لعلّ ما حدث في تونس هو أكبر دليل على صحوة الشعب التونسي، الذي ما إن انطلقت الانتفاضة بتلك القطرة التي افاضت الكأس بسيدي بوزيد عندما أقدم ذلك الشاب على حرق نفسه دفاعًا عن حقّه في العمل والعيش الكريم، دفاعًا عن الكرامة والحرية، ألا وهو »محمد البوعزيزي« الذي لم يتخاذل ولم يتراجع لحظةً في الدفاع عن كرامته قولاً وفعلاً، لأنّ قناعته كانت كبيرة بأنّ »الحقوق تفتكُّ ولا تُهدى«. هذه الحادثة الأليمة التي لم تكن الأولى في البلاد بقدر ما كانت امتدادا لعديد الحلول التي التجأ إليها البعض نظرا لانسداد الافق وفقدان الحلول ومرارة العيش في هذه البلاد في ظلّ نظام »الهارب«. إذًا، من الحوض المنجمي، إلى المنستير أين أحرق ذلك المواطن نفسه وصولاً إلى سيدي بوزيد تراكمت الأحداث حتّى انفجرت لتهزّ بذلك كامل الشارع التونسي وانتقل صدى هذه الحادثة إلى كلّ جهات البلاد دون استثناء سواء في إطار المساندة أو في اطار الاحتجاج، فانطلقت التحرّكات احتجاجية اجتماعية مطالبة بالشغل حقًّا وحدًّا أدنى يوفّر لابناء هذا الشعب مستويات العيش الكريم في ظلّ تدهور الأوضاع وغلاء المعيشة، فكانت الشعارات موحّدة والمطلب واحدًا »شغل، حرية، كرامة وطنية«. كما تجدر الإشارة إلى أنّ الاحتجاجات لم تتوقّف برهةً واحدة، هذا ما دفع بالمحتجين في كل جهات البلاد إلى تطوير مطالبهم، من مطالب اجتماعية إلى أخرى سياسية قائمة وداعية بصوت واحد إلى الاسقاط والاطاحة بالدكتاتور وضرورة تحريرالبلاد من سياسة القمع والاستبداد تجسّدت في شعار رفعه ملايين التوانسة »تونس تونس حرّة حرّة وبن علي على برّة«، لأنّ قناعات المواطنين أصبحت أكبر بأنّ هذا النظام لم يخدم الوطن والمواطنين، وأنّ سياسة بن علي لم تمُت يومًا صِلَةً بتطلعات الشعب التونسي ومصلحة الوطن من وراء ذلك. هنا إذا كان من السابق لأوانه الاستنتاج الآن، فمن الممكن بكلمة واحدة تعيين رهان مثل هذه الانتفاضة، وهو رهان يجب بذل الجهود في المستقبل للاحاطة به بشكل أفضل ممّا تم به هنا، ذلك انه تمّ ابرازه تدريجيا كما سنرى من خلال الاسلوب الذي اتبعه المتظاهرون. حتّى أتَى ذلك اليوم الذي تسلّح فيه أبناء هذا الشعب بالوعي والارادة السياسية اليوم الذي أطاح فيه المتظاهرون برأس النظام وحطّموا ذلك »الطوطم« الذي كان يتربّع على عرش البلاد ويحكمها بقبضة من حديد، حاميًا بذلك مصالحه ومصالح حزبه ومن وراءه من العصابات المافيوزية الذين طالما نهبوا وافتكّوا خيرات البلاد ومدّخراتها، كذلك مصالح الإمبريالية من أمريكا إلى فرنسا، فكان الشعار المرفوع يومها »اعتصام اعتصام حتّى يسقط النظّام«، نعم... سقط لكنّه لم يتداعَ كلّّه ولم يندثر أي »رحل بن علي ولم يرحل« تاركًا بذلك المجال لبقايا الديكتاتورية محاولة منهم ترميمَ البيت وإعادةَ البروز في شكل وثوب جديديْن وإيمانا منا بضرورة حماية الثورة ومكتسباتها وتحقيق الأهداف المرجوّة والمطالب الشرعية للشعب التونسي، نقف اليوم، ليس محاولةً للفهم النظري فحسب لطبيعة ما حصل »هل هي ثورة أم انتفاضة«؟ بقدر ماهي محاولة للفهم من نوع آخر تتجاوز حدود التحديد النظري، حتّى أنّ التساؤل سيكون أعمق وأكثر تجذّرًا وتحيينًا للرّاهن كاشفًا بذلك عن أبعاد أخرى من باب الواقع والمعقول الاهتمام بها اليوم باعتبارها حديث الساعة ومطلبًا من نوع آخر لا يتعلق قطعًا بمطالب الشعب الذي توجّه بها إلى الشارع باعتبارها لم تتحقق بعد الانتفاضة التي نحيّي فيها كُلَّ أحرار تونس وشهداءَها الأبرار. فسؤالنا اذًا يُطرح بحثا عن اجابة تكون تتمّةً وتوضيحًا لما يقع اليوم داخل المعارضة من جمعيات ومنظّمات وأحزاب طالما عانت من ويلات النظام السابق أكثر من 23 سنة من الانغلاق السياسي وانعدام الحريّات حتّى وجب اليوم الاعتراف بها قصد تأكيد مقولة التعددية السياسية وتفعيلها على أرض الواقع والقطع نهائيا مع مقولة الحزب الواحد وتقوم بذلك مكوّنات المجتمع المدني بدورها النخبوي والطلائعي في كنف الديمقراطية والتنافس النزيه، لكن لسائل أن يسأل اليوم: لمن تحقّ التأشيرة؟ وبمن نعترف أوّلاً بالشعب أم بالحركات والأحزاب؟ هل نعترف بالدور الشعبي البطولي الذي فجّر الصّمت وكسّر الحواجز وقطع وتجاوز مقولة »أخطى راسي وأضرب« أم بأغلب المكوّنات التي كادت تكون غائبة تمامًا قبل وبعد الانتفاضة؟ هل أنّ ما قام به الشعب التونسي من صمود ونضالية وتضحية وتنازلات جسام من أجل ردّ الاعتبار لكرامته التي سُلبت منه سنينا طوالا من القمع والاستبداد جرّاء سياسة الديكتاتور كذلك الفساد والاستغلال الفاحش من عصابة السّراق (الطرابلسية) أم هو لأجل بروز حركات وأحزاب وليدة عصرها تجني ثمار كفاح شعبنا التاريخي بعدما انقلبت الانتهازية على دماء شهدائنا ودموع عيون أمهاتنا الأحرار عندما أخذت ما أخذت واقتسمت ما اقتسمت من مناصب ووزارات مع رموزالنظام السّابق. من جهة أخرى وفي هذه الظرفية بالذات ألا تعتبر المطالبة بالتأشيرة اعترافًا ضمنيا بهذه الحكومة التي لا تملك أي شرعية سياسية وقانونية أو حتّى شعبيّة، أمّا اذا اعتبرنا أنّ الشرعيّة السياسية والشعبيّة تقودنا إلى الاعتراف أوّلاً وأخيرا بما قدّمهُ الشعب التونسي الذي أسقط الطاغية لكن ليس كلّ الطّغاة مما يعني ان الثورة في منتصف الطريق باعتبار أنّ الديكتاتورية مازالت قائمة بمؤسساتها وأجهزتها ودستورها وقوانينها وحزبها لذلك فإنّ الانتقال الديمقراطي لم يحصل بعد، وما الحكومة الحالية الا امتدادٌ للنظام السابق رغم تعديلها وعليه فإنّ الطريق إلى الديمقراطية القادر والكفيل على تحقيق طموحات الشعب ومطالبه لا يمكن أن يكون عبر المطالبة بالتأشيرة في هذه المرحلة بقدر ما يتحقق بمواصلة النّضال من أجل اسقاط الحكومة الحالية وتشكيل حكومة مؤقتة تنبع من توافق القوى السياسية الحيّة المتوحّدة والمتجنّدة لحماية الثوة واستكمالها لتحقيق أهدافها التي لم تتحقق الا بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية لا بالاستبداد الذي كان ولا يزالُ مسلطًا على أبناء هذا الشعب. ولأنّ الناس اليوم يشعرون بالإقصاء في تشريكهم في اتخاذ القرارات والمشاركة في الحياة السيّاسية لأنهم يرون أنفسهم من قامُوا بالثورة، لذلك سعوا إلى تقرير مصيرهم بأنفسهم حتى يتسنّى لهم وحدهم أنّ يختاروا من يمثلهم ومن يحكمهم ومن يسعى إلى »تكريس مبدأ سيادة الشعب« فوق كلّ اعتبار، حتّى نقطع نهائيا مع الديكتاتورية وتحقيق الانتقال الديمقراطي وقيام الدّولة الديمقراطية القائمة على »حكم الشعب للشعب بالشعب«. اذا، هذه