى لا يتم الغدر بشعبنا ونحن ازاء مرحلة فاصلة وحاسمة في تاريخ تونس المعاصرة باعتبار الأشكال الرجعية الظلامية الجنائزية التي تهدد حاضر أبناء تونس ومستقبلهم. وكي تتحمل كل الاطراف دون استثناء مسؤولياتها التاريخية، عليها اليوم التسريع في صياغة لوائح وشعارات موحدة ظرفية وراهنة خدمة للبلاد والعباد، ذلك عبر النزول الى الشارع أين يقطن التونسي الحر، وقيادة الاحتجاجات وتأطيرها وتوعية الشعب بخطورة المرحلة وبمهامه الثورية من اجل بناء تونس الديمقراطية الشعبية العصرية المدنية الحرة، كما يجب على مكونات والمجتمع المدني وقواها السياسية الثورية بالمسارعة والدعوة الى ندوة وطنية حول تقييم مردود الحكومة وكيفية تعاملها مع مطالب الشعب التونسي، كذلك توعية الناس بأن اهتماماتهم الاساسية تتعلق بسُبل تحقيق العدالة الاجتماعية لا بالصراعات المذهبية العقائدية المرضية العرضية التي لا مصلحة للشعب فيها. نقول هذا ونؤكد على مزيد من الارادة السياسية والشعبية، امام عجز الحكومة وتبيان النوايا الحقيقية لها وما تسعى الى تكريسه والعودة بالبلاد الى مرحلة ما قبل 14 جانفي ورسكلة النظام واعادة بناء ديكتاتورية جديدة. فيا جماهير تونس المناضلة ويا أبناءها وبناتها، إن المرحلة القادمة تقتضي المزيد واالمزيد من النضالات والتضحيات حتى نُعبّد الطريق الى الديمقراطية امام ما تسعى اليه عديد الاطراف من الداخل والخارج الى الانقلاب على ثورة شعبنا والالتفاف على مكاسبها. لذلك، ما على القوى السياسية الحية الا ان تستخلص العبر من أخطائها في انتخابات التأسيسي اي الابتعاد عن صراعات من قبيل العلمانية والاسلامية والتكفير والتشويه والانغراس في صلب الصراع الجوهري الحقيقي الذي على اساسه قامت ثورة شعبنا، ألا وهو الشغل والحرية والكرامة الوطنية، حتى يتسنى لها تجذير وعي وطني جماهيري في أذهان الناس في وقت تتأرجح فيه حكومة الجبالي بين مطرقة الاحتجاجات وسندان المشروع القطري الأورو إمبريالي.