لسنا نحن من سمّاها ثورة بل اعتبرناها وضعًا من الاوضاع الثورية لاننا اذا تساءلنا عن المبادئ العامة والشروط الاساسية التي تقف وراء قيام الثورة في الدولة يكفي لنا ان نحدّد الثورة على أنها تغيير جذري حتى انه خلال الفترات الزمنية التي يمرّ فيها العالم بأزمات وتحوّلات جذرية يولد الثوريون ليغيّروا مجرى التاريخ ويكتبوا بأفكارهم وشعاراتهم قصص الماضي وتفاصيل المستقبل وغالبا ما يواجهون عداء الطبقات الحاكمة التي تقابل افكارهم بالسخط والكراهية وتلوّثها بالكذب والافتراءات حتى تشويهها بغية الانقلاب عليها. كذلك، ما الذي يقود إلى ضرورة قيام الثورات في عديد البلدان لنجد أنّ كلّ حديث عن الثورة يترجم حجم الازمات السياسية وجملة التناقضات الاجتماعية التي تشق الواقع وتمرّ بها هذه البلدان. إذا مرة أخرى لسنا نحن من سمّاها ثورة بل الاعلام الرسمي التونسي او حتى العالمي، بعد مرور أيام قليلة على قيامها ذلك انّ زلزال الاحتجاجات الشعبية على نظام الحكم طال الشأن الاعلامي والاعلاميين فتحوّلت الصحف التونسية الصفراء من أبواق دعاية للنظام الى صوت مناصر لثورة شباب تونس في المدن المركزية وكل الجهات الداخلية حتى أن البعض ذهب إلى اعتبار »ثورة الياسمين« في المقابل، واذا اعتبرناها ثورة يجب التأكيد اولا على انها مازالت في بداية الطريق وثانيا كونها ثورة فئات مقهورة ومضطهدة لم تشملها العملية التنموية في البلاد التي لم تشمل بدورها الا مناطق نفوذ الحزب الحاكم والعائلات المافيوزية كذلك ثورة شباب معطّل انسدت امامه الافق فاصبح يطمح الى الانعتاق والحرية فليست إذا ثورة الياسمين مثلما روّجت لذلك بعض وسائل الاعلام هنا، ولئن كانت الثورة التونسية التي تشكّل فتحًا جديدًا في تاريخ تونس والعالم العربي بل في تاريخ الثورات العالمية ايضا فانها لا تشذّ عنها من حيث الجوهر والفاعلية في مفهوم »التغيير«. وإنما تختلف عنها في الاسلوب والمكوّنات والسلاح فما يلفت الانتباه حقًا في الثورة التونسية ليس سرعة حدوثها وسهولة اسقاط الطاغية فحسب بل غلبة العنصر الشبابي الذي اختصر كامل الاحتجاج والتظاهر حتى كان شباب تونس بمثابة القيادة الحقيقية لنفسه وبنفسه ولعل الاعتصام الاول والثاني بالقصبة وغيرها من التحرّكات الاخرى ترجمت لنا حقيقة قيمة هذه الطليعة الشبابية الثورية ودورها في تفعيل الحراك وتغذية روح النضال الثوري في كل الفئات والشرائح الاجتماعية بالتالي فإنّ الثورة التونسية تميّزت عن الثورات المعهودة في التاريخ وحتّى عن عديد الثورات الحديثة التي وقعت في عديد البلدان. عند هذا الحدّ يحقّ لنا التساؤل عن طبيعة الثورة وكيفية قيامها فهل كانت ثورة شعبية قام بها الشعب وقادها بمفرده ام هي ثورة تقدمية كانت لها قيادتها الحقيقيّة. لا شكّ في أنّه على ثورات الشعوب لتكون فاعلة في التاريخ ان تتمثّل وتستوعب المنجزات امتراكمة خلال الحقبة التاريخية السابقة لتدشين حقبة تاريخية جديدة تسهم في تطوّر البشرية وتحقيق التغيير الجذري من حالة إلى أخرى لنصل الى ان الثورة في تحديدها هي قوّة ضغط تمارس على السلطة التي تغتصب الشعوب فبات واضحا وجود الشعب دفعة واحدة في كل الشوارع والمدن كي يسقط الطاغية من عليائه حين سحبت من تحته القاعدة وحينها ينزع غطاء الحكم الفردي عن الدولة لتبدو عظمة الدولة من جديد متجلّية في هيبة الشعب ومهابته وليست هيبة الدولة البورقيبية والنوفمبرية التي تراهن على إعادة بنائها وترميمها حكومة السبسي، ولملامسة الحقيقة من وراء التساؤل عن طبيعة الثورة التونسية اكثر حتى يتسنّى للبعض فهم طبيعة ما حدث لكن قبل ذلك يجب ان نؤكد على أنّنا لسنا بمحللين او منظرين بقدر اننا كنا شهود عيان وثلة من ابناء هذا الشعب في الاحداث بمستجدّاتها في اغلب جهات البلاد. من جهة أخرى، ولان مفهوم الثوة يختلف من شخص إلى آخر ومن تيّار إلى آخر باختلاف المرجعيّات والتوجهات الفكرية يكفي لنا ان ننطلق من مقولة مفادها أساسا انه »لا حركة ثورية دون نظرية ثورية« (1) ولأنّ النظرية كانت بعيدة ومنفصلة عن واقع التحركات التي رافقت الاحتجاجات الشعبية التونسية بمعنى أشمل ان التحركات قد انطلقت احتجاجية اجتماعية