مقتضيات المرحلة الراهنة كما نراها وهذه أيضا المطالب ذات الأولوية المطلقة التي وجب الاعتراف بها قبل الاعتراف »القانوني« بالجمعيات والاحزاب البارزة في ظلّ غياب الشرعية القانونية لكلّ إدارات ومؤسسات الدولة. لذلك، فإنّ تطرقنا إلى مثل هذه المفارقات اليوم لا يعني البتّة أننا ضدّ الاعتراف بهذه الحركات والاحزاب بل ان هنالك مطالب ظرفية ومرحلية أراها ذات أولوية، إذ يجب الاعتراف أوّلاً بالشعب وما قدّمه، وثانيابالمطالب الشعبية، وثالثًا بمواصلة الطريق للقضاء على الديكتاتورية، ورابعًا بتشكيل حكومة مؤقتة، وخامسًا بانتخاب مجلس تأسيسي ودستور جديد للبلاد ونظام برلماني يقطع مع النظام القائم على الحكم الفردي التي جعلت من علاقة الشعب بالرّئيس قائمة على أساس علاقة قطعان بسيِّد حتى صار السيّد »آلهة« والشعب عبيدًا، لذلك يجب القطع مع هذه »الصيغ« والمؤسسات الجامدة التي تحوّلت في ظل النظام السابق إلى جلاجل أسسّت لسجن البلاهة الذي حُشرت فيه كل الأصوات الحرّة ولجمت فيه الافواه أكثر من 23 سنة. من هنا إذا أردنا أن نقف على حقيقة الخلفية السياسية التي برزت من ورائها هذه الاحزاب والحركات التي اذا كان هدفها المشاركة في الحياة السياسية وحماية الثورة فعليها أن تضمّ أصواتها الى القوى السياسية الموحدة لحماية الثورة واستكمالها قبل ان تطالب بالتأشيرة لانّه في حقيقة الامر وبالمنطق الشعبي الدارج »إذا كثرت الرياس تغرق السفينة«، تحديدا في هذه المرحلة التي تعتبر الاهم والاخطر حيث وجب على كلّ المكوّنات باختلافها أن تتوحّد على حدّ أدنى سياسيّ وديمقراطي قائم على مواصلة النضال لتحقيق الانتقال الفعلي والديمقراطي وترك الاختلاف الفكري والايديولوجي جانبًا في هذه المرحلة بالذات، وتكون بذلك هذه الاحزاب والحركات قد كسبت الاعتراف السياسي والشعبي لأنّ الاعتراف حقيقةً لن يقف على حدود التأشيرة القانونية، بقدر ما يكون عبر المواقف التاريخية والسياسية التي تعبّر عن مشاغل الناس وهمومها مثلما نراه اليوم في بعض الأحزاب التي دفعت الضريبة باهضًا في ظلّ النظام السابق وهاهي اليوم تكسب اعترافها وشرعيتها التاريخية والشعبية لما تميّزت به من ثبات وراديكالية في مواقفها. ووقوفًا على حقيقة هذه المساءلة السياسية المتعلّقة بالوضع السياسي الرّاهن وما يقتضيه من آليات للعمل وأولويات في المطالب صار من الضرورة في هذه المرحلة التوحّد على قاعدة الوفاق السياسي بين كلّ القوى السياسية الحيّة حتّى لا يتسنّى لأولئك الذين يحاولون احتواء هذه الثورة لصالحهم والالتفاف على ما حققه الشعب التونسي من إنجازات تاريخية لصالحهم ومصالح أحزابهم الضيّقة التي لا تمت بأي صلة إلى مطالب الشعب وتطلعاته لذلك وجب التعامل مع هذه اللحظة التاريخية الحاسمة في اطار من الدقّة والوضوح حفاظًا على ثورة شعبنا الذي لا يُريد أن يسقط ديكتاتورية ليقع في ديكتاتورية أخرى إذ يجب البحث عن المقوّمات التي يُدافع عنها الجميع اعتمادًا على دعم الشعب والمتمثلة أساسًا في تأكيد مبدأ المواطنة والمساواة بين أفراد المجتمع وضمان الحريات الفردية والعامة وتكريس مبدأ السيادة الشعبية التي تجعل من الشعب المصدر الوحيد للشرعية. (جهاد وجّ: ماجستير فلسفة ونقابي وناشط حقوقي)