مطالبة بالشغل حقًّا واحدًّا أدنى يوّفر لأبناء هذا الشعب مستويات العيش الكريم في ظلّ تدهور الاوضاع وغلاء المعيشة بالتالي، اذا تحققت تلك المطالب فلا يجوز لنا الا ان نسمي حقيقة »ما حدث بالانتفاضة» لأنّ سقف مطالب الانتفاضة الشعبية لا يتجاوز المطالب الاجتماعية وبعض الاصلاحات السياسية. ولان المطالب لم تتحقق واصل الشعب التونسي احتجاجاته في عديد الجهات حتى طوّر في شعاراته ومطالبه من اجتماعية الى سياسية قائمة وداعية الى اسقاط النظام الذي لم يتجاوب مع مطالبه. بالتالي انطلقت الثورة من هنا رغم افتقادها للقيادة الحقيقية، نقول قيادة لان كل حديث عن الثوة يستدعي وجود قيادة طلائعية ثورية تقود التحرّكات وتؤطرها وتطوّر في اشكالها وهو ما لم يحدث في واقع الثوة التونسية نظرا إلى عديد الاسباب الذاتية والموضوعية ولعدّة اعتبارات اخرى اهمّها الانغلاق السياسي الذي كان يسود المجتمع المدني بكل مكوّناته في ظلّ نظام ديكتاتوري قائم على قمع الحريات السياسية في البلاد، لذلك انطلقت الحركة وتقدمت اشواطا كبيرة الى درجة انّ عديد مكوّنات الحركة الديمقراطية لم تستطع مواكبة الحركة ومسايرتها والقدرة على قيادتها فمن قاد الثورة إذًا؟ هم خيرة شباب تونس بمثقفيها وبعاطليها الذين احتكّوا بابناء الشعب وزرعوا فيهم روح النضال الثوري جعل من ابناء هذا الشعب يراهن على وحدته من أجل الانعتاق والحريّة ولان قوّة هذه الجماهير الشعبية تجسّدت في وحدته حاول أنصار الثورة المضادة تشتت هذه الوحدة بزرع منطق الجهويات واختراق عديد التحرّكات من قبل بقايا التجمّع والبوليس السياسي. كل هذه العوامل تقف وراء عدم استكمال هذه الثورة وتحقيق الانتقال الفعلي للدولة الديمقراطية الشعبية الحرّة القائمة على مبدأ سيادة الشعب، باختصار تونس تغيّرت شئنا أم أبينا ونحن امام تونس جديدة تولد وعلى القوى الحية فيها أخذ الدرس من التاريخ بحكمة في عملية الانتقال كي لا يقع احتواؤها ذلك بتنفيذ برنامج سياسي واقتصادي وتدعيم القضاء المستقل وتحقيق العدالة الاجتماعية والعمل بموجب القوانين والمؤسسات القائمة على الشفافية والنزاهة في العملية الانتخابية كذلك اطلاق الحريات العامة والفردية هذا داخليا اما خارجيا فوجب على القوى الحيّة في البلاد ان تعيد لتونس موقعها الطلائعي والاستراتيجي الحيوي خصوصًا من جهة الوقوف أمام التطبيع مع الكيان الصهيوني نصرة للشعب الفلسطيني والعراقي والشعوب العربية الاخرى، كذلك القطع مع الصفقات المبرمة ضدّ الشعب مع الدوائر الامبريالية المتنفذّة والمتصلبة والمتسلطة في تونس. قلنا تغيرت تونس، لكن ما الذي تغيّر في تونس الجديدة؟ ما تغيّر في تونس هي العقلية التي كان يتعامل بها التونسي مع النظام البائد، أي التحوّل من عقلية الجبن والخمول والرهبة الى عقلية غادرت الصمت وكسّرت الحواجز وتسلحّت بالارادة واقتنعت بان الحقوق تفتكُّ ولا تُهدى، وان كل نظام لا ينبع عن ارادة الشعب وتوافق جميع القوى السياسية الحيّة لا يمتّ صلة إلى مطامح الشعب ومصلحة الوطن من وراء ذلك، ومثلما اكدنا على دور القوى الحية في التغيير في النقاط السابقة يجب على الجميع الالتحام اكثر بالحركة الشعبية وتوجيهها والمحافظة على مسار الثورة من أجل استكمال مهام ثورة شعبنا وتحقيق الانتقال لانه في حقيقة الامر اذا تساءلنا على حقيقة تأجُّجِ الوضع والانفلات الامني في عديد الجهات سنردّ ذلك إلى سببين رئيسيين: السبب الاول تقفٌ وراءه عصابات التجمّع الذي حُلَّ لكنّه تفرّع الى تجمّعات مافيا متبقية من رموز النظام السابق ومساعي الحكومة اللاّوطنية الحالية لترهيب الناس وقمع حق التظاهر اما السبب الثاني، يعود الى غياب القيادة الحقيقية للحراك الشعبي، والتي من شأنها ان تؤطرّ التحركات وتوجّهها الوجهة الحقيقية لبناء دولة العب وديمقراطية الشعب للشعب وبالشعب وهو ما يحتاج حقيقةً إلى قوى طلائعية وثورية في مقدمة الحركة مثلما حصل في تاريخ الثورات الاخرى. حتّى وجب علينا عند هذه اللحظة الاخيرة تحويل وجهة السؤال الذي تطرّقنا الى طرحه في السابق من سؤال »من أنتمُ«؟ إلى سؤال »أين أنتمُ«؟ ❊ جهاد وجّ ماجستير فلسفة (نقابيّ وناشط حقوقيّ)